فيضانات إسبانيا.. سفيرة المغرب في مدريد: تضامن المغرب يعكس روح التعاون التي تميز العلاقات بين البلدين    أزمة ثقة أم قرار متسرع؟.. جدل حول تغيير حارس اتحاد طنجة ريان أزواغ    جماهري يكتب: الجزائر... تحتضن أعوانها في انفصال الريف المفصولين عن الريف.. ينتهي الاستعمار ولا تنتهي الخيانة    أسطول "لارام" يتعزز بطائرة جديدة    موتمر كوب29… المغرب يبصم على مشاركة متميزة    الزمامرة والسوالم يكتفيان بالتعادل    استفادة أزيد من 200 شخص من خدمات قافلة طبية متعددة التخصصات    الهذيان العصابي لتبون وعقدة الملكية والمغرب لدى حاكم الجزائر    إعطاء انطلاقة خدمات 5 مراكز صحية بجهة الداخلة وادي الذهب    جرسيف.. الاستقلاليون يعقدون الدورة العادية للمجلس الإقليمي برئاسة عزيز هيلالي    حزب الله يطلق صواريخ ومسيّرات على إسرائيل وبوريل يدعو من لبنان لوقف النار    ابن الريف وأستاذ العلاقات الدولية "الصديقي" يعلق حول محاولة الجزائر أكل الثوم بفم الريفيين    دعوات لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الفلسطينيين بالمدارس والجامعات والتصدي للتطبيع التربوي    توقيف شاب بالخميسات بتهمة السكر العلني وتهديد حياة المواطنين    بعد عودته من معسكر "الأسود".. أنشيلوتي: إبراهيم دياز في حالة غير عادية    الدرهم "شبه مستقر" مقابل الأورو    مقتل حاخام إسرائيلي في الإمارات.. تل أبيب تندد وتصف العملية ب"الإرهابية"    الكويت: تكريم معهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية كأفضل جهة قرآنية بالعالم الإسلامي    هزة أرضية تضرب الحسيمة    المضامين الرئيسية لاتفاق "كوب 29"    شبكة مغربية موريتانية لمراكز الدراسات    ترامب الابن يشارك في تشكيل أكثر الحكومات الأمريكية إثارة للجدل    ارتفاع حصيلة الحرب في قطاع غزة    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    خيي أحسن ممثل في مهرجان القاهرة    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    مدرب كريستال بالاس يكشف مستجدات الحالة الصحية لشادي رياض    مواقف زياش من القضية الفلسطينية تثير الجدل في هولندا    توقعات أحوال الطقس لليوم الأحد    بعد الساكنة.. المغرب يطلق الإحصاء الشامل للماشية        نادي عمل بلقصيري يفك ارتباطه بالمدرب عثمان الذهبي بالتراضي    ما هو القاسم المشترك بيننا نحن المغاربة؟ هل هو الوطن أم الدين؟ طبعا المشترك بيننا هو الوطن..    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    موجة نزوح جديدة بعد أوامر إسرائيلية بإخلاء حي في غزة    الأمن الإقليمي بالعرائش يحبط محاولة هجرة غير شرعية لخمسة قاصرين مغاربة    موسكو تورد 222 ألف طن من القمح إلى الأسواق المغربية    ثلاثة من أبناء أشهر رجال الأعمال البارزين في المغرب قيد الاعتقال بتهمة العنف والاعتداء والاغتصاب        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    مظلات ومفاتيح وحيوانات.. شرطة طوكيو تتجند للعثور على المفقودات    الغش في زيت الزيتون يصل إلى البرلمان    المغرب يرفع حصته من سمك أبو سيف في شمال الأطلسي وسمك التونة    "طنجة المتوسط" يرفع رقم معاملاته لما يفوق 3 مليارات درهم في 9 أشهر فقط    قوات الأمن الأردنية تعلن قتل شخص بعد إطلاقه النار في محيط السفارة الإسرائيلية    لقجع وبوريطة يؤكدان "التزام" وزارتهما بتنزيل تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية بالمالية والخارجية    المخرج المغربي الإدريسي يعتلي منصة التتويج في اختتام مهرجان أجيال السينمائي    حفل يكرم الفنان الراحل حسن ميكري بالدار البيضاء    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    الطيب حمضي: الأنفلونزا الموسمية ليست مرضا مرعبا إلا أن الإصابة بها قد تكون خطيرة للغاية    الأنفلونزا الموسمية: خطورتها وسبل الوقاية في ضوء توجيهات د. الطيب حمضي    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



3 مارس.. الذكرى التي حوّلها الحسن الثاني إلى «قدّاس ملكي»
نشر في أكادير 24 يوم 03 - 03 - 2017

كان اليوم الذي تخرج فيه كوكبة الأغنياء والنافذين والأعيان للوقوف على صعيد واحد، راكعين خاضعين لهيبة السلطان. كان اليوم الذي تسبقه أيام من الاستثناء الإعلامي والثقافي والتعليمي، حيث يتوقّف كل شيء لتجديد البيعة والتعبير عن الولاء. وكان اليوم الذي يلقي فيه الحاكم الأول والأخير أقوى بياناته السياسية للسنة، ويخاطب الداخل والخارج، ويكشف طبيعة طموحاته ورهاناته الجديدة للعام المقبل.
ألقى الملك الحسن الثاني أول خطاب للعرش يوم ثالث مارس 1961 من أعلى منصة شيّدت في رحاب المشور خارج القصر الملكي. وبعدما دخلت المملكة عصر التلفزيون في السنة الموالية، أصبح ذلك الخطاب يدخل جميع البيوت. وقبل أن يجلس أفراد الأسر في وقار وخشوع أمام إطلالة الملك بقلمه الذهبي في اليد ونحنحته المزدوجة في بداية الخطاب، قبل أن ينطلق مرددا بين الفينة والأخرى: «شعبي العزيز»؛ كانت كلّ الأشكال الاحتفالية والطقوس الاجتماعية والدينية مطالبة بالانخراط في سيمفونية التهليل للملك التي تدوم عدة أسابيع. كان عيد السلطة، بعدما بدأ عيدا للشعب، فرصة لتباري القياد والباشاوات والمنتخبين والعمال والولاة في إبداء المهارة في التعبئة والتجييش. كان استعادة حرفية لأدق تفاصيل الاحتفاء بشخص السلطان والحاكم التي عرفها تاريخ البشرية.
الأنتربولوجي، حسن رشيق، يقول إن الطقوس والبروتوكول الملكيين بمثابة السياق السياسي الذي يعبّر عن مواقف الأطراف المتصارعة. ويوضح رشيق، في دراسة له حول التوجّه نحو تقديس الحاكم بالمغرب، أن الذي يقبّل يد الملك من الجهتين، يعبّر عن خضوع كبير تجاهه، وأن الطقوس ذات دلالات أكثر بلاغة من النصوص، حيث تسمح بالتعبير عن الأفكار دون الحاجة إلى الإعراب عنها بالكلام أو الكتابة. وفي حديثه عن حفل الولاء، قال حسن رشيق إنه الحدث الأكثر «فرجوية» في الطقوس الملكية، موضحا أن منظميه يحرصون على حضور ضيوف مشاركين في الحفل، ومتفرجين يقفون بعيدا لمشاهدته، ما يعطيه طابع الفرجوية المقصودة. فرجوية باتت مع الحسن الثاني تنقل نقلا مباشرا عبر التلفزيون، ليصبح الجمهور المتفرّج هو الشعب المغربي بالدرجة الأولى.
كانت احتفالات 3 مارس عيد الدولة بامتياز، وبما أن الدولة هي الحسن الثاني، وهذا الأخير في احتفال، كان على المغاربة جميعا أن يحتفلوا. وكانت التحضيرات والتوجيهات وتأطير هذه الاحتفاليات تتم فوقيا، فيما التنفيذ يكون على المستوى الأدنى، ويتوسع أفقيا نحو الهوامش والمناطق المهمشة والمعزولة التي ينفتح عليها المخزن في هذه المناسبة. وكانت الغاية هي خلق صورة متفردة لشخص الملك، بما يجعله أبا الجميع وفوق الجميع، يخيف ويطمئن، يعاقب ويجازي، يعطي ويمنع، هي من أدبيات البروتوكولات الملكية التي تبلغ ذروتها في حفل الولاء الذي يقام غداة عيد العرش.
نحن الآن عشية حلول يوم العيد، ملايين الأعلام الحمراء تكسو تراب المملكة بمدنها وقراها وجبالها وحتى شواطئها، الحياة بهيجة والمواطنون «سعداء» يضعون آخر اللمسات على ملابسهم الجديدة. الشعراء يتبارزون في تحضير قصائدهم الوطنية والرومانسية والحماسية، والمغنون يجهّزون حناجرهم الذهبية لتصدح على أنغام آخر الألحان. لا يوجد حيّ ولا دوار بدون منصة للاحتفال، فهو العيد الأكبر، المدارس في عطلة غير معلنة، أقسامها أزاحت مقاعد الدراسة إلى أحد الأركان لتتحوّل إلى ورشات للمسرح والرقص والغناء والرسم والإبداع، والجدران كلّها ارتدت البياض بعد طلائها ب«جير» ناصع البياض نال رضى المقدّمين. الجميع يجلس مساء كلّ يوم ليتفرّج على برامج «الخير والنماء»، والتعرّف على آخر ثمار «الديمقراطية الحسنية» و«العهد الحسني الزاهر»… هكذا كان سيبدو المغرب في يومي نهاية الأسبوع هذه، لو كان ثالث مارس الحالي يعود إلى إحدى السنوات الأربعين الأخيرة من القرن العشرين.
عيد العرش في عهد الحسن الثاني تحوّل إلى مناسبة احتفالية استثنائية، كادت تتفوّق في طقوسها ومظاهر الاحتفال بها على أهم وأعرق الأعياد الدينية للمغاربة. ثياب جديدة، أطعمة لذيذة، وكرنفالات، وسهرات، وذبائح وقرابين، كلّ ذلك قربانا لذكرى عزيزة على شخص الملك ووجدانه، ذكرى اعتلائه العرش. مواليد السنوات الأولى للثمانينيات وما قبلها، لم يكونوا يقضون الأسبوع الحالي في عطلة نصف سنوية للاسترخاء والاستجمام، بل كانت عطلة للاستعداد. الكل كان مدعوا للتكفّل بنصيبه من الحفل الوطني الكبير.. الطفل في مدرسته مدعو إلى الغناء والاحتفاء، ووالداه مطالبان بتزيين البيت ورفع العلم، وكل من يتقن حرفة أو وظيفة مطالب بترجمتها إلى ما يدلّ على الولاء.
كان عيد الحسن الثاني بامتياز.. كلّ الأشكال الاحتفالية والطقوس الاجتماعية والدينية كانت مطالبة بالانخراط في سيمفونية التهليل للملك. كان عيد السلطة بعدما بدأ عيدا للشعب، كان فرصة لتباري القياد والباشاوات والمنتخبين والولاة والعمال في إبداء المهارة في التعبئة والتجييش.. كان استعادة حرفية لأدق تفاصيل الاحتفاء بشخص السلطان والحاكم التي عرفها تاريخ البشرية. كان العيد الوطني الأول للمغرب، لا ينافسه إلا عيد آخر للملك، هو عيد الشباب، وليس عيد الاستقلال ولا الانتصار في إحدى معارك المقاومة.
جعل الحسن الثاني من يوم 3 مارس من كل سنة، خلال فترة حكمه، عيدا للدولة، يكرس فيه شرعيته السياسية والدينية إزاء معارضيه، وتجدد فيه نخبتها الولاء والبيعة لملكها. وجعل منه وزيره في الداخلية، وفيما بعد في الداخلية والإعلام، إدريس البصري، احتفالية شعبية يدافع فيها «الفلاح عن العرش»، وعملية تعبئة للمواطن العادي في العالمين الحضري والقروي، لنصرة ملكية الحسن الثاني في صراعها المرير مع معارضيها وخصومها والساعين إلى دمقرطتها.
جزائري أوحى للوطنيين بالفكرة
يعود أصل الاحتفال بيوم جلوس الملك على العرش إلى السنوات الأولى من الثلاثينيات، حين كانت خلايا المقاومة السياسية الأولى تفكّر في إبداع طرق ووسائل ناعمة ورمزية لبعث الشعور الوطني في نفوس المغاربة، وخلق أسباب تكتلهم وتوحّدهم في مواجهة المحتل. المصادر التاريخية تُجمع على تسجيل أول احتفال للمغاربة بعيد العرش في العام 1933، حيث خرجت الفكرة أول مرة عبر صحيفة اسمها «عمل الشعب»، كان يصدرها محمد بن الحسن الوزاني، عبر نشرها مقالا غير مسبوق في أكتوبر من تلك السنة، مرفوقا بصورة السلطان محمد الخامس، يدعو إلى الاستعداد للاحتفال بيوم 18 نونبر، التاريخ الذي يصادف الذكرى السادسة لجلوسه على العرش.
لكن المصادر التاريخية تتحدّث عن وقوف شخص مغمور، ينحدر من أصول جزائرية، وراء هذه الفكرة، و«اختبائه» وراء اسم حصار تفاديا لبطش سلطات الحماية. الفكرة نشرت عبر عمود في مجلة «المغرب».. المقال جاء حاملا لتوقيع شخصية سلاوية شهيرة هي محمد حصار، وتوجّه بالحديث مباشرة، وفي سابقة من نوعها، إلى سلطات الحماية مطالبا إياها بعدم عرقلة هذه الفكرة والمساعدة على تنزيلها. كتابات تلاها صدور مقالات تتحدّث لأول مرة عن ذكرى اسمها «عيد العرش»، وعن ضرورة تشكيل لجان محلية للتحضير للاحتفال بهذه المناسبة، وكان أن خرجت المبادرة إلى الوجود، حيث أقيمت احتفالات صغيرة في كل من مدينتي سلا والرباط. تحرّك راقبته سلطات الحماية الفرنسية بريبة كبيرة، وامتنعت عن الاستجابة له بدعوى أن السلطان غير موجود في العاصمة، وبالتالي كان أول احتفال بعيد العرش في المغرب شعبيا خالصا.
«كان اليوم 18 نونبر من سنة 1933، وكان المكان الحديقة العمومية الكبرى المعروفة باسم جنان السبيل، على مقربة من باب أبي الجنود بفاس، لم يقِنا استظلالنا بأشجار الحديقة من الابتلال برشاش المطر المتهاطل، ولم أكن أعي في سن صباي وأنا أحضر هذا الاجتماع أنه كان المهرجان الوطني الشعبي الأول الذي تعقده الحركة الوطنية المغربية بالمدينة، للاحتفال بالذكرى السادسة لعيد جلوس السلطان محمد بن يوسف على العرش»، يقول المستشار الملكي الراحل عبد الهادي بوطالب في مذكراته.
في السنة الموالية، وأمام تمسّك أصحاب المبادرة بفكرتهم، وتحضيرهم جديا لتطبيقها مجددا، ارتأت سلطات الحماية الانحناء لعاصفتها ومحاولة احتوائها، وصدر قرار وزاري للصدر الأعظم، محمد المقري، يوم 31 أكتوبر 1934، وصادق عليه المقيم العام الفرنسي «هنري بونسوت». القرار يعلن يوم 18 نونبر من كل سنة عيدا وطنيا، بل جعله يوم عطلة تنظم فيه الحفلات الموسيقية٬ وتتزين فيه المدن٬ ويسمح خلاله بتوزيع الألبسة والأطعمة على المحتاجين، وكان الشرط الوحيد لسلطات الحماية في ذلك القرار، هو عدم إلقاء «الخطب السامية». فيما كانت مجموعات الوطنيين في كبريات المدن المغربية، قد استلهمت الفكرة من الثقافات الأوربية، القائمة على الروح القومية وتمجيدها، وجعلوا ذلك خيارا وسطيا، بين الانتماءات المحلية، للأسرة والقبيلة، والانتماء الأكبر إلى الأمة الإسلامية. وحتى لا يدخلوا في اصطدام مباشر مع سلطات الحماية، جعلوا رمز الاحتفال الوطني هذا هو السلطان، باعتباره رمزا مشتركا يعترف به عقد الحماية، عكس الدوافع الثقافية والدينية واللغوية التي كان يمكنها أن تثير غضب المحتلين. كما كانت مصر، قبلة الوطنيين العرب حينها، مصدرا للإلهام، من خلال شروع حزب الوفد في الاحتفال بعيد «الجلوس» قبل عشر سنوات من عيد العرش المغربي، وكلها أعياد لتحقيق هدف الاحتفاء بالوطن وتغذية الشعور بالانتماء إليه.
فرصة محمد الخامس لإظهار السيادة
«كانت نخبة سياسية مدينية جديدة بدأت تعلن عن نفسها في كبريات مدن المغرب، وكانت ميزتها أنها خرجت من جبة السلفية المغربية المتنورة، العقلانية والوطنية، وبدأت تبلور أشكال فعل سياسي مديني منظم، منذ بداية الثلاثينات»، يقول الباحث والصحفي لحسن العسيبي، موضحا أن صيغا نضالية سياسية سلمية تبلورت وبلغت أوجها مع صدور ميثاق كتلة العمل الوطني سنة 1937. «ومع توالي سنوات التأطير السياسي للمغاربة ضمن المنظومة الوطنية للتحرير والاستقلال، أصبح عيد العرش حينها الفرصة الكبرى الرسمية لإعلان السيادة المغربية والتعبير عن الحق في الحرية من خلال احتفالات عمومية. ولقد بلغت هذه المطالب ذروتها في سنة 1952، في الذكرى الفضية لعيد العرش، حيث أصبح الاحتفال بالعيد حينها مجالا لمواجهات مفتوحة قوية مع المستعمر». ذروة تجسّدت في احتفالات غير مسبوقة أقامها وطنيون بقيادة الشهيد محمد الزرقطوني، حيث تم ربط الاحتفاء بالتعبير عن الانتماء العربي والمغاربي للمغرب، وهو ما أثار غيظ الفرنسيين، وانتهى باختفاء الزرقطوني ودخوله مرحلة السرية التي انتهت باستشهاده.
«كنت أسعى في مهمتي الصحفية والوطنية أن أحضر اجتماعين مهمين كل عيد للعرش يوم 18 نونبر. الاجتماع الأول هو ساعة تقديم المقيم العام لتهاني الدولة الفرنسية وتهانيه وإدارته لجلالة السلطان بعيد العرش، والاجتماع الثاني هو التجمع المحدود الذي يحضره داخل إحدى قاعات القصر نحو مائتين من المدعوين، وقد كنت منهم»، يقول قيدوم الصحافة الاستقلالية، عبد الكريم غلاب، في مذكراته. ويضيف غلاب أن هذا الاحتفال كان يحضره بعض كبار الموظفين، مغاربة وفرنسيين، والصحفيين وبعض المهتمين. وكان هؤلاء يجتمعون واقفين في جانب من قاعة العرش التي يجري فيها الاحتفال. «فقد كان السلطان يجلس على العرش ويأخذ بأبهة الملك، ويدخل المقيم في ملابس رسمية، ومعه كبار المسؤولين الفرنسيين في الإقامة ورؤساء الإدارات. يقدم المقيم العام تهانيه وتهاني الدولة في عبارات ودية مختارة، حتى لتشعر بأنه أمام سلطان دولة مستقلة، ويترجم «محمد المعمري» ويجيب السلطان باللغة العربية وبكلمات شكر لبقة مترفعة. ثم ينتقل الحديث بين السلطان والمقيم العام إلى القضايا العامة، دون تحديد ولا تدقيق. وقد يتناول مرة موضوع الموسم الفلاحي. وتبقى لباقة المجاملة مسيطرة على الحديث». ويحرص غلاب، في مذكراته، على الإشارة إلى بعض «المطالب» التي كان يعبّر عنها السلطان بمناسبة ذكرى جلوسه على العرش، حيث كان «يعبّر بكلمات دقيقة عن تطوير المغرب ليعلو إلى درجة الدول الراقية. ويجيب المقيم العام بكلمات مبهمة، ولكنها واضحة، بأن الحماية تقوم بواجبها الذي تفرضه مسؤوليتها لترتفع بمكانة المغرب. كل من السلطان والمقيم العام يفهم الآخر، وكل منهما يقول ما يريد أن يقوله، وتبقى مجاملة الحديث تسيطر على الموقف كما تقتضيها المناسبة».
انعطافة سلطوية للعيد الوطني
تحوّل كبير وشامل في دلالات هذا العيد وكيفية الاحتفاء به، سيقع في مرحلة يتفق الباحثون على وصفها بالمرحلة الثانية من تاريخ هذا الاحتفاء، ويكادون يجمعون على وصفها بالانعطافة السلطوية، حيث تحوّلت المناسبة في عهد الملك الراحل، الحسن الثاني، إلى عيد للدولة واحتفاء بشخص الملك، بعدما كان عيدا للشعب والوطن. فقد كان الملك الراحل في سنوات حكمه الأولى، في ذروة صراع سياسي وفكري مع المنحدرين من الحركة الوطنية. ويقدّم كتاب «تاريخ المغرب تحيين وتركيب»، القصة الكاملة للطريقة التي اتبعها الملك الراحل الحسن الثاني لفرض نظام ملكية مطلقة تسود وتحكم وتفرض هيبتها بقوة الحديد والنار، وتزرع بذور الخضوع والطاعة في الذهنية العامة للمغاربة، عبر دفعهم أكثر نحو تقليدانيتهم وطقوسهم العتيقة، بدلا من تركهم يتوجهون نحو التعليم العصري ويمتحون من الأفكار الجديدة
في حديثه عن فترة ما بعد الاستقلال، توقّف المؤلف التاريخي، «تاريخ المغرب تحيين وتركيب»، عند حالة عدم الاستقرار التي عاشها المغرب بعيد استقلاله، حيث تعاقبت عليه خمس حكومات بين سنتي 1955 و1960، و«من بين العوامل التي تقف وراء المواجهات التي زعزعت الأوضاع في السنوات الأولى من تاريخ المغرب المستقل، هناك رغبة الزعماء الوطنيين في تحقيق اقتسام أكثر توازنا للسلطة بين القصر والحركة الوطنية». وأوضح الكتاب أن الاختلاف تركّز حول ممارسة الحكم ووسائل التحكم فيه، «قبل أن ينصبّ على طبيعة النظام ونوعية النمط الاجتماعي المتوخى لينصهر في شكل تعارض تام بين نمطين اثنين من أنماط التحديث السياسي-الاجتماعي. فأما أحد النمطين فتبناه الملك الحسن الثاني، وأما النمط الآخر فكان من اختيار الجناح اليساري للحركة الوطنية».
الكتاب الصادر السنة الماضية عن المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، خلص إلى أنه وبعد فترة وجيزة اتسمت بتوازن القوى السياسية على الساحة ما بين سنتي 1956 و1960، ظهر انزلاق النظام نحو صيغة سلطوية تقوم على اختيار يتوخى العودة بالعلاقات مع القوى السياسية الأخرى نحو الوضع التقليدي، وذلك ابتداء من تكوين حكومة برئاسة الملك محمد الخامس شخصيا خلال شهر ماي 1960. وبعد عدة سنوات، أعلنت حالة الاستثناء التي استمرت من 7 يونيو 1965 إلى 31 يوليوز 1979. ولم يكن الاحتفال بعيد العرش سوى واحدة من الوسائل الفعالة التي استعملها الملك الراحل لفرض كاريزما شخصية غير مسبوقة في تاريخ المغرب، وتحويل شخصه إلى مرجع وحيد للسلطة والحكم.
«منذ السنوات الأولى للاستقلال، بدأ يتبلور منطق جديد لممارسة الحكم والسلطة. حيث كان للمرحوم الحسن الثاني منطقه الخاص في تدبير أمور الدولة، المتأسس على إعادة بنية طقوس المخزن القديمة، بكل ما جره عليه من معارضة وانتقاد»، يقول لحسن العسيبي، مضيفا أن عيد العرش أصبح ضمن منطق هذا التقاطب السياسي الصدامي، بين مشروعين لإعادة بنية الدولة والمجتمع المغربيين، مناسبة للولاء لشخص الملك بالمعنى المخزني الكلاسيكي. «أي أن الغاية اختلفت بين أسباب الاحتفالية السابقة والأسباب السياسية للاحتفالية الجديدة. ولهذا السبب كان هذا العيد مناسبة للدولة لتأكيد الشرعية الرمزية والسيادية للجالس على العرش، التي كانت موضوع تنازع من قبل مشاريع سياسية أخرى في المجتمع، تنتصر للشرعية الشعبية الديمقراطية».
توجّه سياسي، قال العسيبي إنه تجسّد في الحرص على تعظيم الطقوس المخزنية لهذا العيد الوطني المغربي في عهد الملك الراحل، «لأن الصراع كان أيضا صراع معان ورمزيات وسلوك. ومع توالي السنوات، أصبح يوم 3 مارس، تاريخ جلوس الملك الراحل الحسن الثاني على العرش بعد وفاة والده الملك الوطني محمد الخامس في العاشر من رمضان من سنة 1961، مناسبة لقياس درجة الاصطفاف ضمن مشروع تجديد المخزن القديم من عدمه». ومن هنا، نبع ذلك التسابق في التعبير عن الولاء في ذلك اليوم والأيام التي تسبقه وتليه. وتلك الهالة التي ظلت تصاحبه على كافة المستويات في المدارس والعمالات والتلفزيون، بما يصاحب ذلك مما كان يطلق عليه «الأغاني الوطنية». «فالغاية هي ترسيخ أسلوب تدبير سياسي خاص. وفي المعنى العام، أصبح عيد العرش حينها مع توالي السنوات عيد الدولة أكثر منه عيد المجتمع، عكس ما كان عليه في المرحلة الأولى، حيث كان واحدا من مناسبات التعبير عن أنه عيد الدولة والمجتمع»، حسب العسيبي.
أول خطاب للعرش فوق منصة أمام الجمهور
الوصول إلى تلك الصيغة الكرنفالية غير المسبوقة لعيد العرش، سيتم تدريجيا عبر مراحل عمل فيها الراحل الحسن الثاني على إلباس حكمه هالة من القداسة الدينية والأسطورية الاجتماعية. ويتذكّر الإذاعي الشهير، محمد بن ددوش، كيف ألقى الملك الحسن الثاني أول خطاب للعرش يوم ثالث مارس 1961 من أعلى منصة شيّدت في رحاب المشور خارج القصر الملكي. «ومن هذا الموقع نفسه ألقى الحسن الثاني خطاب العرش عام 1963. وابتداء من هذا التاريخ، سيختفي تقليد إلقاء خطاب العرش بحضور الجماهير، ويتحول من جديد إلى داخل القصر الملكي ليلقى من الآن فصاعدا عن طريق التلفزة التي رأت النور في المغرب قبل ذلك بسنة واحدة، وأصبحت عنصرا أساسيا في التواصل بين الحسن الثاني والشعب المغربي طيلة بقية حياته إلى جانب الإذاعة الصوتية».
العنصر الجديد الذي سيطرأ في ظروف توجيه الخطاب الملكي إلى الشعب، حسب بن ددوش، هو تسجيله قبل عيد العرش بيوم واحد، ليذاع صباح يوم العيد (3 مارس) إذاعيا وتلفزيا، «ويسري العمل حسب هذا النهج أينما كانت المدينة التي يختارها الملك لاحتضان الحفلات الرسمية لعيد العرش. وكانت مدينتا فاس ومراكش، إلى جانب الرباط العاصمة، أكثر المدن المحتضنة لهذه الاحتفالات، بينما كانت الدار البيضاء أكثر المدن التي احتضنت حفلات عيد الشباب في السنوات الأخيرة من عهد الحسن الثاني».
وانطلاقا من تجربته الطويلة، يحرص بن ددوش على تأكيد أن خطاب العرش، سواء في عهد الحسن الثاني أو في عهد الملك محمد السادس، يذاع دائما مسجلا، «والدليل على ذلك أن المشاهدين يلاحظون أن الملك يترأس يوم عيد العرش حفل استقبال لتقديم التهاني، يكون أثناءه مرتديا لباسا تقليديا، وعند الانتهاء من هذا الحفل مباشرة، يظهر الملك على شاشة التلفزة لإلقاء خطاب العرش وهو يرتدي البذلة الأوربية، وهذا ما يؤكد أن الخطاب مسجل. إن غايتي من هذا التوضيح، تصحيح ما تردده بعض الصحف من حين لآخر، من أن الخطاب الملكي لا يتم بثه دائما مسجلا، وعلى هذا الأساس وجب تأكيد أن خطاب العرش يذاع مسجلا منذ عام 1964 إلى اليوم».
كان احتفال عيد العرش يوم 3 مارس من كل سنة يتم على مستويين: مستوى رسمي يتلقى فيه الملك «ولاء وبيعة» النخب السياسية والإدارية والاقتصادية وغيرها من نخب المهن الحرة والنخب المحلية، وحتى تلك التي تعيش في المهجر. ومستوى شعبي تشرف على تنظيمه والإشراف عليه وزارة الداخلية وإدارتها الترابية على المستويين المركزي والمحلي، ويقوم فيه العمال والقياد والمقدمون والشيوخ بأدوار محددة في اللجن المركزية والمحلية التي يتم إحداثها في هذه المناسبة للتحضير القبلي ليوم 3 مارس.
كانت تبدأ التحضيرات والترتيبات منذ بداية السنة على مستوى وزارة الداخلية، وعلى مستوى إداراتها الترابية المحلية، تحت إشراف لجنة وطنية كان يترأسها إدريس البصري شخصيا، وتضم نواتها الصلبة مساعديه المقربين. ومن بين الذين كانوا يشرفون على التحضير لاحتفالات 3 مارس كل سنة: العامل حسين بنحربيط رئيس ديوان وزير الداخلية إدريس البصري، وحفيظ بنهاشم مساعده المقرب، وعبد السلام الزيادي الذي اكتسب تجربة كبيرة في التحضيرات للاحتفالات الرسمية التي تشرف عليها وزارة الداخلية، من احتفالات 3 مارس إلى الاحتفالات التي شهدها المغرب بمناسبة زفاف الأميرات، شقيقات الملك محمد السادس. ثم هناك محمد حجاج، كاتب عام وزارة الداخلية خلال فترة البصري، والراشدي الغزواني، أول مدير عام للجماعات المحلية، وكذلك الواليان اطريشة واظريف اللذان اشتغلا لفترة طويلة في ديوان البصري، وإدريس التولالي، الذي تولى الإشراف على المديرية العامة للجماعات المحلية قبل أن يترقى إلى رتبة وزير للسكنى، ثم حسن الرحموني الذي كان يشتغل في وزارة الإعلام، ليصبح من المقربين للبصري عندما جمع الداخلية والإعلام تحت وصايته، وفيصل المزياتي الذي خرج من ظل العمل الأمني، ليصبح عاملا بالأقاليم الجنوبية لفترة معينة، والعامل محمد عزمي الذي جاء إلى الإدارة الترابية من الشرطة قبل أن يعينه البصري على رأس عمالة عين لشق-الحي الحسني، ثم عاملا مكلفا بالعلاقات مع المينورسو في نهاية التسعينات.
كتيبة إدريس البصري في المدارس
كل هذه الكتيبة إضافة إلى آخرين طبعوا احتفالات 3 مارس بمناسبة عيد العرش ببصماتهم وفق توجيهات إدريس البصري. وكانت تمتد صلاحيات هذه الكتيبة من الإعداد الأمني واللوجستي والمالي، إلى تحضير الأغاني الوطنية التي يتم إعدادها للاحتفال بيوم 3 مارس. حيث كان مدير عام الإذاعة والتلفزة، الوالي محمد اطريشة، ومدير التلفزيون محمد إيساري، وكاتب عام وزارة الإعلام الصديق معنينو، إلى جانب عبد السلام الزيادي، النواة الصلبة للجنة المكلفة بانتقاء الأغاني الوطنية التي تمجد الحسن الثاني بمساعدة رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة والتلفزة ورئيس الجوق الوطني ورئيس الجوق الملكي. ورغم ما يعتبره البعض مساهمة في دعم الفن والإبداع عبر هذا المهرجان الذي كان يعم المملكة، فإن الأمر لم يكن يخلو من محاذير سياسية ورقابية، حيث يحكى مثلا أن الثنائي «عاجل وفلان»، استدعي مرة لتقديم مسرحية أمام منصة الاحتفال الرسمي بالدار البيضاء، وكانت المسرحية تتعلّق بالعمال المطرودين من العمل، وهو ما لم يرق العامل، وتسبّب في اعتقالهما فور انتهاء المسرحية، وإخضاعهما لتحقيق أمني، قبل عرضهما على العامل الذي احتجّ عليهما بشدة.
«كانت الاستعدادات للاحتفال بعيد العرش تبدأ قبل شهر أو شهرين من حلول تاريخه، خاصة في المدارس التعليمية، حيث كان الجميع يتفرّغ لتحضير المسرحيات والشعر والقصة والزجل… وفي الأسبوع الأخير قبل 3 مارس، كانت الدراسة تتوقف تماما استعدادا للاحتفال»، يقول الإعلامي والحقوقي إدريس الوالي، الذي أوضح أن «بعض المنتخبين في جماعات حضرية وقروية كانوا يستغلون هذه الفرصة لتضخيم الأرقام الخاصة بميزانية الاحتفال بعيد العرش، فتجدهم يرصدون سنويا اعتمادات مالية لشراء الأعلام وصور الملك، بينما يستعملون الأعلام والصور نفسها التي استعملوها في السنة السابقة، لكن وبما أن المناسبة مقدسة، لم يكن هناك أي حسيب أو رقيب على هذه الممارسات، فحتى المعارضات داخل المجالس المحلية لم تكن تجرؤ على فضح ذلك».
عبد العالي الرامي، الفاعل الجمعوي النشيط في الأحياء الشعبية لمدينة الرباط، قال من جانبه إن طقسا اعتياديا كان يمارس كلما حلت هذه المناسبة، «وهو مرور عون السلطة على المحلات التجارية والسكان لمطالبتهم بوضع العلم الوطني وصورة الملك». ويضيف الرامي أن المؤسسات التعليمية كانت تشهد أنشطة تحضيرية لعيد العرش منذ انطلاق السنة الدراسية، «وكان هناك إحساس بالفرح، وكان المواطنون ينتظرون هذه المناسبة بفارغ الصبر لأنها كانت متنفسا لهم للفرح والنشاط، وأتذكر مقرا بجوار مقر جماعة يعقوب المنصور، قرب دوار الكرعة، كان يمتلئ بالمواطنين، صغارا وكبارا، وكانت القناة الأولى تبث الأغاني الوطنية، والشعراء الذين يمدحون منجزات الملك وبناء الدولة الحديثة. صراحة كان الأمر أشبه بعيد يلبس فيه الناس أجمل الثياب، وكانت الاحتفالات بالمؤسسات التعليمية هي السبب في صقل واكتشاف مجموعة من المواهب الموجودة الآن في الغناء أو الرياضة…».
أنشطة الاحتفالات المدرسية كانت أغاني وطنية وملحمات تذكر بأمجاد الوطن وكيفية استرجاع الصحراء، وتحفر في الذاكرة مشاهد تعيد ملحمة المسيرة الخضراء إلى أذهان الأطفال وكأنها حدثت بالأمس القريب، ونادرا ما تتم برمجة مسرحيات «خفيفة»، مسلية أو تحمل مواعظ عن الأخلاق والآداب وحسن المعاملة وقيم المودة والصداقة والاحترام. حالة الاستنفار التي كانت تعلنها المؤسسات التعليمية، خاصة منها الابتدائية، تنتهي بمهرجان يمتد طيلة اليوم الثالث من شهر مارس، تعلو خلاله الأعلام الحمراء القانية بنجمتها الخماسية. بينما يؤثث الأساتذة والتلاميذ المشهد في انتظار دورهم لتقديم مسرحيتهم أو الأغنية الجماعية التي حفظوها عن ظهر قلب، أو ضمن القلائل الذين لم يحالفهم الحظ في الحصول على دور. فيما أعوان المؤسسة يتناوبون على توزيع كؤوس الشاي المنعنع وأصناف الحلويات المغربية و«البيسكوي»، التي دفع ثمنها آباء وأولياء التلاميذ مسبقا.
توالي سنوات الاحتفال بعيد عرش الحسن الثاني ولّد ثقافة متكاملة، تبدأ بالأغاني والمسرح، وتنتهي بقصائد الشعر والمديح التي يتناوب الشعراء على إلقائها أمام كاميرا التلفزيون الرسمي. كتابات غزيرة وأغانٍ طويلة ومسرحيات ومؤلفات وأهازيج تنتهي ب«الله ينصر مولاي الحسن»، باتت مكونا من مكونات الثقافة المغربية. أحد أعداد مجلة «دعوة الحق»، التي تصدرها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، خصّص مقالا كتبه خالد التروكي عن موضوع «شعر العرشيات». شعر قال الكاتب إنه يتسم بالتفاؤل والنزعة الرومانسية والروح الإسلامية. وضرب الكاتب مثلا عن رومانسية هذا الشعر بمقاطع مثل: «ملك الشعب ما مدحتك لكن.. ثار حبي ففاض شعرا منضدا.. لك أزجيه كالمنى كزهور.. وجدت في ذراك ظلا برودا..».
نهب واغتناء باسم الاحتفال
كانت لجان عن العمالات والأقاليم تطوف على المؤسسات التعليمية لتختار منها أحسن الأعمال الفنية والإبداعية، كي يتم تقديمها في حفل رسمي عادة ما يترأسه العامل أو الوالي. وكان مندوب كل قطاع وزاري مطالبا أيضا بتقديم عرض يعبّر عما تفعله وزارته في تلك المدينة أو المنطقة، فيتحوّل المشهد إلى شبه كرنفال للأساتذة والأطباء والمهندسين وحتى الفلاحين والمزارعين، كل يستعرض نشاطه بطريقة احتفالية خاصة، فيما كانت فضاءات مؤقتة تقام لتنظيم سهرات فنية يومية. «في القرى عادة كانت الاحتفالات صغيرة لكنها تكون بارزة ويحضرها الجميع، بينما في المدن يكون الاحتفال أكبر»، يقول إدريس الوالي، الذي يضيف أن «أشكالا مختلفة من نهب المال العام كانت تتم بهذه المناسبة من طرف بعض المنتخبين وبعض رجال السلطة، فحتى المجموعات الغنائية والفنانين الذين كان يتم استدعاؤهم للمشاركة في الحفلات، كانوا يوقعون على اعترافات بتلقي تعويضات كبيرة بينما لا يحصلون إلا على القليل، والبعض كان يستغل فرصة جمع التبرعات، من الأعيان والتجار والتعاونيات والشركات، للاغتناء في غياب المحاسبة».
من جانبه، يرى محمد النصيري، المدير العام لفريق الرجاء البيضاوي، أن الدوريات الرياضية التي كانت تجرى بمناسبة احتفالات عيد العرش إبان فترة حكم الراحل الحسن الثاني، كانت منتجة وأعطت أسماء أثثت المشهد الرياضي المغربي عموما، والكروي على الخصوص. وقال النصيري إن مثل هذه الدوريات الكروية، رغم أنها كانت ذات طابع احتفالي، كانت مناسبة لمكتشفي المواهب الشابة للبحث عما سماهم «الطيور النادرة» التي بإمكانها أن تلتحق بفرق القسم الوطني الأول أو الثاني، مشيرا إلى أن هذه البطولات كانت تعرف ندية وتنافسا بين جميع النوادي أو فرق الأحياء المشاركة بها، لاسيما في ظل المتابعة الجماهيرية التي كانت تعرفها، والتغطية الإعلامية التي كانت تلازمها.
وأوضح المدير العام لفريق الرجاء البيضاوي أن الاستعدادات لتنظيم الدوريات الكروية الخاصة باحتفالات بعيد العرش كانت تتطلب أكثر من ثلاثة أشهر، وتستمر إلى فصل الصيف، حيث تجرى المراحل النهائية لتتويج الفريق الفائز. وأشار المتحدث نفسه إلى أن توفر الفضاءات الواسعة وغياب الإسمنت المسلح، كان يشجع المنظمين على برمجة مثل هذه الدوريات التي «أعطت الشيء الكثير لكرة القدم المغربية، لاسيما أن العديد من هذه البطولات الخاصة بالأحياء كانت تعرف حضور شخصيات لها وضعها الاعتباري في الساحة الكروية المغربية، كما هو الشأن بالنسبة إلى المرحوم «با سالم» بالنسبة إلى فريق الوداد البيضاوي، والمرحوم العربي الزاولي بالنسبة إلى نادي الاتحاد البيضاوي، والمرحوم الصويري بالنسبة إلى النادي القنيطري، وعبد القادر أيت أوبا بالنسبة إلى فريق الاتحاد البيضاوي…».
فإلى غاية وفاة الحسن الثاني، كان يوم 3 مارس يوما استثنائيا في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال. وأصبح الاحتفال به بمثابة مؤسسة قائمة الذات تشتغل بنظام داخلي، ولجن مسيرة تعمل على المستوى المركزي وعلى المستوى المحلي، وتتوفر على ميزانية خاصة وعلى مخصصات استثنائية. لجن احتفالات 3 مارس ظلت تشتغل بمناسبة عيد العرش وفق هندسة تحدد الأنشطة والتدشينات والحفلات الشعبية وإشراك الفاعلين الاقتصاديين المحليين داخل المناطق الصناعية الذين تبقى مساهمتهم على مستوى التمويل واللوجستيك مهمة. وتجدر الإشارة إلى أن اللجن الإقليمية المحلية التي يترأسها العمال، وينشطها القياد والمقدمون والشيوخ، كانت تقوم بدور الاتصال برجال المال والأعمال والصناعة العاملين في مناطق نفوذهم من أجل جمع التبرعات وبرمجة حفلات داخل المناطق الصناعية. كما أن الحكومة ووزارة الداخلية تخصصان ميزانيات استثنائية لتنظيف الشوارع الرئيسية، وتبييض البنايات وإصلاح الطرق، وحجز الإقامات ووسائل النقل واللوجستيك الضروري لتنقل وإقامة تلك الوفود.
سباق المدن والأحياء
كانت احتفالات 3 مارس عيد الدولة بامتياز، وبما أن الدولة هي الحسن الثاني، وهذا الأخير في احتفال، كان على المغاربة جميعا أن يحتفلوا. وكانت التحضيرات والتوجيهات وتأطير هذه الاحتفاليات فوقية، فيما يتم التنفيذ على المستوى الأدنى، ويتوسع أفقيا نحو الهوامش والمناطق المهمشة والمعزولة التي ينفتح عليها المخزن بهذه المناسبة، لأن 3 مارس يخلق نوعا من التنافس بين المدن، وبين الجماعات المحلية وبين البلديات. بل إن هذا التنافس بات مباشرا من خلال ما كان يسمى «سباق المدن»، حيث تتبارى مدن المملكة في مهرجان للفنون والمسرح والكوميديا، في إظهار مميزاتها وإمكاناتها وتفوقها على المدن الأخرى، ويتم في الأخير تتويج مدينة تحصل على مبلغ مالي.
التنافس كان يتم أيضا بين الأحياء، حتى العشوائية منها التي تحصل بالمناسبة على اعتراف بشرعيتها من القيادة التابعة لنفوذها، والتي تدمجها في برنامج احتفالات 3 مارس، لأن عيد العرش هو عيد الدولة التي تجدد بيعتها للحسن الثاني، ولأن إدريس البصري كان يرى في الاحتفاليات الشعبية بالمناسبة في أبعد نقطة من التراب الوطني نوعا من تجديد البيعة للملك.. لكل ذلك، كانت سياسة إعداد التراب الوطني وجهاز أعوان السلطة من «مقدمين» و«شيوخ» و«عريفات» وخارطة التقطيع الترابي في خدمة أجندة 3 مارس. وكانت الأجواء الاحتفالية نوعا من التجديد الشعبي للولاء وللبيعة للحسن الثاني، بموازاة حفل الولاء والبيعة الرسمي المنظم كل سنة. وقد استخدم البعد الشعبي لاحتفالات 3 مارس كوسيلة لبعث رسالة مرموزة موجهة إلى معارضة الحسن الثاني داخل البرلمان وخارجه. كما استخدمت هذه الهيكلة الأفقية في معركة تطبيع الأقاليم الصحراوية بعد استرجاعها. إذ كانت وزارة الداخلية تعطي أهمية للتحضيرات الخاصة باحتفالات 3 مارس، وخاصة الاحتفالات الشعبية التي تشرك كل القبائل الصحراوية، علاوة على إعادة تأكيد مركزية الملك وتفوقه مركزيا ومحليا.
هذا الشق الشعبي من الاحتفالات وطابعه الفلكلوري، كان يتم في سياق توجّه عام.. يقول كتاب «تاريخ المغرب تحيين وتركيب» إن الحسن الثاني عمد إليه لتثبيت حكمه، وذلك من قبيل الإقدام على «تجهيل» المغاربة وتقليص إمكانيات الولوج إلى التعليم العصري، وإضعاف القاعدة الإيديولوجية للمعارضة، مقابل تقوية المكونات التقليدية للثقافة المغربية، وذلك من خلال انطلاق عملية «الكتاتيب القرآنية» في أكتوبر 1968؛ وعمل رجال السلطة على تشجيع المواسم، أي المهرجانات المقامة حول الأضرحة؛ وتجميد نسبة التمدرس طوال ربع قرن من الزمن.
كما تم التعامل مع الشق الديني من طرف المؤسسة الملكية كاستراتيجية وقائية في مواجهة الحركات المعارضة المسلحة بإيديولوجيات الدعوة إلى اللائكية نظرا إلى قربها من الشيوعية أو من القومية العربية. «وبحكم انتمائها إلى السُّلّم الخاص بنظرية الحكم في الإسلام، فإن مفهوم البيعة ومفهوم إمارة المؤمنين قد حُيّنا من قبل الملك ضمن هذا الإطار، ثم فُعّل هذا التحيين، سواء على مستوى الممارسة أو على مستوى الخطاب. أما التيارات الإسلامية، فقد ساهم بروزها في دعم هذا النمط ضمن الفضاء السياسي، نظرا إلى التقائها مع المحاولة الرامية إلى طبع النظام بطابع التراثية التقليدية».
الشعب يرقص والنخبة تركع
اختيار سياسي حوّل عيد العرش إلى كبرى مناسبات الركوع الجماعي التي كرسها الراحل الحسن الثاني من خلال حفلات البيعة السنوية بمناسبة عيد العرش. آلاف الرعايا وممثلو الرعايا، من وزراء وعسكريين ومنتخبين برلمانيين ومحليين، يرتدون الجلابيب البيضاء ويقفون صفوفا في صعيد واحد، في انتظار وصول موكب الملك الممتطي لجواده كي يسارعوا إلى الركوع. ف«إشعاع الملك يدفع ضيوفه إلى الركوع لا شعوريا أمامه كما لو أن قوة خارقة ستنزل عليهم، وكما لو أنهم ينتظرون من يطمئنهم ويخبرهم بأنهم في أمان… الركوع علامة على الخضوع الذي لا يناقش، ففي إحدى مفاوضات الرسول مع إحدى القبائل، طالبه مفاوضوه بعدم أداء الجزية وعدم ترحيلهم من ديارهم وعدم الركوع. فهذه الحركة تمثل نقطة التماس بين السلطات الإلهية والملكية»، يقول كتاب «العبد والمملوك» لصاحبه محمد الناجي. فيما يوضّح الأنتربولوجي، حسن رشيق، أن الطقوس والبروتوكول الملكيين بمثابة سياق سياسي يعبّر عن مواقف الأطراف المتصارعة. وأوضح رشيق أن الذي يقبّل يد الملك من الجهتين يعبّر عن خضوع كبير تجاهه. وشدّد رشيق، في دراسة له حول التوجّه نحو تقديس الحاكم بالمغرب، على أن الطقوس ذات دلالات أكثر بلاغة من النصوص، حيث تسمح بالتعبير عن الأفكار دون الحاجة إلى التعبير عنها بالكلام أو الكتابة.
فالحسن الثاني، الذي كان ملكا منفتحا متشبعا بالثقافة الغربية في آخر صيحاتها وبالحداثة، ظل متشبثا بأعرق التقاليد ومُصِراً على إعادة إحياء بعضها بقوة وحماس كبيرين، وفي أولوية هذه الطقوس المرعية، حفل الولاء والطقوس المخزنية المرافقة له وتقبيل اليد وإحسان ذلك. فليس الأمر مجرد إشعار بالاحترام والتقدير، أو تزلف من المحيطين وبحث عن القربى، بل إن تطبيقه إلزامي ومخالفته توجب العقاب. وفي حديثه عن حفل الولاء، قال حسن رشيق إنه الحدث الأكثر «فرجوية» في الطقوس الملكية، موضحا أن منظميه يحرصون على حضور ضيوف مشاركين في الحفل، ومتفرجين يقفون بعيدا لمشاهدته، ما يعطيه طابع الفرجوية المقصودة. فرجوية باتت مع الحسن الثاني تنقل نقلا مباشرا عبر التلفزيون، ليصبح الجمهور المتفرّج هو الشعب المغربي بالدرجة الأولى.
أصبح شخص الملك وخطابه وسلوكه في أساس النظام السياسي للمغرب على عهد الحسن الثاني، ويتمظهر ذلك في الطقوس التي تلف حياة الملك منذ نعومة أظافره إلى أن يرحل إلى قبر البقاء، ليشمل تربيته وتعليمه وحركاته وسكناته وخطابه وكلماته المنتقاة وطريقه مشيه وسلامه ولباسه، ليصب ذلك كله في خلق صورة متفردة لشخص الملك، بما يجعله أبا الجميع وفوق الجميع، يخيف ويطمئن، يعاقب ويجازي، يعطي ويمنع… «البعد القدسي التقديسي، الذي يشكل آلية رئيسية في عمل كل سلطة، تعكسه الأدبيات السياسية في كل التراثات الثقافية»، يقول محمد سبيلا في كتابه «للسياسة بالسياسة»، والذي قال إن «اعتبار الحاكم ظلا لله على الأرض، أو خليفة لله في الأرض هو نوع من إضفاء القدسية ذات النزعة التشبيهية على الحاكم. وهذه الصورة يعبر عنها الشاعر العربي في كلامه إلى الخليفة الفاطمي: فاحكم فأنت الواحد القهار». فيما يفسر متخصص في التحليل النفسي هذا التمسك الصارم بالقيم وأنماط من السلوك ب«الحاجة إلى الخضوع والإذعان للسلطة والتوحد معها، والنظرة الغامضة التي تهتم بالخرافات. فلدى الشخصيات التسلطية طرق خاصة يرون بها عالمهم، ولا يهمهم بأي شكل من الأشكال ما يراه الآخرون».
ظهور الملك لرعيته له، هو الآخر، طقوس خاصة به، أولها، حسب كتاب «الآداب السلطانية.. دراسة في ثوابت الخطاب السياسي»، للباحث عز الدين العلام، أن يكون الظهور على «قدر محكم وحد معتدل»، حتى لا تسقط هيبته وتبتذله العيون، فتجرؤ عليه العامة، ويهون أمره لديهم، وإنما هيبة الملك في قلة رؤية الناس له وتعذر وصولهم إليه، ولا حكمة أعظم من احتجاب الله عن عيون الخلق، ولو كان عز اسمه ظاهرا للعيون لما عبد». وعندما يكون ظهور الملك ضروريا فيستحسن أن يكون «مفاجئا» دون تحديد يوم بعينه لأسباب أمنية تحول دون أن «يواعد العدو الماكر اللقاء فيه». وأيضا حتى لا يعوقه عن ذلك اليوم «كسل أو لذة مغتنمة» أو «عارض شغل».
خلق صورة متفردة لشخص الملك، بما يجعله أبا الجميع وفوق الجميع، يخيف ويطمئن، يعاقب ويجازي، يعطي ويمنع، هي من أدبيات البروتوكولات الملكية التي تبلغ ذروتها في حفل الولاء الذي يقام غداة عيد العرش. وخلف إحياء هذه الطقوس العتيقة، كان يقف رجل بملامح جدّ قاسية، وعينين تختفيان وراء نظّارات شمسية، وظهور دائم خلف الملك الراحل الحسن الثاني، يكاد يكون هذا كلّ ما عرفه المغاربة عن رجل ظلّ يطل عليهم كلّما أطل عليهم الملك، مع ترديدهم عبارة «الجنرال مولاي حفيظ» التي كانت تبثّ رعشة الخوف في أبدان الكثيرين دون أن يفهم أغلبهم سبب تلك الرهبة والخوف اللذين يثيرهما اسم هذا الرجل، بينما، رسميا، كان هذا الرجل مجرد وزير للقصور الملكية والتشريفات.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.