يكاد خبر الإنتحارات يصبح عاديا في وسائل الإعلام، خاصة بمنطقة تطوان التي شهدت في الآونة الأخيرة تزايدا مهولا في عدد الإنتحارات ومحاولات الإنتحار، التي ينفذها أشخاص من مختلف الأعمار والمستويات العلمية والمهنية، فالأمر لا يقتصر فقط على بعض المدمنين أو بعض المختلين، لكن أيضا بعض الأشخاص المستقرين نفسيا، لكن يبدو ان المشاكل التي تواجههم تجدهم ضعافا أمامها مما يدفعهم للإنتحار ، ناهيك عن المشاكل الإجتماعية وغياب العلاج النفسي الذي يفر منه الكثيرون، كل ذلك كان وراء موجة من الأخبار السيئة التي تنقل كل يوم عن انتحارات هنا وهناك دون ان يكون اهتمام بالظاهرة او محاولة لفهم ما يحدث.. وتكتفي السلطات باعتبار المنتحر مختلا أو يعاني اضطرابات نفسية... كاد الأمر يصبح عاديا أو يعتاد عليه من يسمع به، لكن أسئلة كيف ولماذا تبقى مطروحة دائمة، الأمر لا يتعلق بأساسيات الخبر الصحفي، بل بأسئلة أصبحت تشغل الرأي العام والأسر بشكل خاص ببعض مدن الشمال، وهي قضية الإنتحارات المتتالية التي لا تترك كبيرا أو صغيرا عاقلا أو مضطربا نفسيا. السنة لم تكتمل بعد وعدد الإنتحارات التي عرفتها تطوان وشفشاون ووزان، تتعدى كل التكهنات والإحصاءات والأرقام المعتادة، لكن الأمر لا يتعلق هنا فقط بمن انتحر، ولكن أيضا بكيف ولماذا هذه الإنتحارات بمختلف الأشكال؟ فأن تسمع عن خبر انتحار شخص ما، فذاك يكون عاديا حتى و إن تقبله الرأي العام المحلي ببعض الأسئلة الاستفسارية حول أسباب الانتحار هذا، لكن ما ليس عاديا و يثير الانتباه و التساؤل بشكل مقلق، هو أن تتردد على الساكنة في كل مرة خبر عن حالة انتحار جديدة، حيث الأعداد المتزايدة لحالات الانتحار التي يقدم عليها أشخاص يقررون في ظروف خاصة بهم، وضع حد لحياتهم بأنفسهم. المصالح المختصة والسلطات غالبا ما تستبق الأمور وتقرر منذ الوهلة الأولى أن الأمر يتعلق بمختل أو مضطرب نفسيا، لتفادي كل الأسئلة او حتى المسؤولية التي يمكن ان تتحملها. قد يكون أي منتحر فعلا مختلا نفسيا، لكنهم ليسوا كلهم يعانون خللا دائما ، لكنها لحظة غضب عارم في الغالب، تلك التي تدفع بالبعض للقيام بذلك، يقول مصدر طبي مختص، وهو يفصل بين تلك الحالات المعروفة بالمنطقة والمرتبطة بتعاطي المخدرات وبعض أنواع الأقراص المهلوسة، لكن الامور تصبح أصعب وأكثر درامية عندما يتعلق الأمر بأب أو أم لهما أبناء، ويكون السبب في الغالب ظروفا عائلية لا علاقة لها لا بالخلل ولا بالإضطرابات النفسية. عدد هذا النوع الاخير في تزايد مستمر ولا يفرق بين كبير وصغير، فالإندفاع نحو الإنتحار اصبح الحل الأول بالنسبة للكثيرين، وليس الخيار الأخير الذي يمكن ان يكون بعد انسداد كل الأبواب، بل إن الضغوطات اليومية أصبحت تجعل الإنتحار وسيلة سهلة للفرار من أي مشكل، وفق نفس المصدر الطبي. انتحارات كثيرة تلك التي عرفتها منطقة تطوان خلال هاته السنة، بعض المصادر قالت إنه رقم قياسي غير مسبوق، لا من حيث الكم وحتى النوع. بعض الشبان كان انتحارهم منتظرا بفعل الأمراض العقلية التي تعتريهم، والتي تجعل الإقدام على الإنتحار لبعضهم جزءا من المرض، لكنْ هناك آخرون لا تعرف لحد الساعة الأسباب الحقيقية لانتحاراتهم تلك، فالشرطة تتنفس الصعداء حينما ترى أن الأمور تسير في الغالب تجاه كونها انتحارا وليس جريمة قتل، ليطوى الملف سريعا وتغلق القضية. مقابل ذلك لا يتم النظر لما خلفته تلك الإنتحارات وراءها من ضحايا، إما أم مكلومة أو أبناء يتامى وحتى نساء أرامل، هؤلاء الذين تصبح نظرة المجتمع لهم مختلفة، فيما نفسيتهم لا يعلم بها إلا باريهم دون ان يجدوا أي دعم نفسي، يشرح لهم ما حدث لقريبهم أو أعز الناس لهم. فجر يوم عيد الأضحى عاش حي الحمامة» بتطوان على إيقاع انتحار أستاذة، سيدة في ريعان العمر لها أطفال صغار، استعدت معهم ليلة العيد لكل شيء ولم يعد يفصلها عن الصباح سوى وقت قصير لتلبس أطفالها ما اشترته لهم، ولتبدأ طقوس الذبح والسلخ وغيرها. لكن للأسف لن يكتب لهاته الأم ان ترى ضوء ذلك النهار، فقد ارتمت السيدة من الطابق السادس للعمارة التي تقطن بها، لتلقى حتفها في حينه وليكتسي الحي كله وشاح السواد والحزن، فيما سجلت القضية كانتحار وانتهى الموضوع. ليبقى سرها معها وسبب ارتماءتها تلك من ذلك العلو وفي تلك المناسبة، تاركة خلفها «ملائكة» صغارا، سرا او على الأقل خبرا غير مكتمل، فالأمر توقف عند حدود مشاكل عائلية. انتحار أستاذة مفترض فيها نوع كبير من التوازن النفسي، وتحيى حياة شبه هنية مع أسرتها الصغيرة، وفي منزل لايزال حديثا بعمارة جديدة، كل ذلك يجعل انتحار المعنية يطرح الكثير من التساؤلات عن هاته الظاهرة التي اصبحت هي الحل الوحيد بالنسبة للكثيرين. قضية لا تختلف كثيرا عما قامت به الطبيبة الصيدلانية بشارع الجيش الملكي، حينما تركت فلذة كبدها لدى حارس العمارة التي تقطنها، وصعدت للطابق الثامن حيث تقطن لترتمي من هناك في عز النهار، ليجد الحارس وبين يديه الطفل الأم تسقط جثة هامدة امامه، بفعل السقطة القوية مباشرة على رأسها. الأمر هنا لا يتعلق بمتشرد او شاب متمرد، طبيبة صيدلانية متزوجة بطبيب اختصاصي، تعيش حياة مستقرة لسنوات، لكنها منذ ولادة مولودها الأول بدا انها تعيش فترة تشاؤم واكتئاب، جعلها تشك في زوجها، أو جعلها البعض بأخبارهم المختلفة تشك فيه، وبدل التأكد او البحث عن حل للمشكل، اختارت الطريق الأقصر وارتمت من شرفة شقتها العالية، وهي تترك وليدها في يد الحارس، قمة الشجاعة و»الزعامة» يقول أحدهم، فلماذا لم يكن تواجد الطفل رادعا للطبيبة، وتواجد أطفال صغار رادعا للأم الأستاذة التي ارتمت؟ تزايد عدد الضحايا نتيجة هاته الظاهرة ربما ليس واحدا من اهتمام المصالح المختصة، ولا حتى الجمعيات والمنظمات غير الحكومية، فهي فعلا ظاهرة غير مضبوطة ولا يمكن القيام بخصوصها بحملات استباقية، يقول مصدر طبي، لكن يمكن القيام بمحاولات لتجنبها او توعية المواطنين بها، وإظهار مخلفاتها ونتائجها الوخيمة على من سيبقى حيا خلفهم. ما هي وضعية أبناء الأستاذة المنتحرة اليوم وغدا؟ يتساءل أحدهم، فيما يرى الطب النفسي أنهم قد يختارون نفس الطريق مع أي هزة تصادفهم في حياتهم، فسيصبحون غير مقبولين، وسيكون انتحار والدتهم أشبه بوصمة عار على جبينهم يعايرون به، ويسألون عنه ولا يجدون له جوابا شافيا ولا مقنعا. الإنتحارات لم تتوقف عند هاته الحدود بالمنطقة، فآخر المنتحرين شاب في ربيع العمر، اختار ظهيرة يوم الأحد قبل المنصرم، ليضع حدا لحياته بشنق نفسه معلقا لجدع شجرة، الشاب خطط ودبر للعملية، فأحضر معه حبلا واختار الشجرة التي يريد ان يعلق عليها، لم يكن مضطربا نفسيا ولا يتلقى علاجا في «ماريوكا»، لكن مشاكل اجتماعية ونقاشاته الدائمة مع أمه التي تدعوه للبحث عن عمل كانت وراء وضع حد لحياته بتلك الطريقة، فترك في جيبه ورقة كتب عليها «سامحيني يا أمي لن ازعجك بعد اليوم»، قمة في الدراما والحزن ما خلفته رسالة الشاب لدى الجميع ولدى افراد الأسرة بالذات.. فمن المسؤول عن هذا النوع من الإنتحارات؟ مشهد يقطع القلب كما يقال، وكان الأجدر بدراسة حقيقية لمعرفة السبب وراء ما حدث، وهو انتحار طفلة في العاشرة من عمرها، لحظات بعد عودتها من المدرسة بحي السواني بتطوان، حينما شنقت نفسها وقد تركت بدورها رسالة لوالديها تطلب منهما السماح لها، «سامحني أبي، سامحيني أمي» . هكذا كتبت في ورقتها بخطها الذي كانت للتو تتقن بعض تفاصيله. الشرطة القضائية أكدت أنها عملية انتحار وأن الطفلة لا تعاني أي مشكل ولم تتعرض لاعتداء، وانتهى الأمر هنا كما تنتهي كل القضايا لمماثلة. لكن لم يطرح أحد سؤال السبب الحقيقي، هل كانت الطفلة تعتقد انها تصور مشهدا من مسلسل أو فيلم شاهدته على قناة من قنواتنا «البئيسة»، أم أنها كانت تريد أن تقدم لفت انتباه فقط وتدفع الوالدين للإهتمام بها؟ فعلا الجواب هو واحد من السؤالين المطروحين، لكن لا أحد يطرح هذا السؤال ولا يبحث عن الجواب..