تعددت صنوف النصب والاحتيال عبر تاريخ المغرب وتعدد النصابون واختلفت أساليبهم باختلاف الظروف السياسية والاجتماعية، فهناك نصابون مارسوا النصب تحت حماية السلطة، ويمكن تصنيفهم في خانة النصابين "القانونيين"، فهؤلاء كثر ولا يمكن حصر عددهم، إذ أن صفحات التاريخ مليئة بهم، وهذه النماذج لا تعنينا وتحتاج إلى مجلدات، لكن الذي يعنينا هم أولئك الاشخاص الذين مارسوا النصب بعيدا عن حماية السلطة، بل كانوا مطاردين من طرفها، وكثيرا ما تعرضوا لعقوبات زجرية كلما ضبطوا متلبسين. وفي عصرنا يتربع على عرش هؤلاء شخص امتاز بدهاء كبير وبجرأة فائقة في ممارسة النصب وقام بتنفيذ عمليات نوعية في هذا المجال، وليس سوى ذلك الذي لقب بسلطان باليما، نسبة إلى مقهى باليما الشهير في الرباط والذي كان مركزا لقيادة عملياته في النصب والاحتيال التي مارسها منذ بداية الاستقلال، واستمرت الى نهاية التسعينات من القرن الماضي. وهذا الشخص الذي ينحدر من وزان اختار أسلوبا خاصا للقيام بعملياته، ويتجلى في نوعية اللباس الذي كان يرتديه والذي كان لباسا مخزنيا، تشبها باللباس السلطاني، إذ كان يوهم ضحاياه انه من الاسرة الملكية ويدعي أحيانا انه مسؤول بالتشريفات الملكية كما سيرد ذكره في إحدى عملياته الخطيرة وأحيانا ينتحل صفات أخرى اثناء ممارساته لعملية من عملياته المتعددة والمتنوعة، حيث كان يختار ضحاياه بعناية فائقة ويستهدف بالخصوص الاثرياء والميسورين الطامحين والطامعين في الجاه والسلطة، او المتزلفين لهذه الاخيرة او أصحاب المظالم الذين يبحثون عن منقذ والذين كان يتصيدهم ويبتزهم، مقابل إيهامهم بانه سوف يتدخل لفائدتهم وانه سيساعدهم على إيجاد حل لمظالمهم، من موقعه كمقرب من الاسرة الملكية وقد كان مظهره وهندامه المخزني يبعث على الاطمئنان، كما كان بمثابة الضمانة الاساسية في نظر الضحايا الذين لم يكونوا يبخلون عليه بتقديم عمولات محترمة وهدايا ذات قيمة مادية كبيرة، وخاصة منهم الوافدين على العاصمة من مناطق المغرب النائية، حيث كان يختلي بهم داخل المقهى ليصرفهم وهم مطمئنون على مصائر قضاياهم، ليعودوا الى مناطقهم يغمرهم الامل والتفاؤل في انتظار الذي قد يأتي أولا يأتي. وسوف استعرض بعض نماذج النصب التي مارسها والتي رويتها عنه شخصيا قيد حياته، حيث كانت نيتي تسجيل حوارات معه حول ضروب النصب التي مارسها وفاتحته في الموضوع وأبدى موافقته، الا ان مرضه في أخر حياته حال دون تحقيق مشروع كتاب حول هذه الشخصية غريبة الاطوار التي تركت بصمتها على مرحلة من تاريخ المغرب، وخاصة منذ الاستقلال والى أواخر سنوات السبعينات قبل ان يتم منعه من ارتداء لباسه المخزني. كانت بداية ظهور رجل تميز بارتداء لباس مخزني يشبه إلى حد كبير ذلك الذي اعتاد السلاطين المغاربة ارتداءه، في مناسبات رسمية في ذلك العهد، كانت قبيل عودة السلطان محمد بن يوسف من منفاه السحيق، وبالذات عندما حل ب "سان جرمان أونلي" كمرحلة أولى في طريق عودته المظفرة إلى وطنه والى عرشه، حيث كانت وفود الشخصيات الوطنية تتقاطر على مقر إقامته، مباركة سلامة العودة، ومجددة البيعة لجلالته، كما كانت مناسبة بالنسبة للبعض، لإبداء حسن النية والتعبير عن ولائه وتعلقه، خاصة منهم أولئك الذين كانت لهم ارتباطات بشكل او بآخر بالادارة الاستعمارية، أو كان لهم موقف سلبي تجاه الانتفاضة الشعبية، اثر إقدام المستعمر على الاعتداء على الشرعية ، بنفي الملك الشرعي وأسرته إلى جزيرة مدغشقر. وكان محمد الوزاني الذي أصبح فيما بعد يحمل لقب سلطان "باليما"، من بين الذين شدوا الرحال إلى العاصمة الفرنسية، مرتديا زيه المعتاد، مما أثار فضول الصحافة الفرنسية، حيث بادرت جريدة "ألفيغارو" الى أخذ تصريح منه، أكد فيه انه ينتمي إلى الاسرة العلوية الشريفة، وأن له رأيا يجب اعتباره فيما يتعلق بقضية استقلال المغرب وعودة السلطان الشرعي إلى عرشه، حيث تفاجأ المسؤولون الفرنسيون قبل المغاربة بهذا التصريح الصادر عن شخص نكرة ،لا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالفاعلين المعروفين على الساحة السياسية الوطنية، وبما انه وزاني فقد كان له عطف فطري، على زعيم حزب الشورى والاستقلال محمد بلحسن الوزاني، ومن ثم فانه لم يكن على ود مع غريمه حزب الاستقلال الذي كان هو اللاعب الاساسي على مسرح الاحداث يومئذ، بل كان يسمي كل السذج والمغفلين ب "بقر علال" ،مما جعل الابواب مغلقة في وجه هذا الشخص المتطفل، ومن هنا بدأت رحلته، حيث اختار اللجوء الى أسلوب أخر لانتزاع حقه من كعكة الاستقلال، واختار مقهى "باليما" مقرا لمغامراته، مستغلا حماس المغاربة وسذاجتهم كذلك، حيث اخذوا يتوافدون تباعا، على العاصمة من مختلف الجهات، للتعبير عن فرحتهم بعودة بطل التحرير محمد الخامس، وحيث إن الوزاني كان يتوفر على قدر لاباس به من الوعي السياسي، فقد كان يتصل بكل من توسم فيه أن لديه وضعا اجتماعيا معتبرا، ليوهمه انه من الأسرة الملكية، وانه سوف يساعده على تحقيق كل مأربه، خاصة وان الظرف كان مناسبا وان المغرب في حاجة إلى من يملأ فراغ انسحاب الاطر الفرنسية من الادارة المغربية، حيث لعاب الجميع كان يسيل ليكون هو البديل، ومن هنا بدأت الحكاية بل الحكايات مع مغامرات السلطان الشرعي ل "باليما" التي سنعرض لاهمها في سياق الحديث عن هذه الشخصية المسرحية المثيرة. واصل سلطان باليما صولاته وجولاته في عالم النصب والاحتيال، وكانت السنوات الاولى للاستقلال وما تلاها من سنوات الستينات والسبعينات، من أكثرها ازدهارا وعطاء بالنسبة له، حيث اتسمت بانجاز صفقات نوعية في عالم النصب والاحتيال، كما تميزت بمظاهر الارتياح البادية على وجهه، حيث كان السلطان يسير بنوع من الخيلاء في شارع محمد الخامس، كما لو كان بطلا فاز في مباراة دولية وأحرز أحسن الجوائز ونال أفضل الالقاب، فهو إما يكون في جولة بالشارع يسير بخيلائه المعهود كالطاووس، مرتديا زيه التقليدي، ماسكا خيزرانه "الملكي" في اليد اليمنى وعلبة "بال مال" و ولاعة ذهبية في اليسرى، في نوع من استعراض العضلات، او خطيبا سياسيا في مجلس حافل بوجهاء البلد وبالشخصيات المهمة بمقهى "باليما"، وهو مثار اهتمام المارة الذين كان اغلبهم وافدين على العاصمة الادارية، لأغراض يبتغون قضاءها، تختلف باختلاف الجهات القادمين منها، مما يجعلهم يبحثون عن وسيلة توصلهم الى هدفهم، وبما أن مظهر سلطان "باليما" كان يوحي لهم بأهمية الرجل، وكذا بنوعية علاقاته بذوي الجاه والسلطة، وبنفاذ كلمته لديهم كذلك، مما يجعلهم يقصدونه مباشرة، للاستنجاد بخدماته التي لم يكن يبخل عليهم بها شفاهيا، على الاقل لكن مقابل عمولات وهدايا تليق بالمقام. وسلطان باليما يعرف جيدا كيف يتصيد زبائنه وكيف يعاملهم كذلك ، كما لو كان طبيبا نفسيا ماهرا، حيث يخاطب كلا منهم بعقلية البيئة التي ينتمي إليها، اذ لم يكن يرفض لهم اي طلب، بل حتى المرضى منهم كان يعالجهم كطبيب بطريقته الخاصة، فقد كان مصعد فندق باليما هو جهاز "الراديو غرافي" الذي كان يفحصهم بواسطته، حيث كان المريض القادم من العمق المغربي ، يصعد به في المصعد وينزل ليؤدي في النهاية ثمن الزيارة، اعتقادا منه انه تعرض لفحوصات "راديوغرافية" من طرف طبيب مختص، وهكذا تستمر مغامرات السلطان وتتنوع على مستوى العاصمة الادارية، وتبقى المهام التي كان يقوم بها خارج العاصمة، ذات طبيعة مختلفة، إذ كان بين الفينة والأخرى يغيب عن الانظار،كلما تطلب الموقف الانتقال الى مدينة من المدن لمعالجة مشكل طارئ، يستدعي تدخلا سريعا من طرف السلطان شخصيا، إذ كثيرا ما كان مسؤولا محليا او اقليميا ضحيته، بدعوى انه من ذوي النفوذ بالعاصمة او ينتمي إلى الأسرة الملكية وساعده على حل مشكل ما من مشاكل زبنائه الكثيرين.