افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 3 فبراير 2022 ما أوْسَع الفَرْق بين أن تكون فلِّينةً أو تمْتطيها لتطفو على السَّطْح الجارِف للحياة، أمَّا "مْسَلَّكْ لِيَّامْ"، فقد قرَّر هذه المرَّة بعد أن فقَد السَّيْطرة على خُططِه الصَّغيرة، أن يسْتسلم للْقَدر الذي يُريده مُجرَّد فلِّينَةٍ فاقدةٍ لإرادة اختيار هدفٍ منشود، قرَّر أن يخْتار لهذه القطْعة المطَّاطية التي أصبح على شاكلتها الحقيرة، أسْرَع الطُّرق ليُنْقِذ نفسه ومن حواليه من قَرَف العيش في الحُفر، وما الضَّيْر أن يُصبح المرء ولو مرَّة في حياته خفيف العقل، ففي زمننا لا يغْنَمُها إلا البُلداء، ما الضَّيْر أن تفْقد الإرادة كلوحٍ فلِّيني يتقاذفُهُ التِّيار في مَجْرى جارف، أرْض الله واسعة وقد تنْفرِجُ الأزْمة ومعها الغُمّة في أقصى الأصْقاع، فإمَّا طفُوٌّ على وجه الحياة أو سقوطٌ تتكسَّر لارتطامه الأضْلاع !
كانت دائماً أحْلام "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" أوْسَع من كل الوسائد التي استعملَها لنوْمِه السحيق، لكنَّ عيبَه أنه يسْتمرُّ في الحُلم حتى بعد أن يستيقظ، وما أنْ يَهُمَّ بتحقيق أحد هذه الأحلام التي يُعمِّق الخيال الجامح من حُفرتها لتبدو انتحاريّةً، حتى تَخْذِلُه الجُرْأة بالانْغماس في أكثر من سُؤال واحتمال، ماذا لو تقطَّعتْ بخُطاي السُّبُل بين البلدان، لذلك ضيَّع "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" كل الفُرص التي واتَتْه في مُتناول اليد، وآثر من بين كل المسالك المُتشعِّبة في أنحاء العالم، السبيل الضَّيق الذي يفْصِل بين مقر العمل والمنزل !
حقّاً إنَّ الشَّاعر الذي يبْني حياته على الخيالات كائنٌ فاشلٌ في الحياة العمليَّة، تبّاً لي قال "مْسَلَّكْ لِيَّامْ"، لن أسْتسلِم للخوف فالمُستقبل لن يكون أسْوء من حاضرٍ أنا غائبٌ فيه اجتماعياً، عَشْرُ سنوات من العمل اليومي كبغْل مَعْصوب العينين يدور حوْل معْصرة يستفيدُ من زيْتها الآخرون، لمْ أُدْرِك بأُجْرتي الهزيلة لا البيت ولا الزوجة ومنْ أدركَ هذه الأخيرة في مثل ظُروفي، سَتُلاحقه لعْنةُ الأبناء إلى الأبد، صحيح أنِّي أفْضَل حالاً من أيّام الإتْعاس أو الإنعاش الوطني، أيَّام صِباغة الأرْصفة على الإيقاع اللوني لِحَمْرا.. بَيْضا، أيام حي دوار الدوم الذي ينْعقُ في لياليه الصَّفيحية البُوم، ولكن الإقامة في نفْس الوضْع ولو كان أفْضل من سابقه على حافَّة القبر، أشبه بالوقوف كطائر مالك الحزين على رِجْلٍ واحدة، عجباً مِن أين لذكريات الماضي هذه القُوة الإسْمنتية التي تُشيِّد جدران الخوف من المجهول، لِتَحُول بين المرء ومستقبلِه الذي يجعل مالك الحزين يستعمل وهو فرحان، عوض ساقٍ واحدة، كل ما يخْتزنه من أجنحة تحلِّق بِقُدُراتٍ هائلة في سماء أوسع !
عاد "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" مساءئذٍ وفي جيبه فُرصَة أخرى قد تكون الأخيرة.. عاد لبيتِ العائلة مُتأخِّراً على غير العادة، وقبل أنْ تتَّسع الحيرة على مُحيّا أمِّه بالسؤال عن سبب تَفْويته لِوجْبَتَيْ الغذاء والنوم بعد العصر، وهُما طقْسان تَعوَّد بحركتهما الأشبه بالتغيُّرات التي تطرأ على البحر حسب أحوال الطقس، أن يملأ بإحْداهما بطنه ويُفْرغ بالأُخرى الرأس، وكأنَّ خللاً ما أرْبَك إيقاع الكون، ولم تنْتبه لهذا الخلل إلا الأُم بِحدْسِها السُّرِّي، فهي لم تعهد تخلُّف ابنها البَكْر عن روتينه اليومي بعد الخروج من العمل، أيْ الأكل ثم النَّوم طويلا حتى يتَّصل النهار بالليل، وقبل أن تنْتقل الحيْرة لتمتدَّ رُقْعتُها بتجاعيد الاستفهام على وجوه كل مَنْ في المنزل، أخْرج "مْسَلَّكْ لِيَّامْ" بخِفَّة ساحر على الخشبة يلعب رقمهُ الأخير، جواز السفر المدسوس في جيْب السروال، ثم أطْبَق جفْنيه كَمنْ يُريد أنْ يُعانق بأهْدابهما الجميع، وعاد ليَبعثَ نظرة المُنتصر بعد أن تحلَّق كلُّ أفراد العائلة حول المُفاجأة، لقد ظفرتُ بالتَّأْشيرة قال وهو يفتحُ الصفحة المُطرَّزة بنجمتها الفِضِّية في الجواز، وكانت التَّأشيرة تحمل صورته التي تلُوح بابتسامة تقع في نُقْطة المَكْر بين البراءة والبلادة، ألَمْ أقُلْ لكم إنَّ مِساحتي تتجاوزُ بِجُغرافيتِها الرمزية مساحة هذه البلاد، لقد انتهتْ مُدة صلاحيتي هنا كأيِّ عُلْبة غذائية محدودة التاريخ، وأخشى إذا فسد لحمي أكثر أنْ يُصاب آكلوه بالتَّسَمُّم وأُصْبِح أنا المُتَّهم !
قالت فاطمة لتُمزِّق غشاء الوجوم الذي أذهل الأعيُن وأخْرس الألسن: عَزَمتَ الرَّحيل إذاً لفرنسا.. وصحَّح الأخ الأصغر بالقوْل إنَّها تأشيرة شينْغن تُغطِّي السفر لكل الدول الأوروبية، وقلتُ وأنا أفْقَأُ بأصبعي فُقاعة صابون نَفخَها باتِّجاهي أحدُ الصِّغار من جُعْبة أفْرَغها من قلم المِداد: بل قررتُ أنْ أُصبح فلِّينة وأطفو للسطح، قالتِ الأم هَلِعةً: لا تُكْثِر من الفرْقَعات الخاوية كالتي تُحْدِثُها سدَّاداتُ القوارير المصنُوعة هي أيضاً من المطَّاط، كيف تُفرِّط في عملك وتمضي للبحث عن شغل جديد في بلدان الناس، قلتُ وأنا متشبثٌ بفلِّينِيتي وعلى أُهْبة القفْز مِنْ أعلى الشَّلال: تأشيرةٌ سارية المفعول لِمُدَّة سنة فرصة لا تُعَوَّض، وسأسْتهلكها لتحقيق حُلمي إلى آخر دقيقة في عمرها أو عمري، فإمَّا أسْبح مع شعب البطريق في أعالي المُحيطات أو ابحثُوا عني تحت الأرضْ !