افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 31 أكتوبر 2024 قبْل السَّفر بأيّام أثقل في بُطْئها من أضغاث الأحلام، قرّر مْسَلّكْ لِيّام، أنْ يحْتفلَ بسفره وحيدا، أنْ يدْفن دون أن تُشاركه يدٌ في قبْضة الفأس، ما قد يقْترفُه من فضائح في مقْبرة اللَّيل السّحيقة، فهو يُؤمن حدَّ الكفر بكلِّ الأصْنام، أنَّ حتّى أقرب الأسْتار في كواليس المُجتمع، لا تُؤْتمَن أفواهها في حِفْظ الأسرار، أوَ ليس من حقِّ الطائر، قبل المُقامرة بجناحيه على مائدة الرِّيح لآخر ريشة، أن يُخصِّص لنفسه ليلة لا تُشْبه في أقْمارها المُدوَّرةِ نساء الأرض، وما الضّيْرُ في كوْكب آخر شاردٍ لا تحتويه سماء، هُناك قد يُسرِّع من وتيرة الزمن، لِيخرُج بشريط الحياة من كلاسيكيّة الأبيض والأسود، ألا ما أضْيَق العيش والعُش أيْضاً، لولا الفسحة التي في عُلْبةٍ حمْراء !
دَلَفَ إلى حانة لا يَرْتادها المَألُوفون، أولئك الذين استنسختهم الذّاكرة أكثر من مرّة حتّى صاروا باهتين، كان دُخان السّجائر على أشُدِّه متوتِّراً يَشُدُّ بِخيوط مُترامية، كل عنكبوت إلى بيته الواهن، فَمِنْهُم المُدلِّي الرّأس بذقْنٍ على حافّة الكأس، ينشر رِجْليه من الكُرسي على قارعة الحريق، فتَبْدُوان كغُصْنين تَدَلّيا من فرع شجرة، فلا تعرف هل ينتظر القطار أو عُبور المِنْشار، ومِنْهُنَّ مَنْ تُخْضِع كلّ وافِدٍ جديد للِخبْرة من حيث لا يدري، فإمّا تبْرح الكونطوار إليه بخفَّة الجائِع الملْهُوف للمَرَق، أو تَزْدريه بعد أن اتَّضَح من هيئته البالية، أنّه مُجرد طَلْح بشري لا يطرح حتّى النَّبَقْ !
لكن هيهات.. من أيْن لِغانِياتِ الكونطوار الوُلوج لجيْب أو قلب مْسَلّكْ لِيّام، وتلك الشقراء المُكلّفة بتدبير تأشيرة السّفر في حالة الدّعوات الثقافية ذاتِ المُسْتوى الرّفيع، ما زالت تَسْتَنْفِرُ بِعِطْرها الفاغِمِ في حواسِّهِ كل الوُحوش، كيف لا وقَدْ ملأتْ مع الأوراق المُوجّهة للقُنْصلية الفرنسيّة، كُلَّ الأحْيَاز التي يُمْكن أنْ تتشكّل فِي هيْئة امرأة، لذلك رُبّما قال ابن عربي: "كل مكانٍ لا يؤنَّثُ، لا يُعوَّل عليه" .. فيَا لَرِقّتِها التي اخترقتْ جسدهُ الأرْكيُولوجي المُصَفّح كحيوان الأرماديللو، وجَعلتْهُ وهو يَتذوّقُ طَعْم الحضارة، ينسى في هذا الزمن المُخنَّثِ إرْثَ المرارة، تذكّرَ مُتذوِّقاً طَعْم الحضارة صديقه (غرينغو) الوديع حين قال: إنّ الشُّعراء هناك يُعَاملُون كالأنبياء، أمّا عندنا فَحتّى النّبي في أول عهده بالسماء، اتّهموه بأنّه شاعر ثمّ مجنون وساحر، وتلك تُهْمة تجعل الكلمات، سواء نزلت من فوق أو صعدت من تحت، تفْقِد مع قُدسيتها كُل قيمة !
أمْعن مْسَلّكْ لِيّام التَّحْديق في زوايا الحانة قبل التّماهي مع الأشباح، ثُم تَنفَّس من كل الثُّقوب التي يُهيِّئها لتُصْبح مَجاري للرَّاح، مَا اسْتَنْشقهُ مع أول خطوة تهوي في الأدراجِ السُّفْلِيّةِ للجحيم، قال: حمداً لله لا أحد يعرفني !، فهُو يريد لحفْلته التَّنكُّرية أنْ تكون انتحارية، فإمّا أن ينجو ويتحقّق السفر، أو يتردّى في حُفَرِ الليلِ إلى مهاوي الخطر، هكذا نحن.. لا نسْتشعر الفرح عميقاً، إلا حين يصلُ المِبْضع إلى العظم في مِشْرحة، نَشْرب في السّراء والضراء ونبكي في كليهما، نحسو الأولى والثانية والعاشرة بعد الثالثة صباحا، ولا نعرف في أي زجاجة انقلب السُّكر إلى صحْو، لا نعرف التّوقُّف دون أن نُغادر المكان مطرودين، كانت الحانة تضِجُّ بالأغنية الشّعبية التي مطلعها: من كازا لمارساي، ورغم أنّ مْسَلّكْ لِيّام، ليس مِمَّنْ يُلقي بشحْمةِ أذنه ولَحْمتِها أيضاً للكلب الجائع، إلا أنّ هذا الغناء لقيَ في نفْسه الحائرة قبولا حسناً، ربّما لأنّه أدْرك مُتأخِّراً أنّ اللامبالاة أقْصَر السُّبُل لعيْش الحياة !
قفز مْسَلّكْ لِيّام من الشّاشة الكبيرة تحت الأنظار الزّائغة في الحانة، وصاح وهو يُحاكي رقصة زوربا: لِتقُلْ الأغاني ما تُريد، فأنا لا أُقدِّمُ ولا أؤخِّرُ سطْراً في كتاب الأصْفهاني، أستطيع أن أقْبَل العالم الآن كما هُو دون زيادة أو شيطان، يكْفي أني أحْمل في جيبي كما في قلبي، جواز سفر بتأشيرة "شِنْغن" تمتدُّ في صلاحِيّتها لحوالي سنة، بل وتذْكِرة سفر بالطائرة من كازا لمرساي، يا لَروعةِ هذه الأغنية كيف تُضْفي مع المياه النّارية، جُرْعة قوية من النسيان، يا لَتَهتُّكِها المائع، فقد جعل مْسَلّكْ لِيّام يغْثو كل ما ترسَّب من أعطاب في بئْر الذاكرة، أيْقن أنَّ لا شيء يسْتحِق أنْ يُحْزَمَ مع حقيبة السّفر، وأنّ الإنسان ضعيف وهو ينخرط في جدال عقيم مع الجراح، وأنّ أفظع الذِّكْريات لا ترتدُّ بالمرء إلى نقطة الصِّفْر فقط، بل تُعيدهُ إلى بدائيّته ليقْضي بقيّة العمر، في أحد الكهوف السحيقة بتجاويف النَّفْس، فيَا لَفظاعةِ الذِّكْرياتِ حين تسْتَدْرِجُك للجُذور وتَجدُها مقْطوعة، يا لَمَكْرِها، حِينَ تتسرَّبُ من الشُّرفة مع أغْنية عتيقة تحْمِلُها الرِّياح !