انطلقت سيارة " كانكو" مخترقة الطريق المديدة العامرة بالدكاكين، مصحة الريف، الفيلات، فيلا القنصل الإسباني، مرجان، مطعم البارصا، كولينور... ألقيت نظرة على طريق رأس الطرف، ثم ولجنا إلى المضيق. ركنا السيارة. كان الجو هادئا. لاباردا ولا حارا. دخلنا سوق السمك. ألوان من السمك الطري. لم يتهافت علينا الباعة هنا مثلما هو الحال في أسواق السمك بتطوان لم يزعجنا أحد. وقفنا عند سماك. قال الفنان التشكيلي (م.ز) بعد ما حرك قبعته وهو يشير إلى سمكة (الشابل) الكبيرة والطرية: - هذه السمكة، من فضلك. أمسك السماك السمكة بيده ووزنها، وقال: - 60 درهما. - وخى. صافي. هاك الفلوس. نطقنا في وقت واحد كأننا كنا متفقين مسبقا. منحها السماك لخادم كشطها وأزال أحشاءها، ثم لفها داخل كيس أبيض، وآخر بني... خرجنا من السوق. تمشينا قليلا. ثم دلفنا إلى حانة ومطعم " كوكودريلو". كان النادل واقفا في الباب، أعطيناه السمكة. لم ينبس النادل ببنت شفة. راح إلى الكونطورا الذي كان يتجمع عليه عدد من رواد كوكودريلو. جلسنا. جاء النادل...و فتح بيرتين باردتين. شربنا، نزلت على المائدة قطع صغيرة من الخبز، وزيتون أخضر، وسمك بيكروني بصلصة حمراء، وصحن سلاطة مترع بالخس والطماطم والبصل. شرعنا في الشرب والأكل. انشغلنا في البداية بالأكل، ولم نتكلم. قال الفنان: - حان ياصديقي وقت النميمة. أظن هذا الكوكودريلو مناسب لذلك. قلت له: - هل تخبئ عني شيئا. - لا. لاشيء. - لقدحاولت فقط أن أعرف ما يدور في رأس أحدهم يدعي أنه كاتب وناقد وفنان. - لماذا لم يختر شيئا واحد.. إما كاتب أو ناقد..... - لا أدري.... لكنه لا يكن لك المحبة. ويقول كلاما قبيحا في حقك. - إلى هذا الحد. أعرفه. لكنني لا يهمني أمره. ذلك شأنه. بيد أنني أستغرب لكونه عندما نلتقي يقول لي: برافو..برافو.. - على ماذا؟ - دع البئر مستورا. - قال إنه يشتغل الآن على رواية لم يتممها بعد، وستكون مفاجأة. - الله يعونوا... قلت لنفسي: النميمة في كل موضع. ولاأحد يسلم منها. طلبنا بيرتين. جاء النادل، لم يبتسم. فتح الزجاجتين. وانسحب بهدوء. في غضون ذلك دخل شاب مغربي يرتدي قميصا ورديا وجينز أزرق لونه ذابل وشابة إسبانية جميلة بقميص أحمر، وجينز أزرق لامع براق. كان كوكودريلو عامرا، تبادلا التحية مع أشخاص ثم غادرا إلى المجهول. حضرت السمكة ( مقلية) داخل صحن كبير مترع بالطماطم والبصل. كانت رائحتها شهية. طعمها لذيذ، كنت قد أفرغت في جوفي زجاجة بيرة، طلبت واحدة أخرى، طلب الفنان واحدة. شرعنا في الأكل. السمكة تبرز في الصحن كلوحة فنية تشكيلية رسمتها يد فنان تشكيلي وليس طباخ كوكودريلو الذي لا نراه. يوجد خلف ستار. مانراه ليس سوى الكونطوار و المتجمعين حوله.... تنزل ألوان من زجاجات البيرة ( ستورك، سبيسيال، هنيكين) وأنواع من النبيذ الأحمر الإسباني والمغربي في آن. كنا مرة نأكل بالشوكة والسكين، ومرة أخرى باليد. ولو كان لدينا عيدان يابانية لأكلنا بها. لم تلعب البيرة برؤوسنا. أكلنا حتى شبعنا. ولم نكن نشعر بتاتا بما يجري أمامنا أو على الكونطوار. وحتى القاعدين قربنا لم نلتفت إليهم. ولم نلتفت إلا بعدما سكب أحدهم دون قصد على مائدتنا زجاجة ستورك. وبسرعة البرق جاء النادل واستبدل الورق الأبيض المتسخ بورق جديد على المائدتين المتشابكتين. راح النادل، وجاء بصحني محار مطبوخ وحلزون. فطلبنا بيرتين. وشرعنا في الشرب بشكل بطيء. لم يرغب الفنان في المزيد من الأكل. لقد شبع، فيما أنا أحببت أن أتابع أكل الحلزون الذي اعتدت أن آكله كلما مررت قرب بائع حلزون بطريق باب العقلة. لكن طعم الحلزون في كوكودريلو له مذاق مختلف، ولذيذ، بل إن البيرة الباردة تزيده لذة أكبر.... أخيرا، تكلم الفنان، وقال: - لا أدري هل أكمل قصة حب حتى النهاية، أم أن أغلق الكتاب، وأتوقف؟ - هل هي جميلة؟ - نعم، لا، لكنها مثل البنات. مكتنزة، وولفت عليها ياصاحبي رغم أن علاقتنا بدأت منذ أسبوع فقط. - القرار لك إذا - كيف؟ - أنت الذي يجب أن تحسم في الأمر هل تكمل قصة الحب هذه أو توقفها. - لاأدري، هل تحبني لذاتي، أم فقط لنقودي؟ - كيف لاتدري.عليك أن تكون واعيا بهذا الأمر منذ البداية. وبقيت حائرا في قصة الفنان. فلم أقدر أن أحسم بالقول إن العصر عصر النقود، وليس الحب، في حين قلت لنفسي: ربما أكون خاطئا. فالحب لايمكن أن يموت، قد يغيب ثم يعود، فالحياة من غير حب ظلام. أرض قاحلة. في هذه اللحظة، دخل صديق للفنان، تبادلا التحية. رنوت ببصري إلى الباب كان ثمة سيدة إنكليزية واقفة، تعرفت عليها فيما مضى في كوكودريلو، عاشقة للوحات الفنية، جلست تبعها إسباني، كانت تقضي هنا عطلتها السنوية، لاتحب المضيق عامرة، بل تعيش أجمل لحظات حياتها بعد انقضاء الصيف، ولا تأتي إلى المضيق إلا في أكتوبر، تقضي شهرا كاملا ثم تعود إلى لندن، كانت مناسبة عرفتها فيها على صديقي الفنان، عسى أن تساعده ذات يوم في عرض لوحاته الفنية التشكيلية في بلاد الضباب. منحها كارت فيزيت بها صورة له ولمرسمه، نظرت إلى الصورة والقبعة وابتسمت كأنها وافقت، لكنها قالت له: - لابد لي من رؤية رسوماتك. - طبعا، أنا أدعوك لزيارة مرسمي إن كان عندك وقت. - سأفكر في الأمر. عدنا إلى مائدتنا. نزلت البيرتين. شربنا بتمهل. ثم دفعنا النقود. وخرجنا. كان الجو هادئا لاباردا ولا حارا مررنا من أمام فندق الشاطئ الذهبي. كانت مومس سمراء في الاتجاه الآخر تصطاد الزبائن. أخيرا تمكنت من اصطياد شاب بسيط بعدما لم يهتم لشأنها أحد. دخلنا إلى السيارة. انطلقت سيارة " كانكو" مخترقة الطريق المديدة حتى وصلت أمام الدكاكين، الفيلات، فيلا القنصل الإسباني... مصحة الريف. أراد الفنان أن يحكي لي قصة جديدة، لكنني ترجيته أن يدعها لوقت آخر. كنت ساعتها أفكر في كتابة قصة جديدة عن كاتب يدعي أنه فنان وناقد وقاص وروائي، وليس غريبا أن يقول غدا إنه مفكر شأنه شأن محمد عابد الجابري أو عبد الله العروي. يوسف خليل السباعي