بايتاس: ارتفاع الحد الأدنى للأجر إلى 17 درهما للساعة وكلفة الحوار الاجتماعي تبلغ 20 مليارا في 2025    "ما لم يُروَ في تغطية الصحفيين لزلزال الحوز".. قصصٌ توثيقية تهتم بالإنسان    إحباط عملية تهريب دولية للمخدرات بميناء طنجة المتوسط وحجز 148 كيلوغراماً من الشيرا    رابطة علماء المغرب: تعديلات مدونة الأسرة تخالف أحكام الشريعة الإسلامية    بايتاس: مشروع قانون الإضراب أخذ حيزه الكافي في النقاش العمومي    كربوبي خامس أفضل حكمة بالعالم    كمية مفرغات الصيد الساحلي والتقليدي تبلغ بميناء المضيق 1776 طنا    وهبي يقدم أمام مجلس الحكومة عرضا في موضوع تفعيل مقترحات مراجعة مدونة الأسرة    وكالة التقنين: إنتاج أزيد من 4000 طن من القنب الهندي خلال 2024.. ولا وجود لأي خرق لأنشطة الزراعة    بايتاس يوضح بشأن "المساهمة الإبرائية" ويُثمن إيجابية نقاش قانون الإضراب    نجاة مدير منظمة الصحة العالمية بعد قصف إسرائيلي لمطار صنعاء    توقيف القاضي العسكري السابق المسؤول عن إعدامات صيدنايا    بورصة الدار البيضاء .. تداولات الإغلاق على وقع الإرتفاع    خلفا لبلغازي.. الحكومة تُعين المهندس "طارق الطالبي" مديرا عاما للطيران المدني    احوال الطقس بالريف.. استمرار الاجواء الباردة وغياب الامطار    السرطان يوقف قصة كفاح "هشام"    الكلاع تهاجم سليمان الريسوني وتوفيق بوعشرين المدانين في قضايا اعتداءات جنسية خطيرة    قبل مواجهة الرجاء.. نهضة بركان يسترجع لاعبا مهما    "الجبهة المغربية": اعتقال مناهضي التطبيع تضييق على الحريات    في تقريرها السنوي: وكالة بيت مال القدس الشريف نفذت مشاريع بقيمة تفوق 4,2 مليون دولار خلال سنة 2024    جلالة الملك يحل بالإمارات العربية المتحدة    ستبقى النساء تلك الصخرة التي تعري زيف الخطاب    مدرب غلطة سراي: زياش يستعد للرحيل    العسولي: منع التعدد يقوي الأسرة .. وأسباب متعددة وراء العزوف عن الزواج    تحديد فترة الانتقالات الشتوية بالمغرب    نشرة انذارية.. تساقطات ثلجية على المرتفعات بعدد من مناطق المملكة    حصاد سنة 2024.. مبادرات ثقافية تعزز إشعاع المغرب على الخارطة العالمية    المغرب يفاوض الصين لاقتناء طائرات L-15 Falcon الهجومية والتدريبية    "زوجة الأسد تحتضر".. تقرير بريطاني يكشف تدهور حالتها الصحية    330 مليون درهم لتأهيل ثلاث جماعات بإقليم الدريوش    أبناك تفتح الأبواب في نهاية الأسبوع    المحافظة العقارية تحقق نتائج غير مسبوقة وتساهم ب 6 ملايير درهم في ميزانية الدولة    بيت الشعر ينعى محمد عنيبة الحمري    المنتخب المغربي يشارك في البطولة العربية للكراطي بالأردن    استخدام السلاح الوظيفي لردع شقيقين بأصيلة    إسرائيل تغتال 5 صحفيين فلسطينيين بالنصيرات    أسعار الذهب ترتفع وسط ضعف الدولار    كندا ستصبح ولايتنا ال51.. ترامب يوجه رسالة تهنئة غريبة بمناسبة عيد الميلاد    أسعار النفط ترتفع بدعم من تعهد الصين بتكثيف الإنفاق المالي العام المقبل    بلعمري يكشف ما يقع داخل الرجاء: "ما يمكنش تزرع الشوك في الأرض وتسنا العسل"    طنجة تتحضر للتظاهرات الكبرى تحت إشراف الوالي التازي: تصميم هندسي مبتكر لمدخل المدينة لتعزيز الإنسيابية والسلامة المرورية    الثورة السورية والحكم العطائية..    "أرني ابتسامتك".. قصة مصورة لمواجهة التنمر بالوسط المدرسي    المسرحي والروائي "أنس العاقل" يحاور "العلم" عن آخر أعماله    مباراة ألمانيا وإسبانيا في أمم أوروبا الأكثر مشاهدة في عام 2024    جمعيات التراث الأثري وفرق برلمانية يواصلون جهودهم لتعزيز الحماية القانونية لمواقع الفنون الصخرية والمعالم الأثرية بالمغرب    مصطفى غيات في ذمة الله تعالى    جامعيون يناقشون مضامين كتاب "الحرية النسائية في تاريخ المغرب الراهن"    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حقوق الإنسان بين الشخص والمجتمع والدولة
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 23 - 05 - 2011


1
هناك أطراف ثلاثة متفاعلة من حيث التأثير والتقبل في مسألة العمل بمقتضى حقوق الإنسان: الشخص الإنساني من حيث هو ذات مفردة، والدولة من حيث إنها تشرف عبر مؤسساتها على سير الشأن العام، ثم المجتمع من حيث هو البنية التي تشمل الأفراد وتنبثق عنها الدولة بكل مؤسساتها. تتجاذب الأطراف الثلاثة السالفة الذكر كل تفكير في مسألة حقوق الإنسان، وذلك ما يجعل تحليل هذه المسألة متوترا بين أخذ هذا الطرف أوذاك مأخذ الأولوية.
ننطلق في معالجتنا لهذا الموضوع من النظر إلى الأطراف الثلاثة السالفة الذكر، أي الفرد والمجتمع والدولة،بوصفها توجد في حالة تبادل التأثير والأدوار. فليس هناك طرف يكون دائما في حالة من يطلب حقوق الإنسان، وليس بين تلك الأطراف كلها من يوجد في وضع انايع الآخر بتلك الحقوق. هناك أخذ وعطاء لايتوقفان بالنسبة لحقوق الإنسان بين الفرد والدولة والمجتمع.
المقصود لدينا بالشخص الإنساني هو الذات المندمجة في إطار شبكة التعاقدات التي يتأسس عليها كل مجتمع. الشخص الإنساني، من حيث هو ذات فردية، هومجال عمق العمل بمقتضى حقوق الإنسان. فنع الثورات التي تمت في أوربا وأمريكا ظهرت الذات الفردية من حيث هي عضو فاعل في المجتمع ومتفاعل معه، ومن حيث هو كذلك الذات التي تطلب منها واجبات ويكون على المجتمع أن يحفظ لها حقوقا. لكن هذا لا يمنع من القول بأن الفرد ذاته من جهة أخرى فاعل في تطبيق تلك الحقوق ذاتها عند احترامه لها في الحالات التي تعود فيها إلى غيره أو إلى المجتمع أو إلى الدولة. ولذلك، فإننا مع انطلاقنا من اعتبار الشخص الإنساني الفرد النواة التي ينبغي أن يبلغها تطبيق بنود حقوق الإنسان، ننظر إليه من جهة أخرى بوصفه ذاتا فاعلة في ذلك التطبيق نفسه. فالعمل بمقتضى حقوق الإنسان لايتقدم في أي مجتمع بفضل مطالبة الذوات الفردية بما يجب لصالحها من حقوق فحسب، بل يتقدم كذلك بفضل عملها على احترام تلك الحقوق داخل المحيط المجتمعي الذي تعيش فيه. ويكون الأمر كذلك عندما يحترم الشخص الإنساني الفرد، وهو يطالب بحقوقه، حقوق أجهزة الدولة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع وتعمل على الحفاظ على النظام والقانون وتطبيق العدالة.هذا هو جدل حقوق الإنسان بالنسبة للذات الإنسانية الفردية. الفرد- المواطن،إذن، هو مرجع الحقوق التي يمارسها ويطالب بها، وليس مجرد ذات متقبلة لتلك الحقوق فحسب.
لابد لفهم حقيقة ميثاق حقوق الإنسان وتمثل بعض الإشكالات المطروحة بالنسبة إليه في عالم اليوم ،في نفس الوقت، من أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشخص الإنساني بالمعنى الذي تدل عليه العبارة الواردة في نص الإعلان العالمي عن حقوق الإنسان هو نتاج لعدد من التطورات التي عرفتها الإنسانية.الشخص الإنساني الذي تنسب إليه الحقوق اليوم تركيب واقعي من مجموع المطالب التي قامت في المجتمعات المختلفة، ومن مجموع الحقوق التي تم اكتسابها مع تطور المجتمعات في العمل بمقتضى حقوق الإنسان.
نرى في ضوء ماسبق ذكره أن المجتمعات التي لم تتطور بداخلها الحريات العامة، ولم تتطور بداخلها المؤسسات التي يمكن أن تضمن العدالة لمواطنيها، تواجه اليوم صعوبات متعددة في إدماج العمل بمقتضى حقوق الإنسان ضمن سياساتها في كل المجالات. فالعلاقات التقليدية السائدة في كثير من المجتمعات بين السلطة والمجتمع، ثم الأشكال العتيقة السائدة لعلاقات الإنسان بمحيطه المجتمعي العام والخاص، وغياب أو ضعف تقاليد الحرية، كلها عوامل تساهم إلى جانب عوامل أخرى في قصور التوجه نحو اعتبار حقوق الشخص الإنساني ممن حيث هو ذات فردية. مجتمع حقوق الإنسان هو المجتمع الذي تأخذ فيه الذات الفردية قيمتها، وكذلك حرياتها في الاختيار الذي يرتبط به وجودها.
2
ما هو دور المجتمع، من جهة أخرى، في إرساء أسس الحياة التي تسود فيها حقوق الإنسان؟ وهل المجتمع هو مصدر حقوق الفرد والجهة التي يكون على طالب كل حق أن يتوجه نحوها، أم أن للمجتمع بدوره حقوقا على مجموع الأعضاء الذين يتشكل منهم؟
نرى أنه يمكن من هذه الناحية القول إن المجتمع ، كما أكد ذلك عالم الاجتماع الفرنسي دوركهايم مستقل عن الأفراد الذين تتكون منهم من حيث حقوقه عليهم. فهو ليست الجهة التي يكون من واجبها أن توفر شروط الحياة التي تجعل الأفراد متمتعين بالحقوق فحسب، بل إن له أيضا حقوقا على الأفراد. وهذه الحقوق هي التي تشكل واجباتهم التي تسمح لهم بالمطالبة بحقوقهم. فما يربط الفرد بالمجتمع يتضمن قوانين وتعاقدات تنتظم وفقها سلوكات الأفراد ، وتكون كذلك معيارا لاتفاق تلك السلوكات مع ماهو متوافق حوله في مجال المجتمع. ماهي،إذن، حقوق المجتمع؟وكيف تقوم؟
إنها ،من جهة أولى، الحقوق المشتركة للجميع، أي تلك التي لاتعود بالحصر إلى أفراد معينين، بل هي التي تتطلبها حياة الناس ضمن جماعة. غير أن هذه الحقوق تظهر، من جهة أخرى، في صيغة واجبات للأفراد إزاء المجتمع الذي يعيشون فيه. فكما أن للأفراد تبادلا للحقوق والواجبات، فإن هناك جدلا للحقوق والواجبات في علاقة الأفراد بالمجتمع. يهيئ المجتمع الشروط التي تجعل الأفراد يتمتعون بحقوقهم، ولكن يكون على الأفراد في نفس الوقت أن يحافظوا على مايعود إلى المجتمع وتتشكل منه واجباتهم.
يتمثل دور المجتمع، في مقابل ما ذكرناه له من حقوق، في ممارسة رقابة على كل أنواع خرق تلك الحقوق، سواء كان مصدرها هو الدولة بمختلف أجهزتها أو كان مصدرها هو الأشخاص كذوات فردية. ووسيلة المجتمع في ذلك هي تأسيس الهيئات التي بإمكانها أن تساعد على طرح الأسئلة الضرورية التي توجه العمل في مجال حقوق الإنسان وتقومه حين ينحرف عن مساره، بل وتكون لها المبادرة في اقتراح طرق العمل من أجل توسيع مجال الحقوق في المجتمع. فتلك الهيئات مصدر لليقظة المستمرة الواجبة للحرص على تطبيق البنود الخاصة بحقوق الإنسان، ولا تنوب المؤسسات التي تؤسسها الدولة عن هيئات المجتمع أو يمكن أن تجعل وجودها غير ضروري. فالدولة ذاتها منبثقة عن المجتمع ، والمؤسسات التابعة لها تراقب من جهة الدولة ذاتها مدى تطبيق أجهزتها لحقوق الإنسان، كما تكون من بين المؤسسات التي تقوم بالمبادرات من أجل النهوض بحقوق الإنسان في المجتمع الذي تكون منبثقة عنه والذي ينيبها عنه(بما تتضمنه من مؤسسات) في خلق الأجواء التي تشيع ثقافة حقوق الإنسان في المجتمع. ولكن المجتمع يظل في جميع الأحوال هو المرجعية الأساسية وهو المصدر الرئيسي لتحديد المعايير ولمتابعة مدى انطباق القيم التي ترتبط بمواثيق حقوق الإنسان. الدولة بعد من أبعاد الحياة المجتمعية، وليست مجرد مجموعة من المؤسسات الفوقية أو الشكلية التي قد تكون ستارا تختفي وراءه الحكومات لتمارس سياساتها المناهضة، في لواقع، لمواثيق حقوق الإنسان.
نرى في إطار العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع أنه من الملائم لتوجه تفكيرنا تحديد حقوق المجتمع الذي اعتبرناه كيانا مستقلا عن الأفراد المنتمين إليه.
1) المظهر الأول لحقوق المجتمع المطلوبة من أعضائه هو احترام القوانين والتعاقدات السائدة فيه. واحترام القوانين يعطي المعنى الحقيقي للحرية في إطار المجتمع، وذلك لأنه يبرز أن الحرية المقصودة في مجتمع حقوق الإنسان ليست مطلقة، بل هي حرية تؤطرها القوانين التي تضمن للجميع حرياته في المجالات المختلفة للفعل الإنساني. لايعني احترام القوانين أي نوع من الخضوع للقهر إذا ماكان الأمر متعلقا بالإنسان ككائن مجتمعي.وذلك لأن التربية الملائمة للعمل بمقتضى حقوق الإنسان تعمل في نفس الوقت على توعية الفرد بحرياته ودفعه نحو الوعي بحريات الآخرين التي يكون من الواجب عليه الحفاظ عليها في إطار تعايش إيجابي يسمح بتطبيق الحقوق الواجبة بالنسبة للجميع. وقد أشار بعض الفلاسفة نذكر من بينهم الألماني كنط والفرنسي سارتر إلى أن على كل شخص أن يتصور أفعاله بمثابة قانون شامل لجميع الناس بحيث تكون قانونا عاما للسلوك الواجب، كما كان يرى كنط، أو بتصور كافة الناس يتمتعون بحق اتباعه في فعله، كما أكد ذلك سارتر.(2) وفي الواقع، فإن التربية المجتمعية الملائمة هي التي تجعل احترام القانون لدى الإنسان فعلا لايخضع فيه الفرد لقهر بقدر مايكون ذلك لديه نابعا عن اختيار حر. احترام القانون بهذا المعنى لا يتعارض مع الحريات أو ينفيها لأنه بذاته فعل صادر عن ممارسة الحرية.وهذا هو المعنى الذي يكون به احترام القانون فعلا يؤسس لحياة مجتمعية تنبني على تمتيع الجميع بحرياته وحقوقه الأخرى.(3)
2) المظهر الثاني للحقوق الجماعية هو الحفاظ على ماهو عام ومشترك.فمهما كانت طبيعة النظام المجتمعي والسياسي والإنتاجي، ومهما كان نظام الملكية في المجتمع، فإن هناك ما يعود إلى ملكية الأفراد وما يرجع إلى ملكية الجماعة التي يتعايش أولئك الأفراد ضمنها.ومن مظاهر الشخصية الاعتبارية للجماعة، ومن حقوقها أيضا، وجود العام والمشترك. يتمثل ماهو عام في المؤسسات الإدارية والإنتاجية، الحكومية أو غير الحكومية، التي تكون مكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. فإن هذه المؤسسات هي التي تضمن سير الشأن العام بما يضمن مصلحة الجميع، وهي كذلك مظهر السلم المجتمعي الذي يسمح بتعايش الناس ضمن جماعة واحدة تنتظم بداخلها مصالحهم وتتقاطع سلوكاتهم وفقا لتعاقدات وقوانين. إن من حق المجتمع احترام أعضائه لكل المؤسسات المجتمعية الإدارية والاقتصادية والإنتاجية. فبدون هذا الاحترام ستنتفي عن أي تجمع صفة المجتمع، وسيكون ذلك التجمع بمثابة ماهو سابق على تأسيس المجتمع كما نستفيد ذلك من نظرية التعاقد المجتمعي.وليس مما يدل على الحرية الإيجابية التي ينبغي على المجتمع التكفل بضمان توفير شروطها المساس بتلك المؤسسات العامة. ويمكن أن نذكر كذلك بالإضافة إلى المؤسسات التدبيرية العامة بعض المظاهر الأخرى لماهوعام ومشترك، مثل العمران العمومي المرتبط باستخدام بعض الإدارات له، ومثل الحدائق العمومية ذات الفائدة على جمالية البيئة المحيطة وضمانها لصحة الإنسان التي هي حق من حقوقه. فالمساس بما هوعام في هذه الحالة حرمان للناس من حقهم فيه من الجهة التي تكون مصالحهم وأحوالهم مرتبطة بوجوده وسلامته.وتدمير المشترك عمل مناقض لما يضمن حقوق الإنسان. والحرية التي يتوهم الكثيرون أنهم سلكوا بها لإتلاف ما هو مشترك تكون منافية للعمل بمقتضى ضمان حقوق الإنسان على مستوى الجماعة التي يتعايش بداخلها أفراد. ومن أمثلة المشترك في حياة الجماعة كذلك المال العام المكون من مساهمة أعضاء المجتمع بفضل تسديدهم لواجباتهم العامة والمخصص لتدبير الشأن العام. فالمساس بهذا المال العام بالصورة التي تقود إلى ضياعه أو توجيهه لخدمة مصالح شخصية أو فئوية أمر يتنافى مع العمل من أجل ضمان حقوق الإنسان، إذا كان المقصود بذلك أن تكون تلك الحقوق واجبة بالنسبة لكل أعضاء المجتمع. لكننا نلاحظ في كثير من المجتمعات عدم الحفاظ على ماهو عام ومشترك، وهو الأمر الذي يبين أن الطريق طويل من أجل الإنجاز الفعلي لتلك الحقوق في المجنمعات التي تظهر فيها سلوكات تخل بأسس التعاقد فيها وتمس بماهو مشترك يمثل أساس التعايش داخل نفس الجماعة البشرية.
3) المظهر الثالث للحقوق الجماعية هو مساهمة الأفراد في الحياة الجماعية بمختلف مستوياتها الإنتاجية والاقتصادية والمجتمعية والسياسية. ففي مقابل الحريات التي يكون على المجتمع ضمانها لأعضائه يكون من حق المجتمع عليهم مساهمتهم في صيرورة الحياة فيه. وكل امتناع عن ذلك، سواء كان موضوع وعي أو لم يكن، هو تناف مع العمل بمقتضى حقوق الإنسان التي ينبغي أن تكون واحدة بالنسبة للجميع، والتي يكون مظهر ضمانها هو وجودها في جوانب الحياة في المجتمع. من المطلوب من الأفراد في مقابل ما ينالونه من حقوق أن يعملوا على المساهمة الإنتاجية لتوفيركل الحاجيات للجميع، ومن المطلوب منهم كذلك القيام بالأفعال التي تضمن تكافل المجتمع بتوزيع العمل والوظائف المختلفة، كما ينسجم مع هذا أيضاالعمل على بناء حياة إقتصادية تتحقق فيها مصالح الجميع وحياة سياسية تضمن قيام العدالة والتمثيلية بالنسبة لكل أعضاء المجتمع. ونضيف إلى هذا كله ضرورة المساهمة في تطوير المجتمع بالعمل على كل ما يضمن استمرار حياته التربوية والثقافية والعلمية.هذا العمل هو الذي يتوافق مع حقوق الإنسان.
بوقوفنا على هذه الجوانب المختلفة لحقوق الإنسان على صعيدالمجتمع ، نكون قد أبرزنا جوانب رهان كل مجتمع يسعى إلى توفير شروط الحياة الملائمة لتمتيع الإنسان بكل حقوقه: رهان التكامل بين الحرية والقانون، إذ مجتمع حقوق الإنسان هو في نفس الوقت ودون تعارض مجتمع الحريات والعمل بمقتضى قوانين وتعاقدات، ثم رهان الفرد والمجتمع، إذ مجتمع حقوق الإنسان هو المجتمع الذي يضمن حريات الأفراد دن أن يكون في ذلك مساس بما يجعل التعايش بينهم ممكنا في إطار جماعي واحد.
3
ننتقل إلى توجيه التساؤل عن دور الدولة بأجهزتها ومؤسساتها. ونرى أن هذا الدور يكمن في العمل على توفير الشروط الملائمة لكي يتمتع كل أعضاء المجتمع، بدون تمييز في العرق أو الجنس أو الدين أو الإيديولوجيات أو الانتماء الفئوي، بكل ما يعود إليهم من حقوق، وذلك عبر الأجهزة الأمنية الحامية لحقوق الإنسان والهيئات العدلية التي تتعلق بتطبيق العدالة للحفاظ على تلك الحقوق.
حيث إن أجهزة الدولة تكون منتدبة لتدبير الشأن العام، فإنه من اللازم هنا وضع سياسات عامة من أجل توفير شروط الحد الأدنى للعيش بالنسبة لكل المواطنين وحمايتهم مما يقضي على حياتهم أو يعرضهم للمجاعة أو للأمراض المضرة بتلك الحياة. لكن كثيرا من البلدان في عالم اليوم غير قادرة نظرا لنقص في الوسائل للقيام بتلك الأدوار، وهو ما يدعو إلى ضرورة التعاون الدولي عبر المنظمات المختصة في ذلك.
من أدوار الدولة أيضا حماية حريات الأشخاص، ووضع سياسة للحفاظ عليها واحترامها من طرف الجميع. الإنسان في حاجة إلى ضمان حرياته في الاعتقاد والتفكير والفعل،وقد نشأت الدولة في المجتمع لتقوم بهذه الأدوار وتكتسب عبر ذلك مشروعيتها داخله.
تلعب الدولة في حالات أخرى أدوارا معاكسة لما أشرنا إليه، وذلك حين تصبح أجهزتها الأمنية والقضائية ومؤسساتها الإدارية والاقتصادية والمالية مصدر خرق لحقوق الإنسان. ويصعب في مثل هذه الحالات الحديث عن تطبيق حقوق الإنسان، حتى وإن كانت تلك الحقوق موجودة في النصوص الدستورية أو في قوانين أخرى أدنى من هذه النصوص. وتمثل هذه الحالات التي نجد لها نماذج في مختلف أنحاء العالم واقعا يعوق تطبيق المواثيق الدولية حول حقوق الإنسان.
حين تصبح أجهزة الدولة أداة لحرمان أعضاء المجتمع من حق أساسي هو الحق في اختيار الحكام ومحاسبتهم عبر المؤسسات المختصة في هذا المستوى، يصعب بعد ذلك منح المجتمع حقوقا أخرى قد تصبح هي المدخل لطرح شرعية السلطة موضع سؤال. ووجود أنظمة استبدادية في العالم المعاصر علامة على أن الطريق نحو تعميم العمل بمقتضى حقوق الإنسان ما يزال طويلا.
قد تكون أدوار الشخص الإنساني الفرد والمجتمع والدولة متضاربة حين يفترق فيها الإنجاز عن المطالبة، وأما توافقها فيكون حين يصبح المطلب والإنجاز من شأن المجتمع بكامله، بأعضائه، وهيئاته المجتمعية والسياسية، وبأجهزة الدولة التي يهمها تطبيق حقوق الإنسان. يتعلق الأمر بأدوار متكاملة لأطراف ثلاثة: الفرد، والمجتمع، الدولة. والدرس الأساسي الذي ستفيده من التحليل الذي قمنا به لأدوار تلك الأطراف الثلاثة هو أنه لاوجود لطرف يكون في موقع المطالب وحده في مقابل طرف آخر يمنح الحقوق ويحافظ عليها. فالكل مسئول عن العمل يقتضى حقوق الإنسان يطلب منها الجانب الذي يستحق أن يكون له، ولكنه يمارس إزاء الأطراف الأخرى الحفاظ على حقوقها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.