شكَّلَ الشبابُ وقضاياه، كما تتبعنا ذلك، أهم محاور الخطاب الذي وجهه الملك محمد السادس بمناسبة ذكرى 20 غشت. فقد كان تأهيل الشباب المغربي، وضمان حقه في التعليم والشغل، القضية الوحيدة التي تناولها الخطاب الملكي إلى جانب قضية الوحدة الترابية. ولعلَّ أول ما يُلاحظ، من الناحية الشكلية، أن الملك أعطى الأولوية لقضية تشغيل الشباب، وتوفير التعليم والتكوين المناسبين له، بينما جعل قضية الوحدة الترابية في المرتبة الثانية. وفي ذلك إحالة على الطابع الاستعجالي لقضيتي التشغيل من جهة والتعليم والتكوين من جهة أخرى، وعلى أن النهوض بأوضاع الشباب المغربي عموماً يشكل اليوم أولوية الأوليات وطنياً. أما من جهة أخرى، فالمُلاحَظ أن الخطاب الملكي كان، في معظمه، عبارة عن قرارات عملية تهمُّ أكبر المعضلات الاجتماعية التي يعيشها المغرب حاليا: التعليم والتشغيل. وهو ما يعني أن زمن المزايدات الخَطَابية التي يريد البعض أن يُغرق فيها المغرب والمغاربة قد ولى تماما. وبَدَلَ تدبيج الخُطب الرنانة، والشعارات الفضفاضة، فإن النخبة السياسية والاقتصادية والتربوية والمهنية في البلاد سيكون عليها جميعاً أن تتكلم لغة الواقع الملموس من خلال الآليات المؤسساتية التي أعلن الملك عنها. وهنا يكمن السؤال الأكبر: هل لدى الحكومة والأحزاب السياسية والنقابات والمهنيين والأطر التربوية والتعليمية تصورات عملية للإجابة عن الأسئلة العملية في مجال تكوين الشباب المغربي، وتعليمه، وتشغيله؟ ربما يقول تاريخُنا القريب جدا بأن سرَّ الفشل في كل البرامج التي هَمَّت الشغيل والتكوين والتعليم، منذ التسعينيات من القرن الماضي، يعود بالأساس إلى فساد النُّخب ولهاثها الغريب وراء المصالح الشخصية والفئوية الضيقة على حساب الشعب والبلاد. فمن برنامج "المقاولون الشباب" إلى برنامج "مقاولتي" تناثرت الفضائح التي أبانت عن وجود فساد عظيم أغرق كثيرا من الشباب الذين استفادوا من تلك البرامج في الديون، وحوَّلَهُم إلى مُفلسين مُطَارَدين من طرف العدالة، عوض أن يجعل منهم مقاولين يساهمون في إنعاش الاقتصاد وتنمية البلاد. ومن "المجلس الوطني للشباب والمستقبل" إلى "الوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات" يبدو أن المستفيدَيْن البارزين من كل ذلك المسار هما الحبيب المالكي وأنس الدكالي، حيث يوجد الأول، الذي كان أمينا عاما لمجلس الشباب والمستقبل، على رأس الغرفة الأولى بالبرلمان، بينما يوجد الثاني، الذي كان مديرا عاما للوكالة الوطنية لإنعاش التشغيل والكفاءات، على رأس وزارة الصحة. وذلك رغم أن لا مجلس المالكي ولا وكالة الدكالي استطاعا أن يضعا حلاًّ ناجعاً لمعضلة البطالة، وإلا ما كانت لتكون اليوم في صلب الخطاب الملكي. ومن الميثاق الوطني للتربية والتكوين إلى البرنامج الاستعجالي لم يُصْلَحْ أمرُ التعليم والتكوين بينما تمَّ تبديد الملايير من المال العام دون جدوى ليُصبح الرهان الآن على الرؤية الاستراتيجية 2015 2030. وبين "الميثاق" و"الرؤية" سال مدادٌ كثير عن فضائح لا يتسع المجال لسردها جميعا هنا. غير أن الأكيد هو أن فضيحة بيع مقاعد الماستر لن تكون آخرها. وكل هذا بالتزامن مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، والتي كان من المنتظر أن تساهم، هي الأخرى، في امتصاص البطالة من خلال مشاريع الأنشطة المذرة للدخل. لكن البطالة ظلت هي البطالة، وما تزال حتى الآن عصية على كل "البرامج" و"المخططات" و"الاستراتيجيات". أمام هذه الحصيلة السلبية الثقيلة، التي أعادت المغرب اجتماعيا إلى ما كان عليه في التسعينيات، ربما يكون علينا أن نتساءل: أين يكمن الخلل بالضبط؟ والجوابُ يقدمه الواقع الحي، الناطق، الذي لا يمكن أن تُخفيه الأرقام البَلْهَاء ولا التصريحات الخشبية. فالخلل يوجد في الأحزاب السياسية، والنقابات، والنخب القطاعية بالأساس. ذلك أن هؤلاء وأولئك هم أبعدُ ما يكونون عن نخبة فعلية، أفرزتها الممارسة، وصَهَرَتها التجارب، وتتمتع بالمعرفة النظرية والعملية اللازمة، ويبقون في معظمهم مستفيدين من مختلف أشكال الريع السياسي، والاقتصادي، والنقابي...إلخ. وهو ما يضع برامجنا التنموية الوطنية بين أيدي "نخبة" ليس لها في الواقع من النخبة إلا الاسم. هذا هو الخطر الذي ما يزال، وسيبقى، قائماً. وهو ذات الخطر الذي يتهدد اليوم ما حمله خطاب 20 غشت 2018 من قرارات هامة واستراتيجية. ولعل المطلوب الآن هو الانكباب على التشخيص العلمي، الموضوعي، لمكامن الخلل في منظومة التربية والتكوين التي أشار إليها الخطاب الملكي، والتي تهم أساساً موضوع الملاءمة بين التكوين وحاجيات سوق الشغل. فمن غير المعقول بتاتا أن تتفشى البطالة في صفوف الشباب بتلك النسب المهولة بينما تعاني المقاولات، كما تطرق إلى ذلك الملك، من حاجيات كبيرة على صعيد الموارد البشرية المؤهلة. ومن غير المنطقي تماماً أن تتقاعس الوزارات، والجماعات المحلية، وغيرها من المؤسسات العمومية، عن تسديد الديون المترتبة عليها لفائدة المقاولات علماً أن ذلك يؤدي إلى قيادة تلك المقاولات نحو حافة الإفلاس، وبالتالي إلى فقدان مناصب الشغل بكل ما لذلك من آثار وخيمة على الحياة الاجتماعية للمواطنين. فهنا بالضبط لا تحضر الموانع الموضوعية بقدر ما تحضر الحسابات السياسوية الضيقة، والابتزاز، والمساومات الرخيصة المعبرة عن الأطماع الشخصية. ذلك أن ما يجعل المسؤولين عن الجماعات، والجهات، وغيرها، يُحجمون عن تسديد ديون المقاولات ليس قلة الموارد المالية وإنما هو الرهانات الانتخابوية، واللُّعَابُ الذي يسيل وراء العمولات، وما شكل ذلك من ممارسات هدفها النهائي هو الإثراء غير المشروع، وتحقيق المكاسب الشخصية أو الحزبية، على حساب رهانات وطنية كبرى تهم مستقبل البلاد ومصير الشعب المغربي بأكمله. ثمة ثقافة ينبغي القطع معها اليوم تماماً هي ثقافة استغلال المرفق العام لفائدة القبائل الحزبية، والمزارات النقابية، والمآرب الخاصة. وفي مقابلها ينبغي القيام بمجهود جبار، على صعيد التوعية والتثقيف، بغاية ترسيخ ثقافة المرفق العمومي التي بموجبها يكون كل مَنْ يتولى مهام تدبير الشأن العام في خدمة الغايات الوطنية الكبرى، وفي إطار الربط الصارم بين ممارسة المسؤولية وقابلية المحاسبة المؤسساتية والشعبية. وطالما أن نُخبنا ما تزال في أغلبيتها الساحقة مهتجسة بالصعود الاجتماعي الفردي، ومظاهر البذخ والثراء والنفوذ، ويغيب عن وعيها تماماً أن وجودها في مواقعها تلك هو أساساً لخدمة الوطن والمواطنين، فسيظل الفارق كبيرا، و ستبقى الهوة شاسعة، بين رهانات الملك وعوائق النخبة.