في رواية (المصري) للكاتب المغربي محمد أنقار، الصادرة في طبعتها الأولى عن (روايات الهلال) سنة 2003، يتماهى ساردها وشاهدها أحمد الساحلي مع الروائي المصري الكبير نجيب محفوظ، ويقع في أسر جاذبيته وسحره، ويحاول أن يحذو حذوه ويقفو خطوه، بكتابة رواية عن مدينته الأثيرة تطوان، كما كتب نجيب ملاحمه الروائية عن مدينته الأثيرة القاهرة. لكن شتان، حسب سياق الرواية، بين الرغبة والإنجاز. شتان بين أحمد الساحلي ونجيب محفوظ. شتان بين المريد والشيخ. بين المغربي والمصري. وبعد مسلسل من اللف والدوران في شوارع وحواري وأزقة تطوان، إعدادا للعدة وجمعا للمادة، يعجز أحمد الساحلي عن تحقيق ضالته وإنجاز روايته. تلك هي عقدة هذه الرواية الثاوية بين سطورها، وتلك هي تيمتها Thème المركزية المهيمنة عليها، كما يبدو بدءا وجليا، من عنوانها (المصري). المتكلم السارد في الرواية، هو أحمد الساحلي، شخص مهووس بنجيب محفوظ وشخصية روائية محفوظية بامتياز، أستاذ الإعدادية الذي ذرف الستين، ولم يتبق له سوى شهرين ونصف الشهر ليُحال إلى التقاعد، أب لثلاثة أولاد، وجد لحفيدين، يحيا حياة تطوانية وادعة وروتينية، منقلا رجله بين منزله بدرب النقيبة – المطامر والكازينو. شخصية تطوانية، كأنها خارجة لتوها من عالم نجيب محفوظ ومخلوقاته العجيبة. ومنذ البدء، يخيم جو جنائزي –رمادي على الرواية الغاطسة في عمق تطوان، وفي عمق قاهرة نجيب محفوظ. ومناسبة هذه الجنائزية المخيمة على الرواية منذ بدايتها والآخذة بخناق الروح على امتدادها، هي تشييع جنازة رفيق عمر ودرب أحمد الساحلي، عبدالكريم الصويري، بعد أسبوع واحد من تقاعده، مما أذكى في وجدانه مرارة الإحساس بالنهاية والأفول، على شاكلة رفيقه، ولم يتبق له من عزاء وتأساء، سوى أن يكتب رواية عن مدينته الأثيرة تطوان، فيما تبقى له من أيام معدودات، على غرار ما كتبه شيخه ومعلمه نجيب محفوظ عن مدينته الأثيرة القاهرة. الرواية إذن (مرثية للعمر الجميل) على حد تعبير الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، والرواية أيضا قصيد سردي شجي وحفي في مديح وعشق تطوان وتمسح بأركانها. يجول بنا محمد أنقار، شوارع وحواري وأزقة تطوان العتيقة العريقة، وخلالئذ يجول بنا شوارع وحواري وأزقة مدائن الأعماق. يجول بنا الزمن التطواني العتيق الآيل للغروب والمعرض لرياح التحول والتبدل، كما جال بنا نجيب محفوظ تماما، أمكنة وأزمنة القاهرة العتيقة الآيلة للغروب والمعرّضة لرياح التحول والتبدل. ونجيب محفوظ، من قبل ومن بعد، هو (المصري)، بطل هذه الرواية، هو بوصلة الرواية وحافزها الحكائي والإبداعي وضيف شرفها، والرواية لذلك أيضا، قصيد سردي شجي وحفي في مديح وعشق أدب نجيب محفوظ، ورواياته عن القاهرة العتيقة تحديدا، تلك الروايات الساكنة في أعماق أحمد الساحلي والسارية منه مسرى الدم، والتي يحاول جاهدا ومكابدا أن يحذو حذوها وينسج على منوالها، في كتابة رواية عن مدينة عتيقة عريقة رابضة على ساحل المتوسط، اسمها تطوان. إن جدلية (الشيخ والمريد) تتجلى إبداعيا في رواية (المصري). والمصري لذلك، له وجهان متماهيان فيما يشبه الأقنوم، وجه مصري مرجعي مهيمن هو نجيب محفوظ، ووجه مغربي إرجاعي، هو أحمد الساحلي الواقع في أسر نجيب محفوظ، والمتقمص لمصريته، وهو يخترق عتاقة وأجواء مدينته. وتطوان أنقار لذلك، هي (مصرية) بامتياز و(محفوظية) بامتياز، يحضر فيها نجيب محفوظ وتحضر معه أجواؤه القاهرية العتيقة وشخوصه الروائية الفريدة، في كل خطوة يخطوها أحمد الساحلي في حواري وأزقة وشعاب تطوان، بدءا من حومة البلد إلى الطرانكات إلى السويقة إلى العيون... بكل الأزقة والدروب والحيطان والانعطافات والسقوف والدور والدكاكين والحجارة الأرضية التي تنطوي عليها هذه الحارات العتيقة. يعترف أحمد الساحلي، في نهاية الرواية، بهزيمته وعجزه عن تحقيق ضالته الإبداعية وكتابة رواية عن مدينته الأثيرة تطوان، تحاكي ما كتبه نجيب محفوظ عن مدينته الأثيرة القاهرة، ويقول مذعنا صاغرا في نهاية المطاف، مخاطبا ضريح سيدي علي المنظري، مؤسس مدينة تطوان: - (هاهي أمانتك الوديعة أردها إليك.. لست في مستوى الأمانة... أنت بنيت المدينة وكان لك مجد البناء الخالد، وأنا عجزت عن وصف ما بنيت.)[1]. وإذا كان أحمد الساحلي داخل الرواية قد عجز عن إتمام مشروعه، فإن محمد أنقار المغربي كاتب (المصري) قد استثمر عجز أحمد الساحلي واقتص له، فكتب رواية وصفية رائعة عن تطوان. وذلك هو المكر الجميل، للروائي الأصيل.