أصبحت الكتابة شأنا عاما و بخاصة مع الانفتاح الكبير الذي نتعايش معه تكنولوجيا و عولميا. يبدو الأمر كحزب كبير ما فتىء ينشق و تنتشر قواعده و دعاماته و توزع وصاياه و لعناته..و لأننا في الهم شرق كما يقال تحضرني قولة الراحل جبرا إبراهيم جبرا متحدثا عن السياق باعتباره (الهم الذي لا تزحزحه إلا الكتابة) و من هنا فهذه الغابة /الكتابة أصبحت عندنا ضرورة،و قد طال السياق و كثر الهم و انفتح العالم فسال المداد.و هنا أيضا ينقسم عالمنا إلى فريقين ،ما بين مدافع عن هذا التراكم و مستاء منه،و الحال أن الأمر أكبر من الاستياء و الدفاع في زمن الانفجار الكبير،فالعولمة القائمة على السلع و التسليع لا تقيم اعتبارا للجودة بقدر ما تقدس الاستهلاك، و بالتالي فالأمواج العاتية لا تواجه بالاشرعة الواهية الزاهية.. يعتقد كثيرون أن الكتابة فعل حر و يزعم كثيرون أنها فعل ملتزم و شتان ما بين هذا و ذاك طبعا. لا أنوي الخوض في التفاصيل المعروفة بقدر ما أنوي الاشارة فقط إلى كون الكتابة في حد ذاتها تغني خزانة الكتب و تسمح بظهور الكتاب و الشعراء الجدد الذين يعبرون عن مواقفهم و ينتجون أشكالهم و يبنون مضامينهم، و مجتمعاتنا التي لا تقرأ في حاجة ماسة إلى هذه الانتفاضة و إن بدت مائلة إلى الكم لا الكيف أحيانا كثيرة،ورقيا و إلكترونيا، واقعا و افتراضا . و هنا يقودني السياق إلى الحديث عن النشر باعتباره مطية الكتابة و همها المضاعف،فإذا كانت هذه الكتابة وليدة الهم و النقد و التعرية و الخلق فالنشر هو ما يعطيها الحياة،أكثر من حياة،يعطيها الوجود الذي يحارب العدم.هذا الوجود هو حجر الزاوية -هنا-فالكتابة كفعل وجودي تعبير عن حرية الفرد لكنها كفعل ملتزم تعبير عن حاجات مجتمعية ملحة،و كي تكون كذلك لا تبقى مجرد نشاط عادي بل تصبح أداة تغيير و موقفا من العالم شكلا و معنى،أي أنها وجودا قائم الذات لا بد له من ثقافة المشروع القائم على التأسيس و التكريس للبنى و الأشكال و التصورات في إطار من الحرية و الاختلاف و الالتزام.هذا المشروع هو ما يستنزف الآن و قد أصبحت الكتابة سوقا مفتوحة على كل أشكال المعيقات،و بخاصة حين يتعلق الأمر بالنشر و التوزيع و المتابعة و النقد..هنا تصبح التكلفة باهضة ،يؤدي الكاتب و المبدع عموما ضريبتها أي ضربتها القاضية فيعيش حتما حرب استنزاف حقيقية،و لأن الكاتب لا يتقاعد فهو يكتب و ينشر حتى يموت.و النتيجة أن المجتمع الذي يموت فيه الكاتب و المبدع بهذه الوحشية لا يمكنه أن يمتلك مشروعا و لا يمكنه أن يتقدم بأي حال من الأحوال، و الخسارة لا تكون بموته بل بموت الروح التي هي الكتابة نفسها.