تمهيد رحل الاستعمار وقسم البلاد جغرافيا :أجزاء بقيت تحت حكمه: شمالا (سبتة ومليلية ) وشرقا (أراضي احتفظت بها الجارة بعد استقلالها)، وغربا (منطقة إفني) ، وجنوبا ( الصحراء) . وقسم البلاد اقتصاديا فجعل منها مغربا نافعا (محاور فاس/ مكناس/القنيطرة/الرباط/ الدارالبيضاء/ مراكش /أكدير ) ، ومغربا غير نافع ( باقي أجزاء البلاد النائية ) ، وحتى بالمغرب النافع اقتصرت جهود الاستعمار فيه على تجهيزات متواضعة ومرافق إدارية وعسكرية ومؤسسات للزيادة من التحكم في البلاد واستنزاف الخيرات واستعمال الأيدي الرخيصة وتجنيد الجنود. وقسم البلاد ثقافيا لطمس هوية المواطنين والتفريق بينهم عن طريق الظهير البربري ( عرب وأمازيغ ) وتهميش اللغة العربية وإشعاع ثقافته ولغته وقيمه . كان الهدف بعد رحيل الاستعمار هو إخراج البلاد من أوضاعها المتأزمة الاقتصادية الاجتماعية والثقافية ، فطرح ذلك إشكالية خيار النظام السياسي وتكوين حكومة وطنية لتدبير شؤون البلاد وإعداد برامجها التنموية وتنفيذها ، ولكن القوى الوطنية المقاومة للاستعمار تصارعت فيما بينها ، ثم حسم القصر هذا الأمر وأنزل دستور 1962 ليجعل الملك يستأثر بجميع صلاحيات الحكم العسكري والمدني والاقتصادي والاجتماعي والديني . وهكذا أسفر هذا الدستور ( ودساتير أخرى بعده ) عن " خيار " نظام سياسي وتداعيات حكم شبه فردي و تغييب القوى الوطنية للمشاركة في تقرير المستقبل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للبلاد . كانت هناك بدائل أخرى لهذا " الخيار " إلا أن البعض (وخصوصا الموالين للنظام ) رأوا أن ذلك هو الحل الأنسب لتجنيب المغرب انقلابات عسكرية ( عرفتها دول بالشروق الأوسط وأمريكا الجنوبية ) ، مقابل ذلك رأى المعارضون ، أنه كان يجب دمقرطة الشأن السياسي وإشراك القوى الوطنية في الحكم وتدبير الشأن العام ، وهو ما ظل عليه الخلاف خلال العقود الموالية . طرح هذا الخيار السياسي أيضا إشكالية الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وبرامجها ، فبعد الاستقلال تم العمل بمخططي 1958/1959 و1960/1964 أعطيت فيهما الأولوية للفلاحة والتعليم وتكوين الأطر والصناعة ، إلا أن النتائج كانت غير مرضية ولم تتحسن الأوضاع ، ووصل عدد العاطلين عن العمل إلى مئات الآلاف ، وعرفت مختلف مناطق البلاد انتفاضات شعبية واجهتها السلطات وقوات الجيش والأمن بكثير من الشدة والحزم. نظرا لهذه الأوضاع المتردية ، وعملا بنصيحة هيئات التمويل الدولية ، وبمقتضى صلاحيات الدستور، أعلن الملك الراحل تنزيل المخطط الثلاثي1965/1967 وإعطاء الأسبقية للسياحة وتحويلها إلى قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية اقتداء بدول أوربية متوسطية قريبة، وجاء في خطبة العرش بهذه المناسبة :" أولينا وافر الاهتمام أيضا للسياحة التي حظيت بالأسبقية في المخطط الثلاثي لما يترتب عن وفادة السياح بأعداد وفيرة على بلادنا من انتعاش في كثير من الصناعات والمرافق وتشغيل اليد العاملة وتوفير العملة الصعبة وازدياد تعرف الناس في الخارج على مظاهر شتى من حضارتنا وصنوف من عاداتنا وتقاليدنا"[1]. طرح هذا " الخيار" التنموي إشكالية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في البلاد وبرامجها جدلية السياحة كعامل للتنمية، واعتبرت المعارضة أن المخطط السياحي 65/67 أعطى الأولوية للسياحة على حساب قطاع الصناعة ، وأن هذا المخطط هو " رجعي " أملته هيئات التمويل الدولية والرأسمالية الغربية. سطر هذا المخطط السياحي المحاور الرئيسية لمستقبل سياسة التنمية السياحية ، وتواصل العمل بعد ذلك بمخططات شبيهة ثنائية وثلاثية وخماسية، وطرح رهان النهوض بالسياحة أيضا إشكالية تحديات استغلال المؤهلات السياحية وتكاليفها الباهظة المتمثلة في توفير التجهيزات المناسبة كالمطارات والموانئ والطرق وتشجيع استثمارات القطاع الخاص لإنشاء المحطات والمؤسسات الإيوائية والمرافق الترفيهية ، والترفيهية وتكوين الأطر، وتسويق المنتوج السياحي بالأسواق الدولية لجلب السياح. كانت هذه التحديات كبيرة بالنسبة لدولة فقيرة حديثة العهد بالاستقلال لا تمتلك تجهيزات ولا منشآت سياحية مناسبة ولا أطر لها الكفاءة الضرورية ، ولا تمويلات كافية ، وكان على القطاع العام أن يقوم بدور المنشط الأول للنهوض بهذا القطاع ، إلا أن خزينة الدولة لم تستطع الاستمرار في تحمل تكاليف تحديات النهوض بالسياحة لأسباب منها أهمية الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعرفها البلاد ، وأحداث سياسية خارجية وداخلية خلال عقد السبعينات [2]. ثم كان على السلطات العمومية أن تعمل ببرنامج التقويم الهيكلي لمالية الدولة فرضته هيئات التمويل الدولية عند نهاية هذا العقد. وهكذا وانطلاقا من مخطط 1978/1980 بدأ القطاع العمومي والشبه عمومي يقلصان دعمهما لقطاع السياحة عملا بسياسة التقشف المفروضة على الدولة ، ثم توقف دعم قطاع السياحة بعد ذلك عند العمل بمخطط المسار 1988/1982 عملا بالخطاب الملكي بالبرلمان خلال شهر أبريل 1989 الذي أعلن فيه عن توجه جديد لاقتصاد البلاد: أي التوقف عن دعم بعض القطاعات وخصخصة منشآت عمومية وشبه عمومية وتفويتها إلى القطاع الخاص . خلال عقد التسعينات ، وعملا بسياسة الخصخصة وإلغاء الامتيازات القانونية والمالية لفائدة المستثمرين ، عرف قطاع السياحة صعوبات مهمة أسفرت عن تراجع الاستثمارات السياحية والنشاط السياحي بصفة عامة ، وعرف الكثير من المهنيين السياحيين صعوبات في تدبير مؤسساتهم وأداء أقساط ديونهم[3]. وهكذا نرى أنه ، منذ الاستقلال إلى نهاية عقد التسعينات ،كانت هناك خيارات سياسية وتنموية وأخرى بديلة ، إلا أن الصلاحيات التي منحتها الدساتير للسلطات العمومية وتداعيات تدبير الشأن العام كان لهما دورا حاسما في تحديد وتنفيذ السياسة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للبلاد ، وتفسر هذه الصلاحيات أيضا ضعف تدبير الشأن العام وتداعياته على المواطنين ، وتحويل قطاع السياحة إلى أولوية وطنية وتنزيل مخططاتها وضعف برامجها ونتائجها وتداعياتها على مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية خلال فترة 1965 / 1967 ، وتفسر هذه كذلك قرار التوقف عن دعم السياحة وتفويت منشآتها الإيوائية إلى الخواص . *** *** *** خلال منتصف سنة 2000 ، ونظرا للانفراج السياسي الذي كانت تعرفه البلاد نتيجة مشاركة حكومة التوافق برئاسة أحزاب المعارضة سابقا في تدبير الشأن العام ، تقدمت الكونفدرالية العامة للمقاولات بالمغرب CGEM (الهيأة الممثلة للقطاع الخاص) وممثلو المهنيين السياحيين (الفدرالية الوطنية للسياحة FNT ) إلى الحكومة بمشروع رؤية 2010 يهدف إلى إقناع السلطات العودة إلى دعم قطاع السياحة وإعطائه الأسبقية للنهوض بالبلاد وليستفيد المهنيون السياحيون من ذلك للخروج من أزمتهم ، فوافقت الحكومة على هذا المشروع ، وخلال بداية سنة 2001 بمراكش، وبحضور الملك ، تم التوقيع على الاتفاق/ الإطار للعمل برؤية 2010 . وهكذا نرى أيضا أن الصلاحيات الدستورية لفائدة السلطات كانت حاضرة في هذا المشروع السياحي/التنموي كما كان الأمر كذلك من قبل بالنسبة للمخطط الثلاثي خلال منتصف عقد الستينات والمخططات الموالية، فقد كان الخطاب الملكي بمراكش ، عند التوقيع على البرنامج/ العملي لهذه الرؤية ، الحدث المؤسس للسياسة السياحية الجديدة في نظر السلطات العمومية وممثلي القطاع الخاص. تضمن هذا البرنامج العملي لهذه الرؤية فقرات من الخطاب الملكي تحولت إلى بنود إلزامية تصدرت فقرات مشاريع هذا البرنامج منها قول الملك " يسعدنا أن نلتقي بالمنعشين السياحيين اعتبارا منا للعناية الخاصة التي نوليها للقطاع السياحي في كسب الجهاد الاقتصادي والاجتماعي لخلق فرص الشغل وحرصا منا كذلك على رفع نسبة استقطاب السياح لتواكب المؤهلات السياحة الطبيعية والحضارية الهائلة لبلادنا ". كانت هناك خيارات وبدائل تنموية أخرى نظرا لتجارب دول صاعدة بآسيا وأمريكا الجنوبية، إلا أن السلطات العمومية ( بقيادة أحزاب المعارضة سابقا ) اعتبرت هي أيضا أن رؤية 2010 السياحية تؤسس لحدث سياسي جديد وفاتحة خير على المهنيين السياحيين وللبلاد ، كما هللت لهذا " الخيار" التنموي وسائل الإعلام والأحزاب الموالية وتم تنظيم لقاءات ومناظرات متواصلة حول السياحة ودورها للخروج بالبلاد من أزماتها . حددت رؤية 2010 أهداف تنموية واعدة، وتوقعت أن يتحول المغرب إلى أحد أهم الوجهات السياحية العشرين في العالم، وقطاع السياحة إلى قاطرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وأن يسفر ذلك عن محو المديونية، والقضاء على البطالة، ومضاعفة الدخل القومي. كما أن رعاية السلطة العليا للسياسة السياحية الجديدة والتزام الحكومة والقطاع الخاص وجمعيات المهنيين السياحيين بالعمل برؤية 2010 كانت توحي بأن السياحة ستتحول إلى رافعة للتنمية. *** *** *** خلال سنة 2011 وفي أعقاب العمل بهذه الرؤية، لم تتحسن الأوضاع كثيرا، وعرفت البلاد انتفاضات شعبية بمختلف المدن [4] (كما كان الشأن في بداية عقد الستينات )، مطالبة بتغيير الأوضاع وتحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين وإسقاط والفساد . لم تحقق رؤية 2010 إذن ما كان منتظر منها لأسباب منها سوء تدبير الشأن العام ، وضعف برامج الرؤية وعدم الالتزام بها [5]، ومع ذلك وقبل ثلاث سنوات من انتهاء العمل بهذه الرؤية ،كان على الحكومة والقطاع الخاص أن يقوموا بإعداد رؤية 2020 عملا بتوجيهات ملكية خلال شهر مارس سنة 2007 " لهذه الغاية فإننا نهيب بحكومة جلالتنا وبكل الفاعلين والمهنيين لفتح ورش رؤية 2020 للسياحة بالمغرب " ، وأيضا من خلال الرسالة الملكية إلى المشاركين بمناسبة المناظرة الوطنية التاسعة حول السياحة خلال شهر يونيو2009 تضمنت توجيهات وعليمات حول مضامين الرؤية الجديدة. جاء في هذه الرؤية أنه سيتم الاستفادة من دروس العمل برؤية 2010 وتجاوزها، وتحقيق بقية مشاريعها خلال المرحلة الأولى من العمل برؤية 2020 (2011 /2015) بما فيها المحطات الشاطئية للمخطط الأزرق ، فضلا عن انطلاق عمليات مشاريع برامج مخططات جهوية أخرى تهم منتجات وعروض سياحية إيكولوجية وثقافية وترفيهية ، والتكوين المهني السياحي ، وإحداث المجلس الوطني للسياحة وسلطة سياحية قوية للإشراف على تنفيذ أهدف الرؤية. كان من المتوقع ، من خلال مشاريع رؤية 2020، أن يتم رفع القدرة الاستيعابية في مجال الإيواء السياحي وعدد السياح إلى ضعفين ، وحجم السياحة الداخلية إلى ثلاثة أضعاف ، وانتقال عائدات العملة الصعبة سنويا من 55 مليار درهم سنة 2010 إلى 150 مليار درهم سنة 2020 وعدد العاملين والمستخدمين بالسياحة من 450 ألف سنة 2010 إلى 920 ألف سنة 2020 ، وأن يساهم ذلك كثيرا في تقدم البلاد والنهوض بها على غرار دول سياحية قريبة جنوب أوربا . وهكذا نرى أن القائمين على تدبير شأن هذا البلد أصروا مرة أخرى على مواصلة الرهان على السياحة من خلال العمل برؤية 2020 ، وإعطائها الأولوية كاستراتيجية تنموية (كما كان الأمر من قبل ) وطموح تحويل المغرب إلى إحدى أهم وجهات السياحة الشاطئية ، دون الأخذ بعين الاعتبار مبادئ وميثاق السياحة المستدامة ، ونتائج النشاط السياحي وتداعياته المتواصلة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والأخلاقية منذ الاستقلال . وهكذا جاء كتاب" التنمية السياحية بالمغرب : إشكاليات وتداعيات وبدائل " ليتناول تطور جانبا من الحياة السياسية وتدبير الشأن العام ودوره على حياة المواطنين ، وتنزيل وتنفيذ سياسة التنمية السياحية ومضامينها وبرامجها ونتائجها والانعكاسات والتداعيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية والأخلاقية لهذا الخيار التنموي خلال فترة 1956/2015 . ويطرح هذا الكتاب في النهاية ضرورة إعادة النظر في السياسة السياحية للبلاد ويقترح برامج بديلة للنهوض بهذا القطاع ، ويطرح مفهوم السياحة في الإسلام والسياحة الحديثة وقضية السياحة الكبرى بالنسبة لمجتمع مسلم كالمجتمع المغربي.
إسماعيل عمران [email protected] كتاب " السياسة السياحية بالمغرب : إشكاليات وتداعيات وبدائل " تاريخ الإصدار : فاتح مارس 2018
[1]:فقرة من خطاب الذكرى السادسة لعيد العرش لسنة 1966 [2] من هذه الأحداث: انقلابي 1971/1972، والحرب العربية/الإسرائيلية خلال سنة 1973 ، وارتفاع أثمان المحروقات ، وبعض الاضطرابات الداخلية ، والمسيرة الخضراء ونفقات الدعم العسكري ... [3]جاء كتاب" التنمية السياحية: واقع وأبعاد ورهانات" سنة 2004 لاطلاع القارئ على أهمية ظاهرة السياحة الحديثة ومفاهيمها ومجالاتها ونشأتها وتطورها وخصائصها ، ومؤسساتها الدولية، وأبعاد انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية ، ورهانات الدول السائرة في طريق النمو على النهوض بها، وليبرز المحاور الرئيسية للسياسة السياحية ومخططاتها وتطور النشاط السياحي وتحدياته وانعكاساته على مختلف مجالات حياة المجتمع المغربي خلال فترة 1956/2000. [4] منها حركة 20 فبراير. [5] جاء كتاب" التنمية السياحية بالمغرب: تطلعات وتحديات ومفارقات " للمؤلف سنة 2009 ليتابع مسار السياسة السياحية بالبلاد ( رؤية 2000/2010) ويعرض نصوصها التطبيقية ، ويتناول بالدرس والتحليل مدى نجاح هذه الرؤية والتزام السلطات العمومية والقطاع الخاص بها وليطرح إشكاليات الرهانات السياحية وتداعياتها .