هل من فرق بين مدرسة تستوحي برامجها من حوض اللائيكية وتربي أبناءها على ثقافات متدرعة بالبراهين العولمية وبين مدرسة قامت على شريعة اجتماعية وانسية عامة مبدؤها اتقاء الشرور النفسية والنزعات الحيوانية قانونها العام إسمه الصوم وثمرة هذا القانون التقوى. إن الاختلاف جوهري والتمييز نوعي بين المدرستين، فمدرسة الثلاثين يوما تبحث عن الحقيقة وتستقصيها من منابعها الأصيلة ، فتستخلص بذلك عالما نادرة فيه الردائل قليل فيه الفساد. استطاعت هذه المدرسة أن ترسم للأجيال معالم الطريق نحو النصر فيما بعد الانتصار، إذ تفجر فيهم ينابيع الصبر والإخلاص وتهزم فيهم كبرياءهم الإنسي بقانون الصوم، أو قانون البطون وتجعل عقولهم وراء سجف الغيب تستمد منه معارفها وتخدم به تطلعاتها وتصلح أو تهذب أو تروض النفس على معالي القيم ومكارم الأخلاق، فتسهم هذه الاجيال في وضع أنسنة جديدة لهذا العالم. إن نقطة البداية لإيجاد فرد قادر على تحقيق أهداف المدرسة هي في وجود الفرد الذي وضحت لديه الغايات ووضح لديه طريق تحقيقها وامتلك القدرة على التلاؤم مع هدي الصالحين، الفرد الذي يتعلم كيف يمتنع باختياره عن شهواته ويعرض عن لذاته وأهوائه، فيدخل بذلك في إنسانيته الواسعة ويخرج من حيوانيته الضيقة ويفلح في صناعة نفسه من كل الإسلام لا من نصفه أو ربعه. إنها الثلاثون يوما التي فرضها السمع بوجهة علمية محكمة، فكانت أساسا ابتنت عليه إرادة الشعب الذي ينصت إلى صوت الروح داعيا إلى الرحمة مشبعا بالجوع فكرا، وافق الطبيعة، فأفرز مبدأين اجتماعيين ترضاهم النفوس وهما الإطمئنان والمساواة؛ اطمنان الفقير للغني بطبيعته ومساواة العني للفقير من طبيعته. ولرسوخ هذين المبدأين في الروح وتطهير الإجتماع من قوانين صالحة في ظاهرها عارية من كل صلاح في باطنها لابد من الوقاية التي لا تتأتى إلا بالصوم: "الصيام جنة، إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل، وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل: إني صائم" صحيح البخاري 3/ 13 طبعة الشعب وصحيح مسلم 8/ 308. فبالصيام يتقي الصائم شر أهوائه، فإن شاتمه أحد أو قاتله رد: إني منزه عن الجهل والرفث والدونية... إني روحاني أرى في الصيام الطريقة العملية لرسوخ مبدأ الحق في النفس والخير في الشعور، وتطهير الإجتماع من رذائله وفساده والفرد من بخله وشحه ، وبهذا يضبط المؤمن إيمانه بحقائق العلم وأسرار المعرفة ويكشف الظلام عن الحياة ويبدد الظلمة التي تتراكم على الظلمة لتكون هي الحياة. يقول أبو سليمان المنطقي: "إنك لا تصل إلى سعادة نفسك وكمال حقيقتك، وتصفية ذاتك إلا بتنقيتها من درن بدنك.. وصرفها عن جملة هواك، وفطامها عن ارتضاع شهوتك، وحسمها عن الضراوة على سوء عادتك" المقابسات لأبي حيان التوحيدي، م 1، ص 11. فتطهير النفس وتزكيتها هدف وسيلته الصيام؛ ولنقل مدرسة الثلاثين يوما. فمن اختار التعلم خارجها عرف الشر طريقه إلى قلبه، وانتهى به شبع يوم إلى أفظع من جوع دهر وكان وضعه شبيها بوضع الصبي غير المميزالذي لا فرق عنده بين صمت وأفطرت ولا بين اخترت وأجبرت، فهو يؤلف قصة عنوانها: الحياة موضوعها اللهو، أسلوبها عبثي لاهي يتعب قراؤها في فهم ما تحت سطورها وهم لمعنى ما فوق سطورها أمام معنى يبكي وفلسفة يبكى عليها. ويبقى هذا القاص وراء الحدث خارج الزمن، إذ بالملاحظة وحدها ترتسم لديه معاني الصيام، فيفهم أن مدرسة الثلاثين يوما تدعوه للتساوي مع غيره من بني جلدته في الشعور الواحد، والحس الواحد، والطبيعة الواحدة، ويدرك كيف تساوى الناس في فقرهم الإجباري الذي فرضه السمع عليهم ليتساوى الجميع في بواطنهم ولتحيا البشرية جميعها في حالة نفسية واحدة، حالة مشبعة بالجوع ناطقة بالرحمة التي لا تتاتى من شبع وإنما هي إفراز ألم. والآن أنت مخير أيها القاص بين أن تلج مدرسة الثلاثين يوما فتكون حياتك وراء الحياة لا فيها، وتكون نفسك راقية وأنت مع الناس لا خلافهم، وبين أن تدخل مدرسة 1 800 يوما فتكون حياتك مع الحياة لا وراءها ولا أمامها، وتكون قد استبدلت الذي هو خيربالذي هو أدنى، وتقع بذلك في منزلة بين المنزلتين بعقلك المعاشي الذي هو آلة تخدم عندك الهوى والنفس والشهوات، لا القلب الذي يخدم عند غيرك التطلعات؛ خدمة متساوقة مترابطة متناسقة مشتركة مع كافة البشر...