نعيش الآن وهنا على ظهر أرجوحة حيث مالت تميل التقديرات والتحاليل والرؤى. نعيش في زمن انفلات المعلومة وحرص بعض من يعتقد خدمة الدولة على كتم الأصوات. نعيش في المغرب على إيقاعات أزمنة لا مردودية لها غير إلهاء المغاربة عن التقدم. تعاقبت حكومات لا تحكم بلا ضوء أخضر وبلا خط أحمر وبلا صفارات إنذار وبلا بطاقات رمادية لدر الرماد في الغربال. باعث هذا القول ما تتعرض له حياتنا من اغتصاب للحرمة وللسرية وللخصوصية وللحق في التواصل. لست ممن يتوهمون إمكانية ممارسة سياسية غير مراقبة، ولا ممن يرفضون حرص أجهزة الدولة على تتبع الوقائع لتنبؤ الأحداث. ولكني ممن يعتبرون القيم مبادئ في السلوك الاجتماعي، وفي أية ممارسة سياسية غير التي أريد للمغاربة أن يعتنقوها ويؤيدوها، وأن يعتبروها معيارا للوطنية. في هذا الزمان، صار المحمول النقال المتحرك الجوال حياة الملايين، سبب أرزاقهم وعنوان سكناهم وفضاءات تواصلهم وهواياتهم، وعالمهم الثقافي والمعرفي والترفيهي، وصحائف أفراحهم وأتراحهم السيارة بطازج الأخبار وأحوال الحكام وبؤس المحرومين، ومجالس للسياسة والتطوع والنضال، ونوافذ مشرعة على خبرات العالم وتجارب الحياة. جوامع علم وكليات إبداع، أكبر أسرة وأشمل آصرة. في هذا الزمان العابر بالأمكنة وبالهويات، ما يزال في هذه البلاد من يجهد الوقت والمال لفرض طريقة في التفكير بعنف، ولاعتناق رؤية للعالم بالتعتيم، ولتأييد ممارسة سياسية بأنواع الإكراه. يحدث في بلادنا الآن تغول سلطة الحكم على حقوق المجتمع، كل المجتمع. على الأحزاب والنقابات والجمعيات وكل ذوي الحقوق العلمية والاقتصادية والثقافية. تغول هيأ أسباب التسيب، حتى باتت فئات في المجتمع تعتبر حقا لها الاستحواذ على حقوق غيرها. يحدث هذا بين الراجلين والسائقلين، وبين التجار الدائمين والجائلين، وبين موظفي الصحة والمتعبين، وبين المعلمين والمتعلمين، وبين رواد المقهى المدخنين والمقلعين، وفي سيارات الأجرة، وبين الشراة والبائعين، وبين المتظاهرين والأعوان المتبلطجين. فحين تشحذ الدولة سيف مراجعة الضريبة، وتغفل عن التهربات أو تقايض بالتسويات، تتفتق مهارات التزوير، وتكثر الاستعارات والتصريحات المجازية. وحين لا تحمي ملكية، يستحوذ خدامها والسماسرة. وحين تسلم ثروات بامتيازات، يكبر شجع المستفيدين ويتطاول على حقوق الناس والمجال. ما كان لهذا الانفلات القيمي أن يكبر لولا تفريط الدولة في التربية والتعليم، ولولا تمييزها المحظوظ عن المسخوط. ولولا ضياع وقتها ووقتنا جميعا في التربية الجبرية على الولاء، بدل التربية على المواطنة. 12 دجنبر 2018