حظي القرآن الكريم -بوصفه الأثر الأهم في الإسلام- بقدر كبير من اهتمام المستشرقين، ما دفعهم إلى ترجمته للتعرف على مضمونه. ورافق الاهتمام بترجمته اهتمام جديٌّ بدراسته؛ لمعرفة أوثق بمضمونه. هذا الاهتمام كان، على العموم، ذا طابع دفاعي وهجومي على حدٍّ سواء. فقد كان دارسو القرآن الغربيون يدافعون -من جهة- عن عقائد مسيحية يرفضها القرآن؛ ويهاجمون -كردٍّ على هذا الرفض- النبيَّ محمداً والقرآن. ضمن هذا الإطار يأتي كتاب "تاريخ القرآن". فماذا عن الكتاب؟ مؤلفو الكتاب
الكتاب وضع نواته المستشرق الألماني ثيودور نولدكه (1836-1930م) في العام (1860م)، عالج فيه مسألة نشوء النص القرآن وجمعه وروايته. كما ناقش مسألة التسلسل التاريخي للسور. واقترح ترتيبًا لها يختلف عن ترتيبها المعهود. ثم لما أدركه الكِبَر، وشعر من نفسه العجز عن إتمام كتابه، عهد إلى تلميذه فريدرِش شفالي بإعادة صياغته، بيد أن شفالي لم يسعفه الوقت لإعادة ما كتب أستاذه، واكتفى بكتابة مقدمة لما كان قد كتبه نولدكه، وعكف على كتابة الجزء الثاني من الكتاب والمتعلق بجمع القرآن. وقد وافت المنية شفالي (1919م) قبل أن يدفع ما أنجزه للطبع، فتولى الأمر من بعده تلميذه أوغوست فيشر، حيث قام ببعض التصحيحات على ما كتبه شفالي. انتقلت مهمة إنجاز الكتاب بعد فيشر إلى غوتهلف برغشترسرن، الذي أيضاً أسرعت المنية إليه (1934م) قبل أن يتم إنجاز الجزء الثالث، فأكمله تلميذه أوتو بريتسل في مطلع العام (1937م). هكذا إذن، تعاقب على تأليف هذا الكتاب - الذي أصبح بعدُ المرجع الأهم للمستشرقين - ثلاثة أجيال من علماء الدراسات القرآنية الألمان خلال نيف وسبعة عقود، حتى أبصر النور. وهو يضم ما توصلوا إليه من نتائج في هذا المجال.
ماذا عن هذا الكتاب
يتألف الكتاب من أبحاث أدبية/تاريخية، تسعى إلى أن تؤرخ للنص القرآني، أي أن تعالجه كوثيقة من وثائق التاريخ الإنساني، رابطة إيَّاه بموقعه في الحياة، لتتابع بعد ذلك عملية جمعه وتعدد قراءاته. ويحاول نولدكه أن يفسِّر ظاهرة النبوة بطريقة لا تتفق ومعطيات الإيمان. ومن النتائج التي يقررها نولدكه ما ذهب إليه من أن جوهر النبي يقوم على تشبع روحه بفكرة دينية ما، تسيطر عليه أخيراً، فيتراءى له أنه مدفوع بقوة إلهية ليبلغ من حوله من الناس تلك الفكرة على أنها حقيقة آتية من الله.
الجزء الثاني من الكتاب، يعالج مسألة جمع القرآن الكريم. وهو يناقش مسألة الجمع الأول الذي قام به زيد بن ثابت وسواه من المصاحف التي سبقت مصحف عثمان. ثم يتناول نشوء مصحف عثمان بدراسة مفصَّلة للروايات. ويتطرق إلى ما يقال عن تحريف بعض المواضع. ثم يورد (سورة النورين) المنحولة، مناقشًا مضمونها.
أما الجزء الثالث من الكتاب، فيتناول تاريخ النصِّ القرآني، مناقشًا أهم خصائص الرسم العثماني، ومقارنًا إيَّاه بنصوص غير عثمانية. ثم يتناول بالتفصيل القراءات القرآنية، وأشهر القراء، ويعرض أهم المصادر التي كتبت في ذلك. وينتهي الكتاب بعرض لأهم مخطوطات القرآن التي كانت معروفة لدى الباحثين آنذاك.
موضوعات الكتاب
كما ألمحنا بداية، فإن هذا الكتاب يتألف من ثلاثة أجزاء، جاءت موضوعاتها وفق التالي:
الجزء الأول: في أصل القرآن. تضمن العناوين الأساسية التالية: في نبوءة محمد والوحي. في أصل أجزاء القرآن المفردة: (السور المكية، والسورة المدنية، ما نُسخ من القرآن).
الجزء الثاني: جمع القرآن. وتضمن العناوين الأساسية التالية: حفظ تدوين الوحي في أيام محمد على أساس تلويحات قرآنية ووضع السور النصي. جامعو القرآن غير الأصليين. المجموعات والنسخ المكتوبة. جمع زيد الأول. النسخ الأخرى الشائعة قبل نسخة عثمان. نشوء نسخة القرآن الرسمية في عهد الخليفة عثمان. القرآن المحمدي في علاقته بالكتب المقدسة. ملحق المصادر المحمدية والأبحاث المسيحية الحديثة حول أصل الآيات والسور ونشوء كتاب القرآن (المصادر المحمدية. البحث المسيحي الحديث).
الجزء الثالث: تاريخ نص القرآن. تضمن بالإضافة للمقدمة ثلاثة فصول وملحق. الفصل الأول: الرسم. الفصل الثاني: القراءة. الفصل الثالث: مخطوطات القرآن. كما تضمن هذا الفصل ملحقاً تضمن نماذج من مخطوطات قرآن قديمة.
وقد ذُيِّل الكتاب بفهارس علمية، تضمنت الآتي: فهرس المصادر العربية. فهرس المصادر الأجنبية. ثبت بأهم الدراسات القرآنية التي صدرت بعد ظهور كتاب "تاريخ القرآن". فهرس بأسماء الأعلام العربية والمعربة. فهرس الأعلام الأجنبية، فهرس الموضوعات. إضافة إلى فهرس السور والآيات القرآنية.
منهج الكتاب
اعتمد نولدكه بشكل أساس المنهج اللغوي المقارن (الفيلولوجيا/ PHILOLOGY) لبحث الظاهرة القرآنية، إضافة إلى اعتماده على المنهج التاريخي النقدي، لفهم الأحداث والوقائع التي أشار إليها القرآن. والهدف من التمسك بالمنهج التاريخي إقامة صلة سببية بين الحدث والنص. وعلى الجملة، يتعامل المؤلفون مع النص القرآني كنص بشري، يُقرأ ويُكتب، ويخضع للنقد والتحليل، ولا يتعاملون معه ككتاب مُنْزَل.
ملاحظات على الكتاب
تضمن الكتاب جملة من النتائج والتقريرات التي لا تتفق مع عقيدة الإسلام. فمن ذلك ما جاء في الجزء الأول من الكتاب قول ثيودر: "لا مجال للشك في أن أهم مصدر استقى منه محمد معارفه لم يكن الكتاب المقدس، بل الكتابات العقائدية والليتورجية"(ص9). وقوله: "أحد أهم مصادر تعاليم محمد كانت الاعتقادات الدينية التي اعتنقها قومه" (ص18). وقوله: "من الضروري أن نصف ما كان يغشاه بحالة من الاضطراب النفسي الشديد" (ص24). وقوله: "إن محمداً شطب بنفسه إحدى آيات القرآن" (ص49).
ومما جاء في الجزء الثاني من النتائج والتقريرات المجافية للصواب: قول شفالي: "إن اطلاع محمد على اليهودية والمسيحية كان جيداً إلى الحد الذي كان ممكناً في عصره" (ص343). وقوله: إن "ابن عباس عاش في الطائف منزويًا، متمتعًا بإيرادات كبيرة أغدقها عليه الأمويون؛ لقاء غدره بعائلة النبي" (383). وقوله: "استمد ابن عباس مواد أخرى من اليهود الذين كان يلتقيهم في بيته" (ص384).
ومما جاء في الجزء الثالث على هذا المنوال، قول بريتسل: "لم يلعب أُبيُّ بعد وفاة محمد أي دور مرموق. وسواء بسبب موته المبكر، أو لأسباب أخرى، فقد أزيح عن المسرح السياسي. وانتشر نصه القرآني على الصعيد الشخصي فقط. أما ابن مسعود فكان والياً على الكوفة، وكان يملك بالتالي إمكانية، استطاع استغلالها بنجاح لإيجاد اعتراف رسمي بقرآنه" (ص537). وقوله: "وتبعاً لنظرية المتأخرين المتمسكين بحزم بالتقليد، جاءت كافة القراءات من النبي، وإلا فإنها ليست قرآنًا" (ص543).
وإذا كان المنهج القرآني يقتضي منا أن لا نبخس الناس أشياءهم، فإننا انطلاقاً من هذا نقول: إن المؤلفين على الرغم مما خرجوا به من نتائج لا تتفق وأصول الإسلام، فإنهم مع ذلك قد أثبتوا أشياء لا شك أنها صحيحة. كما فعل مؤلف الجزء الثاني من الكتاب حيث أثبت بالدليل القاطع أن سورة ذي النوريين موضوعة، وأنها ليست من أصل القرآن (ص331-336).
تنويه وتنبيه
الأمر الذي ينبغي أن يذكر هنا، أن هذا الكتاب وُضع في الأساس لأهل الغرب، لفهم الإسلام عموماً، ولفهم ظاهرة القرآن على وجه الخصوص. وبالتالي، فإن هذا الكتاب لم يوضع للمسلمين؛ إذ إن المسلم في غنية عنه بالرجوع إلى مصادره الإسلامية للوقوف على كل ما يتعلق بالشأن القرآني، تاريخًا، وتفسيراً، وظاهرة.
أخيراً، فإن هذا الكتاب تُرجم إلى العربية منذ أعوام قريبة، وقام بترجمته د.جورج تامر، بالتعاون مع مؤسسة كونراد-أدناور. وصدرت هذه الترجمة في بيروت عام (2004م). والطبعة التي اعتمدنا عليها صادرة عن منشورات الجمل، كولونيا (ألمانيا) (2008م). وقد وضع المترجم مقدمة فند فيها الاتهامات التي قيلت بحق الكتاب، وتضمنت عرضًا شاملاً لمضمونه ومنهاجه.
ويقوم الأستاذ عمر لطفي العالم من طرابلس الغرب منذ مدة بترجمة الكتاب، وقد شارف على الانتهاء منها، وربما تكون ترجمته -لو قدر لها أن تطبع- أفضل من ترجمة د.جورج تامر وأدق؛ لعلمه الممتاز باللغة الألمانية، ولقيامه بترجمة بعض الأعمال السابقة عن الألمانية. ثم مساعدة بعض من لهم اهتمام واسع ببحوث المستشرقين عموماً، ومناهج دراستهم خصوصاً، إضافة لمعرفته الممتازة بالعلوم الشرعية.
والأمر المهم بصدد هذا الكتاب، أن يقوم العلماء المتخصصون من المسلمين بالإطلاع عليه، ودراسته دراسة علمية دقيقة، ونقده بمنهجية علمية، تعطي كل ذي حق حقه، فهم أولى بهذا من كل أحد.
نشير ختاماً إلى أن الكتاب دخل عددًا من الدول العربية، وأخذ البعض يتداوله، وعلمنا أن الجهات المسؤولة في بعض تلك الدول قد منعت من تداوله وبيعه.