مع مرور الوقت يتضح أن المكتب المركزي للأبحاث القضائية، التابع للمديرية العامة لمراقبة التراب الوطني، لم يكن مجرد رقم يضاف إلى باقي الفرق الأمنية الموجودة سلفا، ولكنه كان حاجة ضرورية لمواكبة تطور الجريمة ووسيلة للجواب عن إحراجات الزمن الذي يتميز بتنوع الجريمة ودخولها عصر الالتباس والغموض، وبالتالي كان من الضروري توفر المغرب على قوة أمنية تضرب بقوة في مختلف المجالات باحترافية عالية موازية لتوجهات المغرب نحو بناء دولة آمنة ومستقرة يعيش مواطنوها دون خوف. عندما وقعت جريمة مقتل البرلماني من الاتحاد الدستوري عبد اللطيف مرداس، اندلعت حرب شائعات كبيرة، وفاقم من غموضها وسائل الإعلام التي لم تعد تبحث عن الحقائق وإنما عن الإثارة، وحاول البعض اعتبارها اغتيالا يدخل ضمن الجرائم السياسية، وسارعت مواقع رقمية لإصدار نتائج قبل التحقيق.
في هذا الوقت كانت عناصر المكتب المركزي بتنسيق مع الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، تقرأ رموز الجريمة في محاولة لحل ألغازها بهدوء تام، وبعيدا عن الضوضاء والأضواء وصل المكتب إلى منفذي الجريمة، التي تدخل في إطار الجرائم العادية لكنها تتميز بغموض كثير خصوصا أن القاتل كان في صف المعزين المتأثرين بوفاة صديق والزوجة المتورطة لبست ثياب الحداد على فقدان الزوج.
حيل المتورطين لم تنطل على جهاز أمني يرتكز على الاحترافية العالية، والذي يعتمد كافة الوسائل من التقنية إلى ما تتيحه علوم السوسيولوجية والسيكولوجية من إمكانيات لفك عناصر الجريمة وتتبع خيوطها، ووضع اليد على المنفذين في وقت وجيز، ولا يمكن الاستهانة بهذا المجهود نظرا لطبيعة الجريمة ولطبيعة من ارتكبها ولاختلاط الأوراق بين السياسي والاجتماعي وضياع الحقيقة في خضم الضجيج الذي أثير حول الحادث.
قضية مرداس ليست سوى نموذجا من بين عشرات القضايا التي تصدى لها المكتب المركزي وعناصر الأمن عموما، لكن يكفي هذا الملف دليلا على المهنية التي يتوفر عليها الجهاز الأمني بالمغرب، لأنها جريمة أحاطت بها العديد من الألغاز وكثر الكلام حولها والافتراضات التي قد تزعج المحقق، لكن طبيعة التحقيق أخذت مجريات مختلفة.
غير أن المكتب المركزي ليس من نوع الأجهزة التي تتبع خيوط الجريمة التي تقع، ولكنه من النوع الذي يكتشف الجريمة حتى قبل وقوعها، سواء كانت جريمة مالية أو جريمة إرهابية، ويكفي المغاربة فخرا واعتزازا أن المديرية العامة لمراقبة التراب الوطني تمكنت في أوقات عصيبة ومتوترة من تفكيك عشرات الخلايا الإرهابية، والتي لم تكن فقط من بين الخلايا النائمة، التي تنتظر الأوامر للتحرك أو تنتظر الوقت المناسب، ولكن هناك خلايا تم تفكيكها كانت على أهبة الاستعداد الكامل والجاهزية للشروع في مشاريعها التخريبية.
ليس من السهل تحقيق كل هذه الحصيلة في وقت تعاني فيه دول بما فيها ذات الباع الطويل في العمليات الأمنية من هذا النوع، وبالتالي على المغاربة أن يكونوا عونا للأمن لا حاضنة للمجرمين، فليس لنا من خيار سوى أن ندعم الأجهزة الأمنية التي تحرص على أمننا وتحرس أمننا حتى نبقى وطنا ميزته الاستقرار.