ما أن صدّقت عيون العالم الإسلامي، أنّ التاريخ قد طوى صفحة من صفحاته المؤلمة والحزينة، وعاد النّاس إلى وضعهم الطبيعي، والعادي من خلال "التسامح"، أو بلفظ أدق "التناسي" لما جرى من إساءات متعمدة، الواحدة تلو الأخرى، كانت بدايتها في الدنمارك سنة 2005، حتى تجدّدت الإساءة، لتحمل معها هذه المرّة المأساة!… فوسائل الإعلام المتحامل في هذا العالم الشاسع، يأبى إلّا أن يعيش على التوتّر المستمر والدائم، ينتعش به كما لم يكن في الدنيا ساديّ غيره!… وتبدأ الأزمة من حيث انتهت في الدنمارك، وتُزهق الأرواح، ويُروّع المجتمع برمته لتخرج المظاهرات، ويحتشد الآلاف، وتُسيّر المسيرات استغلالا وتوظيفا للحدث المروّع، رافعين يافطات، كان أبرزها وأكثرها إثارة للاستقالة: "أنا شارلي، أو كلنا شارلي" وتُكال الاتهامات للإسلام والمسلمين دون رادع أو رويّة… وبسرعة البرق تبدأ، الهجومات السريعة على مصالح وأماكن عبادة المسلمين، من مساجد ومصليات ونوادٍ.. خمسون اعتاءً خلال يومين فقط، في باريس والضواحي بعد حادثة "شارلي إيبدو". لمذا؟ ما الذي جرى يا قوم؟ أمّا القتلة، فقد لقوا مصيرهم المحتوم بعد فعلتهم، دون تعرّف عليهم!… وكان الأجدر، كما هو من صلب حرية الإعلام أن نرى صور الضحايا من الجانبين. وأمّا المسلمون ففيمَ يؤاخذون!… أليسوا مواطنين كباقي المواطينين الفرنسيين، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم!.. فلماذا إذا نخضع ونحن أمة المليار ونصف بما فيهم أبناء الجاليات المسلمة المقيمة في الغرب؛ لحالة دفاع مستمر عن النفس؟ أكلّما قام مجنون، أو مجرم، أو إرهابي، مدفوع بأجندة داخلية، أو خارجية، أو مجنّد من قبل جهاز المخابرات الذي أضحى شغله الشاغل هو صنع وفبركة الأحداث بعمل ضدّ مؤسسة من مؤسسات الدولة، أو المجتمع المدني في أوروبا، فسفك الدّماء، أو روّع الآمنين.. وُجّهت أصابع الاتّهام مجانا إلى المسلمين؛ فانطلقوا معتذرين يدرؤون عنهم دون جدوى ما يعلق بهم!… إلى متى نظلّ كمسلمين نُطالب بتبرئة جانبنا ممّا لم تكن لنا أصلا أياديَ فيه!، منبطحين مهرولين إلى وسائل إعلام مأجورة تتغذّى بمصائب الآخرين وبخوفنا الاستثنائي في دنيا ديمقراطيّة لم تر مواطنيها بنفس العين وفي ذات القطاع!… لماذا لا يقول ممثّلو المسلمين بكلّ جرأة ووضوح وعزّة وثبات: على الشرطة أن تقوم بواجبها المنوط بها، فتُلقي القبض على مرتكبي الجريمة وتقدّمهم للعدالة. فإنّ التهمة جنائيّة لا يؤاخذ بها غير فاعلها. بدل أن يبالغوا في المجاملة القاتلة المائلة عن الحق. حتى فكر بعضهم في الذهاب إلى السفارة الفرنسية من أجل العزاء، دون انتباه منهم لتقديم التعازي لأنفسهم على ما صاروا عليه من ذل وهوان لا فتين. الغريب في الأمرهو خروج الرئيس الفرنسي بسرعة البرق معلنا ومُصرّحا على الملأ: "إنّنا يا سادة نواجه حربا". على شاكلة جورج بوش الإبن، في حادثة الحادي عشر من أيلول2001. لم يخرج بمثل هذا التصريح الخطير والعنيف، حتى رئيس الوزراء النرويجي، عندما قُتل أكثر من ثمانين شاب وشابة في سنّ الزهور، ومئات الجرحى من أبناء شعبه، في مذبحة جزيرة أوتويا الإرهابية عام 2011. وهي من بين أكبر المذابح التي حدثت في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وأبشعها وأكثرها دموية. الجريمة التي نفذها الإرهابي المسيحي "بيهرينج بريفيك" وهو نجل دبلوماسى نرويجى مسيحي يعيش فى باريس. وما حدث من قبل في "أوكلاهوما" في الولاياتالمتحدةالأمريكية 1995 من تفجير قدر ضحاياه ب: 168 نفس بشرية، بينهم 19 طفلًا بريئا قتلوا بدم بارد! من طرف"ميلشيا" مسلحة، يمينية متطرفة أمريكية محضة. وأمثلة القتل والإرهاب والترويع داخل مؤسسات المجتمع المدني، في الولاياتالمتحدةالأمريكية، تكاد لا تُعد ولا تحصى.. لكننا نتوقف للعظة مع هتين الحادثتين الإرهابيتين الشنيعتين، مذبحة جزيرة "أوتويا"، و"أوكلاهوما". لم يُطالب العالم المسيحي بصكوك إخلاء جانبهم، أو التنديد والخروج للشوارع بسمت نصرانيّ متضامن مع الضحايا في الحادثتين، بل ردّوا فقط ونسبوا بذكاء، الفعل لفاعله!.. الذّكاء والدّهاء اللذان غفلا عنه ممثلي الجالية. إساءات "شارلي إيبدو" تريد تأكيد وتكريس، الفكر المريض، للرجل الغربي، الذي لا زال يعشعش فيه مصطلح، السيد والخادم والعبد، اعتمادا على مستواه في التطور السريع للعلوم والتكنولوجيا، والعمران بكل أنواعه… بمعنى أدق، الغرب يريد أن يقول بكل وضوح: أيّها المسلمون، أيّها المتخلفون في كل شيء.. أنتم تبعٌ ولستم شركاء. وبالتالي، لا يحق لكم بتاتا أن تعترضوا على أسيادكم!… أقول هذا دون أن أغفل عن الإنصاف فأتراجع عن التعميم الذي نعاني نحن منه، فإنّ من الغربيين عقلاء ومنصفين استنكروا هذا السلوك الملبّس على النّاس الحقائق، ولكنّ مواقفهم مصنصرة محاربة تماما كما حورب رأي رئيس الكنيسة الذي عبّر عن طبيعة الرّد على السلوك السفيه بقوله: "لو أنّ أحدا شتم والدتي لضربته على أمّ رأسه بقبضتي هذه"، فقد رآها بعض الفرنسيين المحرّضين، عدم مراعاة لعائلات الضحايا، ولم يروها كلمة حقّ ترشّد معنى حريّة التعبير!… لماذا لا يرتاح الإعلام الفرنسي المتحامل هنيهة، كما ارتاح الإعلام الدّانماركي من قبله قليلا، ويجعل لحرية التعبير فرامل عندما يتعلق الأمر بالمقدّسات، والمعتقدات أسوة بفرامله الخفية، عندما يفكر في اللعب بالنار، أقصد أسلوبه في السخرية إذا جرُؤ على "الهولوكوست".. فأين الكارثة إذا؟… فلعل تعميم الفرامل الخفية للإعلام المتحامل في جميع أصقاع الدنيا، تؤدي الى مدّ جسور التواصل والتعارف بين الشعوب، وُيفعّل مصطلح التعايش على وجه الحقيقة والفعل، وعلى مسافة واحدة. وهذا ما ينبغي حصوله من وراء المناداة بالاندماج والتعايش بين الشعوب. وهو كذلك من سمات تعاليم جميع الديانات السماوية التي بشر بها الأنبياء شعوبهم عبر العصور. وكذلك المواثيق الدولية التي يتفق عليها معظم سكان الأرض. فهل يرتاح الإعلام المتحامل قليلا حتى تتحقّق المعجزة، ويحصل السلم والأمن والأمان، والتعايش والتعارف!؟ هذا ما ينتظره العالم بفارغ الصبر، لنزع فتيل الأزمة المفتعلة، ووأد الفتنة المفبركة…