تتعدد الجاليات العربية والإسلامية في المجال الأوربي، من ضمنها الجالية المغربية التي تتوزع بدرجات متفاوتة في معظم بلدان القارة الأوربية، وهي جاليات حاملة لهويات وعقليات وثقافات وأنماط عيش مختلفة، تتعايش في واقع أوربي حامل لمرجعيات مختلفة، يولد هاجسين متباينين، هاجس "أول" يسكن الجاليات المقيمة فوق التراب الأوربي فيما يتعلق بالاندماج في بلدان الإقامة دون فقدان الخصوصيات المحلية، وهاجس "ثاني" يراود أصحاب القرار السياسي، يرتبط بسبل تدبير شؤون هذه الجاليات الأجنبية وتيسير مسالك اندماجها الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والسياسي، وفي نفس الآن، تحصينها من أية ثقافة حاملة لمفردات "العنف" و"الكراهية" و"التطرف" المفضي إلى منزلقات الإرهاب والجريمة العابرة للحدود. وفي هذا الصدد، انخرطت مجموعة من البلدان الأوربية في تأطير الشأن الديني للجاليات الإسلامية، عبر تبني مقاربات متعددة الزوايا، من ضمنها الاهتمام بتدريس مادة "التربية الإسلامية" وجعلها في صلب السياسات التعليمية ذات الصلة بأبناء الجاليات العربية والإسلامية، وعليه، نفتح زاوية عبر هذا المقال، لتسليط الضوء على تدريس مادة التربية الإسلامية بألمانيا التي تتعايش فيها جاليات عربية وإسلامية من مختلف أنحاء العالم، مما يجعل "المعتقد الديني" لهذه الجاليات، تحت مجهر الحكومة الاتحادية الألمانية والحكومات المحلية، في ظل التحديات التي تواجه بلدان الاتحاد الأوربي عموما، والمرتبطة أساسا بالهجرة واللجوء والإرهاب والجريمة العابرة للحدود. دليلنا ومصدر معلوماتنا، هو الأستاذ المغربي "حميد دمشقي " المقيم بالديار الألمانية منذ ما يزيد عن العشرين سنة، الحامل لإجازة في "العلوم القانونية" تخصص علوم سياسية من جامعة محمد الخامس أكدال بالرباط، و"دبلوم في اللغة الألمانية" من المركز اللغوي الألماني بالرباط، وهذه المؤهلات العلمية، تعززت بإجراء ثمان (08) دورات تكوينية في العلوم السياسية بالجامعة "الفورزبورغية" (نسبة إلى مدينة "فورزبورغ") بألمانيا وشهادة "DSH " من نفس الجامعة (شهادة تخول إتمام الدراسة بالجامعة الألمانية، وتدريس اللغة الألمانية)، بالإضافة إلى شهادة "التكوين البيداغوجي" من أكاديمية " Dillingen" (في طور التكوين)، والذي يشتغل حاليا أستاذا لمادة التربية الإسلامية بمدينة "فورزبورغ" ( Wurzburg) بألمانيا وبعدد من المدارس التابعة لحكومة "الانتغفرنكن" المحلية (Die Regierung von Unterfranken) و لمادة اللغة الألمانية بمدرسته الأساسية ) monchbergschule) بنفس المدينة. تفاعلا مع سؤال موجه إليه بخصوص التعريف ببرنامج تدريس مادة التربية الإسلامية المعتمد من قبل الحكومة المحلية (الانتغفرنكن)، فقد أوضح الأستاذ "حميد دمشقي" أن الحكومة المحلية، على غرار باقي الحكومات المحلية الألمانية، وضعت برنامجا لتدريس مادة التربية الإسلامية لفائدة أبناء الجاليات العربية والإسلامية، تم تنزيله عبر عدد من الوحدات الدراسية (دروس) تتدرج من الابتدائي إلى الإعدادي، تم اقتراحها من طرف أساتذة المادة بمختلف المدارس التي تدخل ضمن الاختصاص الترابي للحكومة المحلية، وتمت معالجتها من طرف دكاترة يدرسون بجامعة "نيرنبيرغ" والمصادقة عليها من طرف الحكومة "الباييرية" في "الباييرن" بصفتها المشرفة على البرنامج ككل، موضحا في هذا الصدد، أن أساتذة مادة التربية الإسلامية المنخرطين في هذا البرنامج التعليمي، يمارسون مهامهم تحت إشراف وتوجيه الدكتور "طارق بدوية" ذو الأصل الفلسطيني والمدرس الحالي للدراسات الإسلامية بالجامعة "النيرنبيرغية"، الذي يتولى إحاطة الأطر التربوية بجديد النظام البيداغوجي، مؤكدا أن الأستاذ الجامعي المذكور، يعد واحدا من المناضلين والمدافعين عن فكرة تعميم واستمرارية تدريس الدين الإسلامي بمختلف المؤسسات التعليمية المتواجدة بمجال نفوذ الحكومة المحلية. وبخصوص طبيعة الجاليات التي تستفيد من هذا البرنامج وطبيعة المواد المدرسة، فقد أوضح الأستاذ المغربي أن البرنامج يستفيد منه أبناء الجاليات العربية والإسلامية من جنسيات مختلفة ينحدرون من بلدان مثل كوسوفو وتركيا وألمانيا والبوسنة والصومال وباكستان وأفغانستان وليبيا والعراق وسوريا و روسيا ونيجيريا وتونس، وحول طبيعة المواد المعتمدة في هذا البرنامج، فقد أفاد الإطار المغربي، أن التلاميذ المنحدرين من أصول عربية وإسلامية، يتلقون دروسا ذات مضامين مختلفة تتباين حسب الأسلاك الدراسية، منها "أركان الإسلام" و"حياة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم" و"علاقة الإنسان بالآخر في الإسلام"، و"التشابه والاختلاف في الديانات الثلاث (الإسلام،المسيحية، اليهودية)" بالنسبة للتعليم الابتدائي، و"حياة الرسول صلى الله عليه وسلم" و"حياة الصحابة" و"قصص الأنبياء" و"الأديان الثلاثة" و"قيم ومبادئ الإنسان" بالنسبة للسلك الثانوي الإعدادي. وردا عن سؤال حول الأهداف التي تحكمت في وضع البرنامج، فقد أفاد -مخاطبنا- الأستاذ "حميد دمشقي"، أن البرنامج سطرت له أهداف ومقاصد متعددة المستويات، من ضمنها تعليم اللغة الألمانية لأبناء الجالية من التلاميذ وإشاعتها، ووضعهم أمام الصورة الحقيقية للإسلام الوسطي المعتدل، والرغبة في تيسير سبل اندماجها في منظومة المجتمع الألماني، والحرص على إشاعة ثقافة التسامح والتعايش السلمي بين الجاليات المقيمة فوق التراب الوطني بشكل يسمح بنبذ كل السلوكات والتصرفات ذات الصلة بالعنف أو الكراهية أو التطرف أو الإرهاب، وتفاعلا مع سؤال شخصي حول الإضافات التي قدمها ويقدمها له، الانخراط في التدريس بالتعليم الألماني، فقد أفاد الأستاذ المغربي، أن انخراطه في التعليم الألماني يتيح له فرص التواصل مع أعضاء الحكومة المحلية والتعرف على أصحاب القرار سواء السياسي أو التعليمي، وكل هذا يعزز اندماجه في المجتمع الألماني بدون قيد أو شرط.
وحول مستقبل هذا البرنامج، فقد أوضح أستاذ اللغة الألمانية والتربية الإسلامية ، أن برنامج تدريس التربية الإسلامية على صعيد الحكومة المحلية، قد تم اعتماده رسميا سنة 2009 ومن المرتقب أن تنتهي المدة المخصص له بتاريخ 31 يوليوز 2019، وقد أكد مخاطبنا، أن هناك نقاشات كثيرة على مستوى الحكومة المحلية للنظر في مستقبل البرنامج، مفيدا في ذات السياق أن مجهودات كبيرة تبدل من قبل أساتذة التربية الإسلامية من أجل ترسيم المادة وجعلها مادة أساسية كغيرها من المواد المدرسة في ألمانيا. الأستاذ "حميد دمشقي" إذن، هو وجه مشرق من أوجه الهجرة المغربية في بلدان المهجر، اقتحم عوالم التعليم الألماني بكل جرأة وشجاعة ، فاتحا -بمجهودات شخصية- مسالك الاندماج في المجتمع الألماني، ولم يتوقف حلمه عند كسب "رهان الاندماج الفعلي"، بل ويسعى بكل همة ونشاط إلى الإسهام في اندماج أبناء الجاليات العربية والإسلامية عبر مسلك"التربية الإسلامية" التي تتيح للأستاذ المغربي - بمعية زملائه مدرسي المادة- الإمكانية لتمرير مبادئ وقيم "الإسلام الوسطي المعتدل" للناشئة العربية الإسلامية" وفي نفس الآن إبقائها على تواصل متين بالدين الإسلامي، وتمكينها من ثقافة المحبة والتسامح والتعايش في المجتمع الألماني المتعدد الأعراق، وهو بذلك يخدم "الدين" ويساهم في تربية وتكوين أبناء الجالية العربية الإسلامية، بشكل يجعلهم متشبعين بقيم المحبة والتعايش والتسامح والقبول بالاختلاف، ومحصنين من الفكر المغذي للانغلاق والعنف والتعصب ونبذ الآخر. ويعكس في نفس الآن، نموذجا من بين نماذج كثيرة لمغاربة العالم، الذين حققوا ويحققون قصص نجاح في مجالات مختلفة ببلدان الإقامة، لكن قصة الأستاذ "حميد دمشقي" قد تختلف عن غيرها، لأنه اقتحم "الاندماج " من بابه الواسع، عبر "وظيفة " (التعليم) تتيح فرص الانخراط في المنظومة التعليمية الألمانية وتيسر التعرف على مناهج وبرامج التعليم الألماني وتسمح بالتواصل مع أصحاب القرار السياسي المحلي، وقبل هذا وذاك، الإسهام في تيسير عمليات "اندماج" أبناء الجالية في المجتمع الألماني.
تجدر الإشارة أخيرا، أن هذا المقال هو بمثابة "عين على مغاربة المهجر"، عبر رصد تجربة الأستاذ "حميد دمشقي" في التعليم الألماني بصفته أستاذا لمادتي اللغة الألمانية والتربية الإسلامية بعدد من المؤسسات التعليمية بألمانيا، وهي فرصة تسمح بفتح ملف "التأطير الديني" الذي يتلقاه أبناء الجالية المغربية عبر العالم، ومجال تدخل الدولة (الوزارة الوصية) في هذا التأطير، كما تفتح باب "التربية الوطنية" لجالية لامناص من تأطيرها "دينيا" و"وطنيا" من أجل تمكينها من اندماج "واع" و"مسؤول" داخل بلدان المهجر، وفي نفس الآن، الإسهام في ارتباطها بالقيم والتوابث الوطنية خدمة لقضايا الوطن بالخارج، مع الإشارة، إلى ضرورة تعزيز آليات التواصل مع الكفاءات والخبرات المغربية بالخارج، خاصة تلك التي تنشط في الحقل التعليمي، من أجل تتبع ومواكبة عملها واستثمار تجاربها وخبراتها في تطوير الممارسة التعليمية الوطنية والارتقاء بها.
-كاتب رأي، أستاذ التاريخ والجغرافيا بالسلك التأهيلي بالمحمدية، باحث في القانون،مهتم بقضايا التربية والتكوين. [email protected]