في هذا الليل..رفضت الشمس أن تستيقظ من سريرها..ظلت راقدة متلحفة بالظلام الحالك..عيناها منطفئتان.. عصافيرها مختبئة في أوكارها بين ثنايا الظلام..فجرها دون آذان والمؤذن يغرق في قعر كوابيس طائفية سوداء..ليس في هذا الليل ما يبشر بنهايته القريبة..شياطين الليل ترتع في الأزقة والدروب..وهي تصدر ضحكات قاسية..يتخللها عواء حاد ونعيق مقزز لغربان تحوم في سقف الليل..لكنها لا تُرى في الظلام..تلك الشموع المضيئة التي تحترق في قلب هذا الليل الثقيل لا تكفي لتستقيم الرؤية..قد تموت تلك الشموع احتراقا ..وقد تغتالها رياح معادية إذا هاجمتها في عتمة الليل.. قال طفل صغير مخاطباً أمه : "يا أمي!..أما آن لهذا الليل أن ينتهي ؟؟..من أين يأتينا كل هذا الظلام المعربد في دروبنا ؟.."..لم تجبه أمه..اكتفت بإشعال شمعة.. لعله يهدئ من روعه بعد أن يستأنس بالنظر لوجهها الباسم..الأم تبتسم دائما لولدها ولو كانت مثقلة بالحزن والخوف..الظلام عدو الفرح..ولا فرح في هذا الليل..الظلام مأوى الخوف والحزن..الظلام مقبرة الحياة..ولا حياة في هذا الليل..هناك فقط ترقب لموت يجوب الأزقة ويحوم حول البيوت.. لا شيء يوحي بنهاية قريبة لهذا الليل القاسي..ليس هناك أفق وراء الشباك..لا ينهض الأفق من رقاده ويستقيم في المدى إلا بعد أن تستفيق الشمس وتهم بمغادرة سريرها..لا يستقيم الأفق إلا بعد أن تفتح الشمس عينيها الوضاءتين وتسدل شعرها المشع خيوطا من نور..وتفتح صدرها ليمتص كل هذا الظلام الثقيل..لكن هذه الشمس تأبى الانسحاب من سرير الغياب..ولا أفق في الأفق..وشياطين الظلام لا تكف عن إطلاق ضحكاتها المتشفية في أرجاء الليل.. نظرت الأم لولدها..وقالت :" لا تجزع يا ولدي !..أنا معك..ها هي شمعة قلبي مضاءة بيننا..لدي ما يكفي من الشموع لنقهر سواد هذا الظلام..فهذا الليل الثقيل ليس سوى ليل العرب..وتلك المستلقية على سرير الغياب هي أيضا شمس العرب !..فلا تخف يا ولدي!..ولا تجرع !..سينتهي هذا الليل..سينتهي..