مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث يسجل أنه من الباحثين المغاربة المتميزين الذين انفتحوا على تاريخ البلاد الاجتماعي، فكانوا بدور وفضل في اغناء الخزانة التاريخية المغربية بأعمال علمية على درجة من القيمة المضافة، هناك الفقيد محمد الأمين البزاز رحمه الله الذي ارتبط اسمه بتاريخ الأوبئة والمجاعات، على أساس ما اشتغل عليه على امتداد ربع قرن تقريباً حول فترات أزمات وبائية وطبيعية عاشها المغرب. فكان بتأسيس وبحث وتنقيب وكتابة وسبق أيضاً، جعل ما راكمه من أعمال علمية في هذا الاطار مرجعاً لكل دارس وباحث يلج تاريخ مغرب ما قبل الاستعمار. والباحث محمد الأمين البزاز رحمه الله الذي توفي قبل ثمان سنوات هو ابن جبالة بشمال المغرب، عمل أستاذاً لتاريخ المغرب المعاصر منذ ثمانينات القرن الماضي بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط. ولعله من الباحثين المغاربة الذين أسسوا ورش تاريخ البلاد الاجتماعي وأثثوه من خلال ابرازهم لكثير من الجوانب التي كانت مغمورة فيه خاصة منها قضية الأوبئة والمجاعات. وقد توجت جهوده البحثية في هذا المجال بمؤلَّفين تاريخيين متميزين، وكان قد اشرف عليهما الاستاذ جرمان عياش الذي أعطى الكثير بدوره لتاريخ المغرب انتاجاً وتنقيباً وتنظيراً وتأطيراً لعقود من الزمن. وهاذان المؤلفان المتميزان حقيقة هما أولاً "المجلس الصحي من 1792 إلى 1829" وقد نال به دبلوم دراسات عليا في التاريخ، أما الثاني فهو الذي تمحور حول مجاعات وأوبئة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بالمغرب، وكان موضوع اطروحة قيمة نال بها الفقيد شهادة دكتوراه دولة نوقشت بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط في يونيو 1990.
والى جانب ما أسهم به محمد الأمين البزاز من مقالات علمية تخص تاريخ المغرب الاجتناعي بمنابر علمية محكمة عدة، خاصة منها مجلة دار النيابة التي كانت تصدر من طنجة ومجلة كلية الآداب بالرباط فضلاً عما نشر بمجلة المناهل وهيسبريس تامودا وغيرها. عمل رفقة عبد العزيز التمسماني خلوق رحمه الله على تعريب كتاب "دراسات في تاريخ المغرب" و" أصول حرب الريف" لأستاذهما جرمان عياش. ولعل أهم عمل علمي طبع مسار محمد الأمين البزاز وجعله بوقع في حقل البحث التاريخي بالمغرب وبموقع متميز ضمن جماعة المؤرخين والباحثين المغارية، كان هو مؤلف تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وقد صدر في طبعة أولى بداية تسعينات القرن الماضي ضمن منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط. وانسجاماً مع ظرفية استثنائية صعبة تمر بها بلادنا ومعها العالم أجمع إثر وباء كورونا، وتنويراً لقراء مهتمين بما عاشه المغرب من أزمات وبائية وطبيعية في الماضي، وما تراكم في هذا الاطار من مادة تاريخية علمية ومن توثيق وكتابات مغربية. ارتأينا بعض الضوء بمختصر وتركيز شديدين حول عمل محمد الأمين البزاز، الذي شكل ولا يزال عملاً ومرجعاً بقيمة مضافة هامة يصعب القفز عليها في هذا المجال، وقال تعالى"فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ". ويذكر جرمان عياش في تقديم لمؤلف "المجاعات والأوبئة بالمغرب.." أن معرفته بمحمد الأمين البزاز منذ فترة وخاصة أثناء سنوات الطلب بكلية الآداب بالرباط، سمحت له باكتشاف خصال جعلت من هذا الأخير مؤرخاً مرموقاً، بالنظر لِما تميز به من نهج بحث جمع بين اطلاع وتأني في التنقيب عن الوثائق وفهمها بشكل دقيق، كذا من حرص في إدراج الأحداث في اطارها الزمني مع اهتمام بتقصي الأسباب وتحليل انعكاساتها. مشيراً لما كان له من فضل في تأسيس مجلة "دار النيابة" رفقة زميله عبد العزيز التمسماني خلوق، المجلة التي كانت تنفد اعدادها بجرد خروجها الى السوق لما كانت تحتويه مادة تاريخية. وحول مؤلف محمد الأمين البزاز "الأوبئة والمجاعات.." باعتبارها أطروحة جامعية، أورد جرمان عياش أنها نتاج جهد علمي كبير انكب فيه الباحث لإبراز ما عاشته البلاد وما تعاقب عليها من ازمات خلال هذه الفترة مستحضراً أصولها وبداياتها وتأثيراتها ونهاياتها. موكداً أن الأوبئة والمجاعات كانت من قضايا تاريخ المغرب المغمورة ولفترة طويلة علما أنها عنصراً هاما ومحورياً لفهم تاريخه، وأن محمد الأمين البزاز أبرز ما كانت عليه البلاد في هذا الاطار وما كانت عليه الدولة من دور في التخفيف من وقع جوائحها خلافاً لِما ورد لدى مؤلفين أجانب. ويذكر محمد الأمين البزاز في مقدمة مؤلفه هذا، أن الاخباريين المغاربة كانوا أكثر اهتماماً بما هو وقائعي سياسي في مؤلفاتهم مع عناية بمراكز البلاد دون هوامشها، وبفترات ازدهار وليس التي كان فيها المغرب يعيش أزمات باستثناء نتف اشارات هنا وهناك مروا عليها مرور كرام. وهو ما يجعل منها قضايا مجتمع هامة جديرة ببحث ودراسة والتفات من قبل باحثين ومؤرخين، علماً أن الأوبئة والمجاعات وغيرها من الآفات الاجتماعية ظواهر ملأت سجل تاريخ البلاد، مشكلة بذلك محطات بارزة بالنظر لِما خلفته وترتب عنها من خراب بليغ ونزيف بشري كان على درجة من الأثر والتأثير والقساوة، بدليل ما ورد حولها في مصادر تاريخية مغربية لمعاصرين. وقد توزع مؤلف "الأوبئة والمجاعات بالمغرب خلال القرنين الثامن والتاسع عشر" على أبواب ثلاثة، تمحور الأول منها حول المغرب بين مجاعة وطاعون وحروب أهلية في الفترة ما بين 1721 و1826، اضافة لمدخل خاص بهذا الباب قسمه محمد الأمين البزاز لثلاث فصول تعرض فيها لكوارث فترة المولى اسماعيل وما تلاحق على عهد خلفائه متزامناً مع حروب أهلية، ثم لِما طبع زمن المولى محمد بن عبد الله من مجاعة كانت بأثر معبر في تقليص مداخيل المخزن. فضلاً عما جاء به حول طاعونين جارفين الأول في الفترة ما بين 1798- 1800 والثاني ما بين 1818- 1820 وما حصل من مجاعة قاسية سنتي 1825 و1826، والتي كانت جميعها بنزيف ديمغرافي كبير أثر على البلاد والعباد. أما باب المؤلَّف الثاني الذي عنونه محمد الأمين البزاز ب" المغرب بين التسرب الأروبي والكوليرا والمجاعة"، فقد تقاسمته فصول تناول فيها قطيعة التوازن الاجتماعي والاقتصادي من خلال رصد أثار التسرب الأروبي على البلاد، فضلاً عما تحدث عنه حول سلسلة كوارث طبيعة ضمن دورات ضربت البلاد منذ بداية ثلاثينات القرن التاسع عشر الى غاية أواسط التسعينات منه. ليبقى ثالث أبواب هذا العمل العلمي وقد خصصه لردود فعل السكان وتدخل المخزن في تقديم وتنظيم المساعدة للمنكوبين، وِلما كان هناك إثر ما حصل من خوف هلع وهواجس من رأي للفقهاء حول ما وقع من أوبئة وحجر صحي. اطلالة على مؤلف تاريخي هام لمحمد الأمين البزاز، تدفعنا للاشارة الى أن تاريخ بلادنا الاجتماعي ظل محدوداً إن لم نقل مغيباً في اهتمامات مؤرخينا وباحثينا الى غاية ثمانينات القرن الماضي. علماً أن ما يعرف بتاريخ الذهنيات وما كان عليه من قضايا ذات صلة منذ نشأته، تأثث منذ الحرب العالمية الأولى لدى مؤرخين أروبيين كما الفرنسيين "لوسيان فافر" و"مارك بلوخ" والبلجيكي "هنري بيران" فضلاً عن جغرافيين وعلماء اجتماع. تلك التي أوحت كمجموعة بحوليات تاريخ اقتصادي واجتماعي أو ما يعرف ب"مدرسة الحوليات" 1929، التي أقرت بحقل آخر للتاريخ غير الذي كان محصوراً فيه من قبل، ولعله تاريخ أفعال واعية وارادية ونشر أفكار وسلوك بشري وسير أحداث وفق ما ورد عند "أندري بورغيار" المختص في تاريخ العلوم الاجتماعية. مضيفاً أن هذا ما دفع مؤسسي "الحوليات" لانفتاح المؤرخين على البنى الاجتماعية الاقتصادية، والسعي من أجل تناول تاريخ المجتمعات في أغوار أعماقه. وكان رواد "الحوليات" الفرنسية بدور في وضع أسس دراسة الأوبئة لدرجة سبقهم، فحول ما نعت بالتاريخ الطبيعي للأوبئة والأمراض وردت فرضية تاريخ مستقل أو تاريخ بيولوجي صرف للأمراض المعدية. أي أنه في حالة تفشي أي وباء بعنف في فترة من الفترات التاريخية ثم ضعف بعد ذلك، فهذا لا يعني أن الناس تغلبوا عليه انما حدث ذلك نتيجة حلول جرثومة أخرى محله. وكما يوجد تاريخ طبيعي للمناخ ورد أنه من العبث نفي وجود امكانية تاريخ طبيعي للأوبئة، واعادة تركيب ظاهرة وبائية هي تحليل لطريقة مجابهة تنظيم مجتمع ما ونماذجه الثقافية لعوائق الوسط الطبيعي، وهي أيضاً ابراز لرهان اجتماعي ولأشكال علاقات بالجسم تلك التي تعبر عنها كل فترة تاريخية من خلال السلوك البيولوجي. وعليه لم يكن تاريخ الذهنيات إلا وجهاً من التاريخ الاجتماعي الذي كان متعارضاً كلياً مع ما هو تاريخ سياسي وقائعي. ليبقى مقابل من برز من الباحثين والمؤرخين الأروبيين في هذا الاطار بعد الحرب العالمية الثانية مثل "جون بيير بيتر" و"باطريس بورلولي" و"كريستيان جيوري" وغيرهم، نجد الفقيد محمد الأمين البزاز بالمغرب من خلال عمله المتميز "الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين الثامن والتاسع عشر"، الذي تناول فيه ما تعرضت له البلاد من جوائح قاسية وما عانى منه المغاربة خلال هذه الفترة الدقيقة من فتك ونزيف كان بأثر كبير على المعيش والمستقر. وقد شكلت خلاصة عمل محمد الأمين البزاز جملة اشارات بمثابة مسالك لأبحاث ودراسات ذات صلة، ولعلها اشارات ذات علاقة بمشكلة تخلف عانى منها المغرب ولا يزال، معتبراً اياها صيرورة تاريخية على قدر من التعقيد حيث تداخل الأسباب وتشابكها، لدرجة يصعب معه عزل عامل من العوامل أو سبب من الأسباب واعتباره مسؤولاً. مشيراً الى أن الأزمات الاجتماعية مثلما عاشته البلاد من أوبئة ومجاعات وجفاف..، كانت من بين خوانق درب التنمية التي لم تسمح لمغرب الأمس بظروف مناسبة للإقلاع.