لا نجادل مطلقا في حق تركيا في الدفاع عن حدودها وأجوائها الوطنية من أي انتهاكات، لكن إقدامها على إسقاط طائرة حربية روسية هو بمثابة إعلان حرب على دولة عظمى، قد تترتب عليه نتائج خطيرة جدا، من أبرزها زعزعة الاستقرار، وانهيار الاقتصاد، والغرق في مستنقع حرب استنزاف، إن لم تكن حربا حقيقية فعلا. هناك فارق كبير جدا بين إسقاط طائرة حربية سورية من طراز قديم متهالك، انتهى عمره الافتراضي، وإسقاط طائرة حربية روسية، وقتل طياريها على يد قوات تركمانية سورية تحظى برعاية أنقرة ودعمها، كما أعلن حتى كتابة هذه السطور، وهذا الفارق قد تدركه تركيا جيدا فيما هو قادم من أيام.
السلطات التركية تعايشت مع اختراقات سابقة لطائرات روسية لبضعة أمتار، او حتى كيلومترات قرب حدودها مع سورية، والانتهاك الأخير استغرق بضعة ثوان حسب “النيويورك تايمز″، وكان هذا التعايش هو قمة الحكمة وضبط النفس، ولا نعرف لماذا غيرت مثل هذه الإستراتيجية اليوم، وأمرت طائرتين من طراز (اف 16) بإسقاط الطائرة الروسية المعنية، فهل أرادت تركيا “متعمدة” اشعال فتيل حرب مع روسيا بتحريض أمريكي؟ ام ان بوتين استفزها بإرسال هذه الطائرة لجرها إلى حرب إقليمية؟
لا نملك أي جواب على هذا التساؤل، ولكن كل ما يمكن قوله إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيكون من الصعب عليه ابتلاع مثل هذه الاهانة، وعدم الرد عليها بطريقة اقوى، فليس من عادته الصبر وعدم الرد على الاهانات، ولا يتردد مطلقا في الانتقام، إما بحرب مباشرة او بالإنابة في أسوأ الأحوال.
فإذا تمعّنا في ردود الفعل الروسية الأولية على إسقاط هذه الطائرة، نجد انها توحي جميعا بأن الانتقام بات وشيكا، وقد يكون عسكريا، ولن يقتصر على إسقاط طائرة تركية، “اي الطائرة بالطائرة والبادئ أظلم”، فقلب الرئيس بوتين مملوء بالغضب والحقد تجاه المثلث التركي السعودي القطري، وجاء أول تعبير على هذا الغضب صريحا واضحا في مقال نشرته صحيفة “برافدا” الروسية الأوسع انتشارا قبل يومين، توعدت فيه على لسانه (اي بوتين) بهجمات صاروخية ضد هذا المثلث، الذي يرعى الإرهاب ومنظماته، حسب قوله.
وكالة الأنباء الروسية الرسمية نقلت صباح الثلاثاء عن الرئيس بوتين قوله “ان إسقاط الطائرة الروسية طعنة في الظهر من جانب المتواطئين مع الإرهابيين”، وذلك أثناء لقائه مع العاهل الأردني عبد الله الثاني في سوتشي، وحذر من انه “سيحدث عواقب خطيرة في العلاقات بين البلدين”.
اغتيال دوق نمساوي كان المفجر للحرب العالمية الأولى، فهل سيكون إسقاط الطائرة الروسية هذه المفجر لحرب إقليمية أو دولية، خاصة أن تركيا عضو في حلف الناتو؟
الرئيس التركي رجب طيب اردوغان قد يكون أُستدرج إلى مستنقع دموي من الصعب عليه الخروج منه بأقل الخسائر، ماديا وبشريا، حتى لو لم يأت الرد الروسي حربا شاملة، ولا نبالغ إذا قلنا إن انجازاته الاقتصادية الضخمة التي أعادت انتخاب حزبه (العدالة والتنمية) لأربع مرات متواصلة، ووضعت تركيا في المرتبة السابعة عشرة كأقوى اقتصاد في العالم، على وشك التبخر، والشيء نفسه يقال عن استقرار تركيا وامنها.
قبل شهر زار الرئيس اردوغان موسكو ووقع اتفاقات تبادل تجاري ضخمة، وتوقع ان يرتفع حجم هذا التبادل الى اكثر من ثلاثين مليار دولار في غضون خمس سنوات، ولا نعتقد ان هذه الاتفاقات ستصمد، وان هذا الطموح سيتحقق في ظل التوتر الحالي بين البلدين.
والأخطر من ذلك اقتصاديا أيضا، أن صناعة السياحة التي تدر 36 مليار دولار سنويا على تركيا ستتضرر كثيرا، فمعظم السياح الذين يزورون تركيا، ويبلغ تعدادهم حوالي 46 مليون سائح سنويا، وانا احدهم، قد يتجهون الى بلاد اخرى، ومن بينهم حوالي 4.3 سائح روسي.
الرئيس اردوغان استدعى سفراء 28 دولة أعضاء في حلف الناتو لاطلاعهم على دوافع اسقاط الطائرة الروسية، وكأنه يستنجد بهم للوقوف الى جانب بلاده في مواجهة اي انتقام روسي محتمل، وهذه خطوة متوقعة، ولكن هل ستستجيب هذه الدول، وتدخل حربا عالمية ضد روسيا؟
حلف الناتو لم يتدخل لحماية تركيا عندما هاجمت فرقة كوماندوز بحرية اسرائيلية سفينة مرمرة في المياه الدولية قبالة شواطيء فلسطينالمحتلة (29 ايار 2010)، ولم يوجه الحلف اي انذار لاسرائيل، او يفرض عليها عقوبات لانها اعتدت على دولة عضو فيه، لسبب بسيط، وهو ان تركيا دولة مسلمة، واسرائيل اقرب الى قلب حلف الناتو واعضائه منها.
التدخل التركي في سورية بدأ ينعكس عليها حربا وعدم استقرار، وربما التفكيك والصراع الطائفي، وربما العرقي ايضا، وللأسف لم يحسب الرئيس اردوغان وحلفاؤه حسابه بشكل جيد ودقيق، فقد اعتقدوا ان هذا التدخل سيكون “نزهة”، والنظام السوري سيسقط في غضون اسابيع، او بضعة اشهر، مثلما حدث في تونس وليبيا ومصر واليمن، وسارعوا في تقديم العروض باللجوء الى الرئيس السوري واسرته، وها هي الايام تثبت خطأ هذا الاعتقاد حتى الآن، وبعد خمس سنوات على الاقل.
حتى لو افترضنا ان روسيا لن تقدم على اعلان حرب، جزئية او شاملة، ضد تركيا، وتحلت بضبط النفس، واستجابت للوساطات المتوقعة في الساعات والايام المقبلة، فإنه يكفيها الانتقام بتقديم الدعم العسكري والمالي لحزب العمال الكردستاني الذي يقاتل النظام التركي، ويطالب باستقلال الاقاليم الكردية شرق البلاد، وهذا كفيل باستنزاف النظام التركي، وتحويل تركيا الى “سورية اخرى”.
المثلث التركي السعودي القطري استدرج ضلعيه الثاني والثالث الى مستنقع دموي في اليمن، وها هو، الضلع التركي الثالث، على حافة الغرق في مستنقع آخر اكثر خطورة في تركيا، ان لم يكن غرق فعلا، مما يعني خسائر بشرية ومالية ضخمة، والمزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار في المنطقة بأسرها، وتبخر كل عوائد النفط الحالية، والاحتياطية، والقادمة ايضا.
نعترف اننا نرسم صورة قاتمة مرعبة في هذا المقال، ولكننا لم نكن نبيع الوهم في أي يوم من الأيام، فهذا ما جرنا إليه المخطط الغربي، والغباء العربي للأسف الشديد، والأيام المقبلة قد تكون حبلى بسيناريوهات أكثر دمارا ورعبا، والله يستر.