تحت عنوان: "رحيل الشاعر مولاي على الصقلي مؤلف النشيد الوطني المغربي"، كتب الصحافي المغربي المتميز محمد بوخزار مقالا عدّد من خلاله مواهب الفقيد في مجال قرض الشعر، معتبرا أنه يضاهي الأعلام النوابغ الذين منحوا الشعر العربي أروع القصائد أمثال احمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري. كما عرج الزميل محمد بوخزار، في مقاله المنشور بموقع إيلاف، على ظروف ميلاد السمفونية المغربية الخالدة "منبت الأحرار .. مشرق الأنوار"، التي ربح الفقيد رهان إخضاع جملها الشعرية للحن السابق عليها وتناغمها مع "السلام الملكي"، اللحن الذي ألفه الفرنسي "ليو مورغان" في عهد الحماية الفرنسية على المغرب.. وبالنظر إلى أهمية ما جاء في المقال من مضامين ومعلومات حول الراحل فإننا نعيد نشره تعميما للفائدة: رحيل الشاعر مولاي على الصقلي مؤلف النشيد الوطني المغربي شاءت الأقدار أن يفجع المغرب، وهو يستعد للاحتفال بالذكرى الثالثة والأربعين للمسيرة الخضراء؛ في فقد أكبر شعرائه المبرزين وأغزرهم إنتاجا وأكثرهم حضورا مشعا في المنتديات الثقافية: الراحل مولاي علي الصقلي الحسني، سليل مدينة فاس حيث ولد عام 1932، وفي رواية أنه رأى النور بها قبل ثلاث سنوات من ذلك التاريخ. ومهما كانت صحة ودقة الرواية، فإن ما خلفه الراحل الكبير، من شعر وأدب لا يقاس بسنوات عمره المديد؛ فالقريض لم يفارق لسانه، متطرقا إلى كل المواضيع والأغراض التقليدية التي اشتهر بها ديوان العرب. ولا مبالغة في القول في هذا الصدد إن الصقلي يضاهي أكابر شعراء العربية أمثال احمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري. هؤلاء الأعلام النوابغ الذين منحوا الشعر العربي أروع القصائد، مبنى ومعنى، خيالا وموسيقى وامتدادا في الزمان والمكان. برزت موهبة الصقلي مبكرا من خلال قصائده الأولى ذات المنحى التقليدي الأصيل، تجلى فيها امتلاكه لناصية اللغة العربية التي نهل أصولها وعلومها من جامعة القرويين حيث أجازه علماؤها في بداية عقد الخمسينيات من القرن الماضي، بالشهادة التي كان يطلق عليها اسم "العالمية"، إشارة إلى أن المتخرج الحاصل عليها، بلغ ذروة المعارف، وصار جديرا بلقب العالم. فإلى جانب متانة السبك وجزالة اللفظ كما يقول البلاغيون القدامى ورهافة الإحساس، وهب الله الفقيد قدرة هائلة على الارتجال العفوي للشعر، وأذنا موسيقية قادرة على التمييز الدقيق بين الجرس الرنان أو الخفي للكلمات، ما أضفى على أغلب إنتاجه الشعري وكله عمودي، مسحة موسيقية عذبة جذابة، هي التي أغرته لاحقا لخوض تجربة كتابة الأغاني، خاصة بعد أن تيسر له لقاء في العاصمة المغربية ، مع موهبة موسيقية فذة ممثلة في شخص الراحل عبد القادر الراشدي . فكما أن الصقلي هو مؤلف النشيد الوطني الذي صار المغاربة يلهجون به أجمعين، في المناسبات الوطنية المجيدة، تختتم وتفتتح به برامج الإذاعات ومحطات التلفزيون الوطنية؛ فإن الموسيقار الراشدي، هو أيضا ملحن المقطوعة الرائدة والخالدة "رقصة الأطلس" التي شاعت مشرقا ومغربا يحس سامعها أنها الفت قبل أيام فقط يتغنون بها في لحظات الفرح والنشوة . الولع بالموسيقى، وطد العلاقة بين الشاعر المبدع والموسيقار المجدد؛ ليثمر اللقاء أشياء فنية جميلة لعل أشهرها الأغنية الدينية في مديح الرسول "من ضي بهاك ، كحلت عيوني بالليل والنهار" التي أداها بشجن مؤثر المطرب الراحل محمد الحياني، صاحب الصوت الشجي الرخيم. قطعة لم ينل توالي الزمن منها، تحدث قشعريرة روحية صوفية في النفس، لا يحس السامع، أمام جلال موضوعها، إلا وقد انهمر الدمع في المآقي. لا يسعف المجال للإحاطة بكل إنتاج وآثار الشاعر الصقلي الأدبية، فهي من الكثرة والتنوع بمكان ، لكن الإشارة واجبة إلى أن هذا الشاعر وقد بلغ ذروة الكلاسيكية بل جددها، كتب القصائد الكثيرة للأطفال والفتيان في قالب قصصي؛ بث فيها القيم الأخلاقية اللازمة لتربية الأجيال الصاعدة، فقد كان رجل تربية وتعليم، ما أهله للفوز بجائزة الملك فيصل العالمية لأدب الأطفال، مناصفة مع شاعر مغربي زميل له، هو الراحل أحمد عبد السلام البقالي، ابن مدينة أصيلة. لم يكف الصقلي، عن قول الشعر إلى آخر لحظات حياته. كان القصيد يأتيه دون عنت أو معاناة، يرتجل في المناسبات الثقافية والوطنية والاجتماعية. إن حضر مجلسا لا بد وان يتحف الحاضرين بقصيدة، ولو كانت صغيرة، ينشدها تحت إلحاح المعجبين. يقتضي السياق الوطني لهذه المرثية السريعة، العودة إلى قصة النشيد الوطني، ومطلع كلماته "منبت الأحرار، مشرق الأنوار، منتدى السؤدد وحماه" فإلى غاية العام 1970 لم يكن للمغرب نشيد وطني مكتوب، إلى أن أمر الملك الراحل الحسن الثاني، وقد استشعر هذا النقص، بتنظيم مباراة بين أفضل الشعراء المغاربة لكتابة نشيد يصبح هوية بلادهم ، مشترطا قيدا فنيا صعبا، يقضي بأن تساير كلمات النشيد، الإيقاع الموسيقي لما كان يسمى ب"السلام الملكي"، وهو لحن ألفه الفرنسي "ليو مورغان" في عهد الحماية الفرنسية على المغرب. ومن المؤكد أن الحسن الثاني كان معجبا باللحن الموسيقي ، وكذلك والده، فإلى جانب موهبة مؤلفه الذي استطاع أن ينقل مشاعر المغاربة الوطنية، ويسكبها في قالب موسيقى ليس غريبا على سمعهم، لذا سرعان ما ألفوه منذ الاستقلال. لم يكن سهلا على أي شاعر متسابق التقيد باللحن، وتأثيثه بكلمات ذات إيقاع خاص بها، جيدة وواضحة المعنى تعبر بصدق وعاطفة قوية جياشة عن الشعور الوطني الجماعي لكل المغاربة حيال وطنهم مثلما تعكس تعلقهم ببلادهم واستعدادهم للتضحية من اجلها. كان يحلو للشاعر الصقلي أن يروي لثلة من أصدقائه، تفاصيل اللحظة التي أعلن فيها عن فوز قصيدته (منبت الأحرار) . أجازتها بالإجماع اللجنة التي اختار الملك أعضاءها بعناية، مشددا على تحليها بالنزاهة والموضوعية. وقبل أن يطلع الملك على ما انتهت إليه اللجنة، سأل الأعضاء إن كانوا قد احتكموا فعلا إلى ضمائرهم ومعرفتهم الأدبية ، مضيفا انه لن يقبل منهم المجاملة أو المحاباة في ترجيح عمل فني، سيبقى مدى الدهر عنوانا للمغاربة . أقسم الأعضاء أنهم احتكموا إلى معيار الجدارة والإجادة التامة باصطفائهم لكلمات مولاي علي الصقلي. لم يكن الاسم غريبا على الملك، فقد عمل الشاعر في الديوان الملكي، بعد الاستقلال في الكتابة الخاصة للملك الراحل محمد الخامس، وبتلك الصفة كتب عددا من الظهائر (مراسيم) الملكية التي كانت تنسخ بخط مغربي أصيل، قبل أن يطلع المغاربة على صورتها ومحتواها. كيف صاغ الشاعر نشيد الوطن ؟ صحيح أن العبارة لا تعوزه بل تأتيه الجمل الشعرية منقادة مطواعة. لكن المشكل في إخضاعها للحن السابق عليها وتناغمها معه. رهان صعب دفع الصقلي إلى الاستعانة بالخبرة الموسيقية لصديقه الموسيقار الراشدي. سهر الاثنان ليالي طوال، يتدربان على البروفات حتى أحسا بتطابق الكلمات مع اللحن الأصلي تطابقا تاما واطمئنا إلى العمل فرقصا فرحا وطربا بالانجاز الذي ينتظره عاهل البلاد الراحل الحسن الثاني. كان حدثا فنيا ووطنيا غير مسبوق، أول المبتهجين والمنوهين به الملك الحسن الثاني الذي أمر بأن يتم توزيعه موسيقيا، على يد أمهر العازفين والموسيقيين، ليكتشف المغاربة عظمة النشيد في مباريات كاس العالم عام 1970 في مكسيكو، حيث اكتملت الفرحة بتأهيل الفريق الوطني لكرة القدم وفوزه في الأطوار الأولى في تلك المنافسة الرياضية العالمية. قبل المصادقة على النشيد، استأذن الملك الحسن الثاني الشاعر واللجنة، بأن يغير كلمة واحدة فقط من كلمات النشيد. ففي الأصل كتب الشاعر "عطر كل لسان" لاحظ الملك بأدب إن لفظة "عطر" التي قصد بها الشاعر حلاوة ومتعة التغني بالوطن، لا تناسب السياق من وجهة نظره، مقترحا على الشاعر أن يستبدلها ب "ذكر كل لسان"، خاصة وان اللفظتين على نفس الوزن الموسيقي. صفق الحاضرون وغادروا القصر الملكي يرددون "منبت الأحرار .. مشرق الأنوار"، السمفونية المغربية الخالدة. لم ينس الملك تلك التحفة الشعرية للشاعر الصقلي. كان يتصل به حسبما روى بين الفينة والأخرى ليطلب منه عملا ثقافيا. وفي إحدى المرات عبر الملك عن رغبته في الاستماع إلى المصحف الشريف بتلاوة الشاعر على الصقلي لفصاحته ونطقه السليم ونبرات صوته الشجي. رحمهما الله.