ليس هناك، في المغرب، حزب سياسي عرف، خلال مساره، من الأزمات التنظيمية والسياسية ما عرفه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية؛ إذ يمكن القول بأن كل محطة من محطاته التنظيمية (المؤتمرات الوطنية)- وحتى في المحطات الوطنية التي تتطلب موقفا أو قرارا سياسيا مثل الاستفتاء على الدستور أو المشاركة في الانتخابات العامة أو المشاركة في تدبير الشأن العام...- كلها محطات تترك جراحات وتثير ردود أفعال، تنتهي، غالبا، إما بانشقاق يتولد عنه تنظيم سياسي جديد (أغلب الأحزاب المحسوبة على اليسار، باستثناء التقدم والاشتراكية والمنشقين عنه، خرجت من رحم الاتحاد)، وإما تؤدي إلى الابتعاد عن الحزب والاكتفاء بمراقبة الوضع من بعيد مع الحفاظ على نوع من الارتباط الوجداني به. وقد يصل الأمر بالبعض إلى الانخراط في حملات التشهير وتصفية الحسابات الشخصية مع القيادة أو مع بعض أعضائها. وتحتفظ ذاكرة الاتحاد، عبر مراحل متفرقة من تاريخه، بأسماء العديد من الطاقات الحزبية، الذين جمَّدوا نشاطهم السياسي وقصروا اهتمامهم على شؤونهم الخاصة؛ أو، بمعنى آخر، طلقوا العمل السياسي طلاقا بائنا بمبرر "ماكاين معا من" أو "ما بقى ما يدار". وتحتفظ الذاكرة الاتحادية، أيضا، بأسماء الذين اتخذوا من الاختلاف في الرأي حول هذا الموقف أو ذاك أو حول هذا القرار أو ذاك، ذريعة للبحث عن موقع متقدم في تنظيم آخر، أملا في تحقيق طموح شخصي، لم يستطيعوا تحقيقه داخل صفوف حزبهم الأصلي. ولإبراز حجم الخسارة التي تكبَّدها الاتحاد الاشتراكي في موارده البشرية، أسوق، في عجالة، المحطات الأساسية التي تميزت بأهمية تداعياتها السياسية والتنظيمية. ولتكن البداية من المؤتمر الاستثنائي؛ واستثناءا، مع شيء من التفصيل . لقد شكل المؤتمر الاستثنائي لسنة 1975 منعطفا حاسما في تاريخ الحزب وفي مساره النضالي. ففي هذا المؤتمر، تم، من جهة، تبني النضال الديمقراطي كخيار إستراتيجي وكوسيلة للتغيير وأداة لتحقيق المشروع المجتمعي الذي يطمح إليه الاتحاد؛ ومن جهة أخرى، تم تحديد الاشتراكية كهوية سياسية وإيديولوجية لحزب القوات الشعبية. وقد عكس شعار المؤتمر ("تحرير ديمقراطي اشتراكية") هذا التحول وأكده اسم الحزب الذي أصبح "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" بدل "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية". وإذا ما نظرنا إلى السياق الوطني والدولي لتلك المرحلة (مرحلة الحرب الباردة والتخندق الإيديولوجي)، فسوف ندرك أن اختيار النضال الديمقراطي وربطه بالاشتراكية لم يكن أمرا عاديا؛ إذ شكل تحولا فكريا وسياسيا ومنهجيا عميقا، عكسه شعار المؤتمر الذي ربط ربطا جدليا بين التحرير والديمقراطية والاشتراكية. فالشعار الذي اختاره الحزب لهذه المرحلة الدقيقة من تاريخه ومن تاريخ المغرب، يعني بكل وضوح أن لا اشتراكية بدون ديمقراطية، ولا ديمقراطية بدون تحرير الإنسان من القيود المختلفة (السياسية والثقافية والاجتماعية والسيكولوجية وغيرها) التي تكبله. ويمكن أن نعتبر هذا التحول ثمرة من ثمرات عملية تقييم مرحلة ما قبل 1975، التي تميزت، حزبيا، بنوع من غياب الوضوح الفكري والإيديولوجي والسياسي حول الوسيلة والغاية (أليس هذا نقدا ذاتيا صريحا؟). فدون أن يتنكر الحزب لماضيه ودون أن يتنصل من مسؤوليته تجاه ممارسات مناضليه، قرر مراجعة ذاته وتصويب تصوراته ومساراته، جاعلا من الاشتراكية والديمقراطية الوسيلة والغاية، من خلال ترابط جدلي وثيق، هدفه الأسمى، هو تحرير الإنسان. وبهذا الاختيار، تم الحسم مع الغموض ومع الجمود ومع الازدواجية؛ بحيث أنهت محطة المؤتمر الاستثنائي العلاقة مع المكون الحزبي المتطرف ومع المكون النقابي المتمثل في قيادة الاتحاد المغربي للشغل والتيار الحزبي المساند لها . فالمكون الحزبي المتطرف كان يورط الاتحاد في مواقف غير ناضجة سياسيا؛ الشيء الذي كانت له تبعات مكلفة جدا، سياسيا واجتماعيا... أما القيادة النقابية، التي كانت جزءا من الكتابة العامة للحزب(الجهاز التنفيذي)، فقد جمَّدت، في تلك الفترة، النضالات العمالية ونجحت في تجميد الكتابة العامة للاتحاد، فأصيبت تنظيمات الحزب بالشلل التام. لقد كان للمؤتمر الاستثنائي صدى قوي في المجتمع، سواء بتقاريره أو بقراراته. وليس صدفة أن تمتد يد الغدر الآثمة إلى أحد أبرز العناصر التي صاغت التقرير الإيديولوجي للحزب، وتكلف بتقديمه للمؤتمر. فلم تكد سنة 1975 تشرف على نهايتها حتى استفاقت البلاد على وقع جريمة اغتيال سياسي نكراء، من تدبير وتنفيذ الفكر الظلامي الذي يزعجه الفكر التقدمي المتنور، والتي ذهب ضحيتها الشهيد عمر بنجلون، في أوج عطائه الفكري والسياسي والنضالي والمهني. وهي الجريمة التي، وإن كان منفذوها المباشرون قد حوكموا، فإن المخططين لها (أي المجرمين الحقيقيين) لم تطلهم يد العدالة. وعلى الرغم من الوضعية الداخلية للحزب التي خلفتها جريمة اغتيال الشهيد عمر بنجلون، فإن الاتحاد الاشتراكي، تفعيلا لتوجهه الجديد، انخرط بكل قوة في الانتخابات الجماعية لسنة 1976 والتشريعية لسنة 1977، جاعلا من هاتين المحطتين فرصته للتواصل مع المواطنين، وواجهة من واجهات النضال الديمقراطي. وقد حملت مشاركة الاتحاد الاشتراكي في الانتخابات الأجهزة الإدارية على تعبئة كل طاقاتها، ليس لحماية الديمقراطية؛ بل لتزوير الانتخابات ضده، لفائدة صنائعها. ومن جانب آخر، سوف تعرف الساحة السياسية والنقابية حملات واسعة من القمع ضد الاتحاديات والاتحاديين ، خاصة بعد تأسيس الكونفدرالية الديمقراطية للشغل سنة 1979، والتي كان لها الفضل في تكسير الجمود النقابي وتأجيج النضالات العمالية. ويعتبر تأسيس الك.د.ش ثمرة من ثمرات قرارات وخيارات المؤتمر الاستثنائي. والمقصود من التذكير بالمؤتمر الاستثنائي، هو الوقوف على بعض المعطيات التي قد تساعد في فهم بعض التحولات التي طرأت على الوضع السياسي والشأن الحزبي. ومن المعطيات التي يمكن تسجيلها، فيما يخص الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، نكتفي منها بذكر معطى يكاد يكون ملازما لكل محطاته السياسية والتنظيمية؛ إنه النزيف الداخلي. وإذا كان من الصعب تتبع كل المحطات التي عرف فيها الاتحاد نزيفا داخليا، أفقده الكثير من أطره ومن قيادييه، فإنه لا بأس من استعراض بعض الأمثلة، رغم ما قد يكون بينها من تباين في الأهمية وفي الأسباب. ويكفي أن نعرف أن بتنظيم المؤتمر الاستثنائي، فقد الاتحاد قياديا سياسيا كبيرا، من عيار المرحوم عبد الله إبراهيم؛ وفقد قياديا نقابيا كبيرا أيضا؛ هو المرحوم المحجوب بن الصديق؛ بالإضافة إلى قياديين آخرين (حزبيين ونقابيين) مما كان يعرف بجناح الدارالبيضاء؛ وسوف تعتمد دولة الاستبداد على خدمات بعض هؤلاء لمحاربة الاتحاد الاشتراكي (المرحومان المعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي، نموذجا). ومن جانب آخر، فقد فقدَ الاتحاد الكثير من عناصر جناحه المتطرف، سواء منهم الذين كانوا بالداخل أو المغتربون؛ إذ لم يستوعبوا التحولات ولم يدركوا الشروط التاريخية والإستراتيجية التي كانت تتفاعل في الأفق. لكن، بالمقابل، سوف يشكل الاتحاد الاشتراكي، بعد مؤتمره الاستثنائي، قاطرة جذب للطاقات الفكرية والسياسية وسوف يبث روحا جديدة في صفوف الاتحاديات والاتحاديين، ترجمتها النضالات السياسية والنقابية والحقوقية ... التي انخرطوا فيها بحماس منقطع النظير؛ الشيء الذي سوف يعرض الاتحاد الاشتراكي والمركزية النقابية (ك.د.ش) الموالية له لحملة من القمع الشرس الواسع النطاق والممنهج: اعتقالات وطرد جماعي من العمل، كما حدث في سنتي 1979 و1981، مثلا؛ ناهيك عن إغلاق المقرات ومنع صحافة الاتحاد من الصدور، وغير ذلك من المضايقات. ويمكن اعتبار القمع الذي مورس على الاتحاد الاشتراكي خلال ما يعرف بسنوات الجمر والرصاص عاملا من عوامل ابتعاد بعض المناضلين والأطر عن الحزب. لكن، ليس هذا هو المقصود بالنزيف الداخلي، الوارد في عنوان هذه المقالة. لقد تعمدت الإشارة إلى جناح الدارالبيضاء بمكونيه السياسي والنقابي (عبد الله إبراهيم والمحجوب بن الصديق ومن معهما)؛ ذاك الجناح الذي رفض قرارات 30 يوليو 1972 وقاطع المؤتمر الاستثنائي (يناير 1975) واحتفظ بيافطة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية (ونعرف اليوم ما ذا يمثل هذا الحزب في المشهد السياسي). وتعمدت، أيضا، الإشارة إلى الجناح الاتحادي المتطرف، نقيض ما سمي بجناح الدارالبيضاء. والهدف من هذه الإشارة وتلك، هو إبراز الخسارة أو الضياع الذي تكبده الاتحاد في موارده البشرية، بسبب ضيق الأفق وعدم استيعاب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية... من طرف الجناحين معا. لكن النزيف الذي حصل للاتحاد في موارده البشرية، كنتيجة طبيعية ومنطقية للتحول العميق الذي عرفه الحزب على المستوى الفكري والإيديولوجي والسياسي... الذي عكسه المؤتمر الاستثنائي، يختلف جذريا عن الأمثلة التي سنوردها الآن. ففي سنة 1983، عرف الاتحاد الاشتراكي أول انشقاق، قاده بعض القياديين، على رأسهم الأستاذ عبد الرحمان بن عمرو، أطال الله في عمره، والأستاذ أحمد بنجلون رحمه الله؛ وذلك، بسبب الاختلاف حول تقييم الوضع السياسي في تلك المرحلة التي كان مطلوبا فيها اتخاذ قرار المشاركة في الانتخابات الجماعية (رغم أن جراحات حملة قمع 1981 لم تكن قد اندملت بعد، ومخلفاتها السياسية كانت لا تزال متمثلة في استمرار اعتقال بعض القياديين البارزين، مثل محمد نوبير الأموي، أطال الله في عمره، ومصطفى القرشاوي، رحمه الله...)؛ في حين أن هؤلاء الإخوة (وكانوا يشكلون أقلية قليلة في الجهاز التقريري الوطني) كان لهم رأي آخر، فحاولوا، بالاستعانة بشبيبة الأقاليم، منع اجتماع الجهاز المخول باتخاذ القرار في الموضوع. ومن نتائج هذا الموقف وتفاعلاته، تكريس عملية انشقاقية أفضت، بعد مخاض، إلى تأسيس حزب جديد؛ هو المعروف حاليا باسم حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي. وفي سنة 2001، سوف تحدث، خلال المؤتمر الوطني السادس، أزمة تنظيمية وسياسية من العيار الثقيل؛ إذ قرر محمد نوبير الأموي، عضو المكتب السياسي والكاتب العام للمركزية النقابية (ك.د.ش)، الانسحاب من المؤتمر، بمعية العديد من القياديين، بمن فيهم عضو المكتب السياسي، الدكتور عبد المجيد بوزبع، والبرلمانيين والشباب. وسوف يتولَّد عن هذه العملية حزب جديد أيضا(سوف يعرف بدوره انشقاقا، فيما بعد) ؛ إنه المؤتمر الوطني الاتحادي. وتجدر الإشارة إلى أن أغلب البرلمانيين والكثير من القياديين عادوا إلى حزبهم، بعد أن تخلى الأموي على القرار الجماعي للمنسحبين، القاضي بالتمسك بالحزب والاستمرار في النشاط داخل صفوفه. وبالنسبة لبعض القياديين الشباب، وفي مقدمتهم، الكاتب العام للشبيبة الاتحادية آنذاك، محمد الساسي، فقد فضلوا الالتحاق بالحزب الاشتراكي الموحد (الذي يعتبر، هو بدوره، نتاج عمليات انشقاقية، بدءا من حركة 23 مارس المنشقة عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصولا إلى تيار "الوفاء للديمقراطية"، المنسحب من الاتحاد الاشتراكي). ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد، بل استمر النزيف بهذا الشكل أو ذاك وبهذا القدر أو ذاك في المؤتمرات الموالية؛ وبالأخص، المؤتمر الوطني التاسع (2012). فرغم النجاح غير المسبوق الذي حققه هذا المؤتمر، سواء من حيث التحضير والتنظيم أو من حيث المنافسة الديمقراطية (التصويت على مرحلتين) بين المرشحين (أربعة قياديين) لمنصب الكاتب الأول، فإنه كان هناك من اجتهد وعمل على تحويل النجاح إلى فشل. لقد تم الركوب على ما سمي ب"التيار" - الذي أسسه المرحوم أحمد الزيدي، المرشح الذي مر إلى الدور الثاني مع الأستاذ إدريس لشكر- للتشويش على نتائج المؤتمر. وسوف تتطور الأمور، بعد وفاة المرحوم الزيدي، في اتجاه تأسيس حزب جديد، أطلق عليه اسم "البديل الديمقراطي" (ومن المرجَّح - حتى لا أقول من المؤكد - أن الذي يحرك خيوط هذه "اللعبة" من وراء الستار، هو قيادي اتحادي بارز، لكونه لم يستسغ انقلاب أو تفوق تلامذته عليه). لكن المشروع مني بالفشل، بعد أن ارتكب قادته أخطاء قانونية، تعتبر من الأبجديات في مجال تأسيس الأحزاب؛ هذا، بالإضافة إلى ابتعاد بعض العناصر الأساسية التي كانت متحمسة لفكرة التيار ولمشروع تأسيس الحزب، وكان معولا عليها ماديا ومعنويا. فمنهم من بحث لنفسه عن موقع في تنظيم آخر، ومنهم من انزوى على "الجماعة"، ومنهم، ربما، من عاد إلى بيته الاتحادي. ولم يخل المؤتمر الأخير، المؤتمر الوطني العاشر (2017)، من المفاجئات. فقد خرج 10 من أعضاء المكتب السياسي، قبل انعقاد المؤتمر بقليل، ببيان يطالبون فيه بتأجيل المؤتمر؛ لكن لأسباب غير مقنعة وتكاد تكون غير مفهومة، خاصة وأنهم شاركوا في كل مراحل التحضير وصوتوا على كل مشاريع المقررات، وكانوا على علم بتقدم أشغال تحضير مستلزمات مقر المؤتمر من قبل الشركة المتعاقد معها طبقا لدفتر تحملات دقيق وواضح وبتكلفة مالية ليست بالهينة. وقد أثار هذا البيان عدة تساؤلات، خاصة وقد صدر بعد الإعلان عن تشكيل حكومة العثماني. هذه بعض الأمثلة للنزيف التنظيمي والسياسي الداخلي الذي عانى منه الاتحاد الاشتراكي في محطات مختلفة. ويمكن أن نضيف إلى هذه الأمثلة، بعض المجموعات الصغيرة التي كانت تخرج، من حين لآخر، بمواقف احتجاجية ضد القيادة الوطنية؛ لكنها لم تكن تلقى أي صدى لدى المناضلات والمناضلين، فتنتهي إما بتجميد أصاحبها لنشاطهم الحزبي، وإما بحمل معاول الهدم للعمل على إسقاط البناء على من فيه، عملا بمقولة "علي وعلى أعدائي". ويُسجل، في هذا الباب، نشاط ملحوظ لبعض القياديين السابقين الذين لم يقبلوا الفطام عن الريع الحزبي، المادي منه والمعنوي. وقد سبق لي، شخصيا، أن تعرضت لبعض الأمثلة في مقالات سابقة، أبرزت من خلالها كيف استحكمت الأنانية في بعض الأشخاص وأعمت بصائرهم، فجعلتهم يجتهدون في تدمير حزبهم؛ وهم بذلك، يهدمون ويدمرون، أيضأ، تاريخهم الشخصي، ولا يبالون. ولا بد أن نضيف إلى الأزمات السابقة، الأزمة التي أحدثتها استقالة الأخ عبد الرحمان اليوسفي من الكتابة الأولى (2003). فقد شكلت هزة قوية وصدمة كبيرة لكل الاتحاديين والاتحاديات؛ باستثناء، ربما، أولئك الذين كانوا يتربصون به ويضعون له في الطريق الكثير من "قشرات الموز". ومن الملاحظ، من خلال هذا السرد التاريخي– وهذا لا يحتاج إلى ذكاء أو إلى تمعن وتفكير عميق لإدراك الأمر- أنه لم يفلح أي حزب من الأحزاب التي خرجت من رحم الاتحاد ومنَّت النفس بأن تكون بديلا عنه، في احتلال مكانته أو موقعه في المجتمع وفي المشهد السياسي، رغم كل ما أصابه من نزيف ومن هزات ومن هدم وتدمير داخليين (ناهيك عن الضربات الخارجية). فالشيء الوحيد الذي نجحت فيه هذه الأحزاب، هو إضعاف الاتحاد ونخره من الداخل. والمشترك بين هذه الأحزاب المنتمية للعائلة الاتحادية، هو العمى السياسي الذي أصابها؛ بحيث ترفض الاعتراف بفشلها (حتى وهي قد تجمعت فيما بينها، في فدرالية) في تشكيل بديل عن الاتحاد الاشتراكي. وكلها (أو على الأقل، أغلبها) تداري هذا الفشل بالتشفي في الحزب الذي تربى قادتها (أو على الأقل، أغلبهم) في مدرسته. لذلك، لا يجد البعض أية غضاضة في الحديث عن ضعف الاتحاد وعن وهنه (كذاك البعير الذي لا يرى إلا سنم أخيه الذي يتقدمه) ؛ وكأنهم لم يساهموا، بقدر كبير، في هذا الضعف وهذا الوهن؛ وكأن هذا الوضع من صنع أبناء وبنات الحزب الذين ظلوا متشبثين بحزبهم، رغم كل الهزات وكل الأزمات. وكل الذين يتشفون في الاتحاد الاشتراكي، سواء كانوا من أبنائه الحاقدين أو من خصومه أو من أعدائه، والذين يستعجلون وفاته، عليهم أن يفهموا أن ضعف الاتحاد ليس قدرا محتوما، وإنما هو من صنع بعض أبنائه الذين طغت عليهم الذاتية والأنانية. وأنا، هنا، لست بصدد توزيع صك البراءة من هذه التهمة، على كل المسؤولين الاتحاديين الحاليين، بمن فيهم كاتب هذه السطور. فسواء على مستوى الأجهزة الوطنية أو الإقليمية أو المحلية، هناك من هو مستعد، من أجل الحفاظ على موقعه في التنظيم، أن يتآمر ويدلِّس على إخوانه وأخواته، دون أن يرف له جفن أو يشعر بوخز ضمير. وقد تجد من بينهم من هو مستعد للتضحية بالتنظيم وهدمه على من فيه، كما حاول ذلك بعض السابقين، في حال مُسَّت مصالحه الشخصية. وسوف يتكفل التاريخ بكشف هذه العينة من الانتهازيين والوصوليين الذين يتدثرون في ثوب الوفاء والنضال ويتشدقون بالانتماء، إما في انتظار الفرصة للظفر ب"الهمزة"، وإما من أجل الحفاظ عليها. لكن الاتحاد، وبفضل أبنائه وبناته الأوفياء البررة، قاوم وواجه، عبر مساره الحافل، بصمود وثبات الضربات الموجعة الموجهة إليه من الداخل ومن الخارج، من القريب ومن الغريب. وسوف يستمر في الصمود والمواجهة، حسب ما تقتضيه كل مرحلة وحسب ما يفرضه الشرط السياسي والاجتماعي والديمقراطي. فمادام هناك اتحاديات واتحاديون "يقاتلون" على الاتحاد ومن أجل الاتحاد، فإنه سيبقى، لا محالة، حيا في الميدان وفي الوجدان، وسيخيِّب آمال الذين يريدون وأده ويتنافسون على صياغة خطب في رثائه بطعم التشفي والشماتة ويتسابقون على إعلان وفاته، رغم أن قلبه ينبض بالحياة ويكذب كل التكهنات. لكن لا أحد (ولا شيء) يظل على نفس الحيوية ونفس الهيئة في كل مراحل الحياة. فالوهن قد يحصل قبل وقته الطبيعي، إذا ما تواترت قسوة العوامل الخارجية أو تلاحقت الأزمات الداخلية. فالاتحاد لن يكون أقوى من دولة عظيمة ومن حضارة متميزة امتدت لثمانية قرون. فالتاريخ ينبئنا بأن التمزق الداخلي تسبب في انهيار هذه الدولة وهذه الحضارة. أوليس عصر الطوائف، هو الذي مهد لسقوط الأندلس التي أصبحت في ذمة التاريخ؟ فالاتحاد قد ينتهي بفعل هذا النزيف الداخلي وهذا الهدم الذاتي اللذين تحدثت عنهما في هذا المقال. وعند ذلك، لن ينفع الندم على نفث السموم في جسم الاتحاد باسم الغيرة عليه وعلى ماضيه؛ ولن يجدي البكاء على الأطلال ولا النواح والعويل على المجد التليد. ويذكرني الاتحاد، كلما فكرت في مساره وفي وضعه الحالي، بالقفير الذي تسكنه خلية النحل، ليس لصنع العسل فقط؛ بل وأيضا للتناسل وإنتاج أجيال أخرى من خلايا النحل التي تنفصل عن الخلية الأم وتشكل خلاياها الخاصة. وهذا يضعف، بالطبع، الخلية الأم. وقد يحدث أن تنقرض إذا لم تلقى العناية الكافية من النحَّال، خاصة في موسم الشتاء. والفرق بين الاتحاد وقفير النحل، هو أن خلايا النحل التي تهجر قفيرها الأصلي وتتسبب في ضعف الخلية الأم، تنجح في مهمتها، بعد أن تستقر في قفير جديد؛ بينما التنظيمات التي خرجت من رحم الاتحاد، لم تنجح إلا في إضعاف الحزب الأم. ومع ذلك، تظل المدرسة الاتحادية حاضرة بقوة وبشكل لافت، فعليا ورمزيا، في واجهات متعددة. وهذا ما يزعج أعداء الاتحاد الاشتراكي وخاصة الذين يستعجلون وفاته. فبانغمار هؤلاء في"إبداع" وابتداع الدسائس والمكائد وتشويه الحقائق و، و.. يعطون الدليل، على عكس ما يرومون، على قوة الاتحاد وعلى تجذره في الثقافة المغربية. ويشكل هذا الحضور الفعلي والرمزي للاتحاد الاشتراكي غصة في حلوق الحاقدين وعقدة مستعصية لدى الجهات الناقمة والمتحاملة. ويكفي المدرسة الاتحادية فخرا أن أطرها متواجدون في كل مكان. فمؤسسات الدولة تعرف، بالتجربة، كفاءتهم وتعترف بها. والمنظمات الحقوقية والثقافية والاجتماعية والمؤسسات الإعلامية، وغير ذلك من الواجهات، تشهد بالحضور المتميز لأطر المدرسة الاتحادية. والأحزاب السياسية المغربية التي لها بعض الحضور في المشهد السياسي، لا تخلو من لمسة اتحادية بفعل وجود اتحادي أو أكثر ممن استهواهم الترحال السياسي، بحثا عن مصلحتهم الشخصية؛ هذا، بالإضافة إلى تلك التي خرجت من الرحم الاتحادية الولاَّدة. والمعروف أن كثرة الولادات وتتابعها يضعف الأم ويصيبها بالوهن. فلا غرابة، إذن، إن أصيب الاتحاد بالوهن، خاصة وأن بعض الولادات كانت عسيرة. لكن الغرابة، كل الغرابة، أن لا تنمو المواليد التي خرجت من رحمه نموا عاديا. فنموها ضئيل إن لم يكن منعدما(وتصنف كلها، سياسيا، في خانة الأحزاب الصغيرة). فلا هي كبرت ونضجت وأسست لها بيتا مستقلا، بالفعل، ولا هي ظلت ببيت العائلة (بيت العائلة الاتحادية) الذي هو الاتحاد الاشتراكي، وليس غيره. لا أريد أن أضع نقطة النهاية لهذا المقال، وأنا منتشي بفوز الاتحاد الاشتراكي بمقعدين برلمانيين (والمناسبة شرط، كما يقال)، دون تقديم تهنئة حارة وصادقة للأخوين باعزيز وأبرشان بمناسبة استرجاع مقعديهما بالبرلمان. كما لا يفوتني أن أهنئ كل الاتحاديات والاتحاديين، في القيادة وفي القاعدة، بهذا الفوز الذي، لا شكك، أنه قض مضجع أولئك الذين استبشروا وهللوا لفقد الاتحاد لفريقه البرلماني، والانتخابات الجزئية لم تنته بعد. ومن الأكيد أن هذا الفوز سينغص عليهم حياتهم، لأنه بعثر لهم كل حساباتهم. ونظرا لخيبة الأمل هذه، لا يسعني إلا أن أقدم لكل الشامتين والمتشفين والحاقدين والناقمين... على الاتحاد الاشتراكي، ما يلزم من التعازي والمواساة من صنف المشاعر التي يكنونها لهذا الحزب. وإذ أرثي لحالهم بسبب"مصابهم الجلل" الذي أفسد عليهم فرحتهم، فإني لا أجد عبارة أنسب من القول في حقهم: "موتوا بغيظكم". .