النقابة الوطنية للإعلام والصحافة … يستنكر بشدة مخطط الإجهاز والترامي على قطاع الصحافة الرياضية    المغرب التطواني يندد ب"الإساءة" إلى اتحاد طنجة بعد مباراة الديربي    الجزائر و "الريف المغربي" خطوة استفزازية أم تكتيك دفاعي؟    "بين الحكمة" تضع الضوء على ظاهرة العنف الرقمي ضد النساء    في حلقة اليوم من برنامج "مدارات" : عبد المجيد بن جلون : رائد الأدب القصصي والسيرة الروائية في الثقافة المغربية الحديثة    العائلة الملكية المغربية في إطلالة جديدة من باريس: لحظات تجمع بين الأناقة والدفء العائلي    أساتذة اللغة الأمازيغية يضربون    رقم معاملات "مكتب الفوسفاط" يتجاوز 69 مليار درهم خلال 9 أشهر    نزاع بالمحطة الطرقية بابن جرير ينتهي باعتقال 6 أشخاص بينهم قاصر    التوفيق: قلت لوزير الداخلية الفرنسي إننا "علمانيون" والمغرب دائما مع الاعتدال والحرية    الجديدة مهرجان دكالة في دورته 16 يحتفي بالثقافة الفرنسية    اللحوم المستوردة تُحدث تراجعا طفيفا على الأسعار    توهج مغربي في منافسة كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي بأكادير    مسرح البدوي يواصل جولته بمسرحية "في انتظار القطار"    شيرين اللجمي تطلق أولى أغانيها باللهجة المغربية    اتحاد طنجة يكشف عن مداخيل مباراة "ديربي الشمال"        الأمم المتحدة.. انتخاب هلال رئيسا للمؤتمر السادس لإنشاء منطقة خالية من الأسلحة النووية في الشرق الأوسط    تهديد أوكرانيا بتصنيع القنبلة الذرية زوبعة في فنجان لكسب مزيد من الدعم المالي للغرب    القنيطرة.. تعزيز الخدمات الشرطية بإحداث قاعة للقيادة والتنسيق من الجيل الجديد (صور)    توقيف فرنسي من أصول جزائرية بمراكش لهذا السبب    البيت الأبيض: جو بايدن سيحضر حفل تنصيب دونالد ترامب        بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها على وقع الارتفاع    برقية شكر من الملك محمد السادس إلى رئيس بنما على إثر قرار بلاده بخصوص القضية الوطنية الأولى للمملكة    غوارديولا قبل مواجهة فينورد: "أنا لا أستسلم ولدي شعور أننا سنحقق نتيجة إيجابية"    طقس الثلاثاء: أجواء حارة نسبيا بعدد من الجهات    مواجهة مغربية بين الرجاء والجيش الملكي في دور مجموعات دوري أبطال أفريقيا    حوار مع جني : لقاء !    الدولار يرتفع بعد تعهد ترامب بفرض رسوم جمركية على المكسيك وكندا والصين        مرشد إيران يطالب ب"إعدام" نتنياهو    الرباط: تقديم كتاب 'إسماع صوت إفريقيا..أعظم مقتطفات خطب صاحب الجلالة الملك محمد السادس'    المناظرة الوطنية الثانية للفنون التشكيلية والبصرية تبلور أهدافها    عبد اللطيف حموشي يبحث مع المديرة العامة لأمن الدولة البلجيكية التعاون الأمني المشترك    تزايد معدلات اكتئاب ما بعد الولادة بالولايات المتحدة خلال العقد الماضي    ملتقى النقل السياحي بمراكش نحو رؤية جديدة لتعزيز التنمية المستدامة والابتكار    ترقب لقرار إسرائيلي حول وقف إطلاق النار مع حزب الله ووزير الأمن القومي يعتبره "خطأ كبيرا"    اندلاع حريق ضخم في موقع تجارب إطلاق صواريخ فضائية باليابان    تطوان: اعتداء غادر بالسلاح الأبيض على مدير مستشفى سانية الرمل    بمناسبة الحملة الأممية لمناهضة العنف ضد النساء.. ائتلاف يدعو إلى المنع التام لتزويج الطفلات    العالم يحتفل باليوم العالمي لشجرة الزيتون    إطلاق شراكة استراتيجية بين البريد بنك وGuichet.com    صقر الصحراء.. طائرة مغربية بدون طيار تعيد رسم ملامح الصناعة الدفاعية الوطنية    المحامي والمحلل السياسي الجزائري سعد جبار: الصحراء الشرقية تاريخياً مغربية والنظام الجزائري لم يشرح هوسه بالمغرب    الرباط.. انطلاق الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية    تحرير محيط مدرسة للا سلمى من الاستغلال العشوائي بحي المطار    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة        لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تحميل كتاب " حفريات في الذاكرة" لمحمد عابد الجابري
نشر في تليكسبريس يوم 13 - 12 - 2014

لو صح لنا أن نسمي فيلسوفاً عربياً معاصراً فبالتأكيد سيكون الدكتور محمد عابد الجابري من ضمن المرشحين لهذا اللقب ، وهو على الرغم من الضجة القوية التي سببتها سلسلة كتبه في "نقد العقل العربي" إلا أن المنصفين من موافقيه ومخالفيه على السواء يعترفون له بالمكانة العلمية والفلسفية التي تؤهله لأن يعدّ بحق فيلسوفاً ومفكراً وربما مجدداً للفكر العربي الذي لم يزل على حاله منذ عصر التدوين في القرن الثاني الهجري.

وعلى الرغم من أن كتب الدكتور الجابري في مجملها عسيرة الهضم، إلا أن كتابه "حفريات في الذاكرة من بعيد" خلاف ذلك تماماً، ذلك أن الجابري وبلغته الرصينة قام بعرض بدايات حياته المتمثلة في الطفولة ومرحلة المراهقة بأسلوب أدبي شيق وسهل يكاد يذكّرنا بالسيرة الذاتية لطه حسين في كتابه "الأيام".

لقد ولد الدكتور الجابري، في قرية صغيرة تسمى "فجيج" وفيها أمضى سنين طفولته وبعض سنوات مراهقته، ويستعرض بشكل تصويري فني الحياة اليومية لهذا المجتمع الصحراوي البدوي الذي لا يكاد يختلف عن أي مجتمع بدوي عربي من المحيط إلى الخليج، بل إن كثيراً من مظاهر تلك القرية تكاد تطابق بشكل كبير ما كنا نسمعه عن بيئة المجتمع السعودي قبل بضعة عقود من الزمن.

إن من اللقطات الجميلة والجديرة بالاهتمام في هذا الكتاب، ما يذكره الجابري عن ذكرياته المتعلقة بالجن ، فهم "لا يرون في النهار ولكنهم يعمرون المكان ليلاً، فيقومون بنفس الأعمال التي يقوم بها أهل المنزل من البشر، يسمعهم أهل الدار يتحركون، يمشون ويدقون في جناح الظلام ... إنه يتذكر كيف كان يستيقظ ليلاً على دقات ترسل صوتاً أشبه بصوت الدق على المهراس أو على مسمار في الجدار، فينتابه الخوف ويلتصق بجسم من كان ينام بجانبه: أمه أو جدته أو جده. ولكنه سرعان ما كان يعود إليه هدوؤه واطمئنانه عندما يقول له الذي بجانبه"نم ولا تخف، إنهم فقط الذين لا يسمّون"، إنهم المسلمون (=الجن) يقومون بأشغالهم، ومن الوقائع الغريبة التي يسترجعها الجابري بشأن الجن، أن أحد أطفال الحي كان "زهرياً" أي أن الخطوط المرسومة على راحتي يديه كانت على شكل خاص وفريد.

وكان مثل هؤلاء الزهريون محط عناية فائقة، إذ كان أهلوهم يخافون عليهم من أن يختطفهم "المختصون" في استخراج الكنوز والذين يسخرون جنية الزهري لإرشادهم إلى مكان الكنز. وحدث أن غاب هذا الطفل عن أهله طيلة النهار، ولما لم يرجع في المساء تيقنوا أن الجن قد خطفوه، واستعانوا بأحد المعروفين باسترجاع المخطوفين الذي قام بطقوسه وتعاويذه وانصرف مطمئناً إياهم بأن طفلهم سيعود إليهم سالماً، ومع ظلام الليل عاد الطفل وهو في حالة ذهول لا يدري أين كان ولا من أين أتى، ولم يسأله أحد عن ذلك "لأنه لا يجوز السؤال في مثل هذه الأحوال والشؤون التي تخص الجن".

ويقوم الجابري بتحليل مكانة الجن في نفوس أهل القرية فيقول: إن الجن وما يروى بصددهم هم وسيلة ردع، و وسيلة تنظيم للحياة، ولقد كانوا موضوع توقير واحترام، وأيضاً عنصر ردع وتخويف ليس للصغار وحدهم بل وللكبار كذلك. وهم يمثلون السلطة غير المرئية كالسلطة التي تمثلها الدولة اليوم في نفوس الناس عندما لا يكون هناك ما يجسدها.

ومن الذكريات التي لا ينساها الجابري ، الوباء العام الذي أصاب قريته، وأصيب به هو بنفسه، ولعله الطاعون حتى لقد غدا الموت في تلك الأيام عنصراً عادياً من عناصر الحياة اليومية، ولقد كانت النعوش من الكثرة إلى درجة أن الشعور الوحيد الذي كانت تثيره في الأطفال "هو الامتعاض من كونها تضايقهم في ألعابهم إذ كانوا يضطرون لفسح المجال لها المرة تلو المرة وبدون انقطاع". ويكاد الجابري أن يقول إن هذا الوباء الذي أصاب قريته في بدايات الأربعينات هو نفسه الطاعون الذي أصاب بعض المدن الجزائرية الغربية الذي خلّده الكاتب الفرنسي "ألبير كامو" في روايته الشهيرة "الطاعون".

ويذكر الجابري المكانة السامية التي تحتلها الأضرحة في قريته وفي المغرب عموماً، وهي "كثيرة ومتنوعة الاختصاصات، فاختصاص ضريح "سيدي منصور" غير اختصاص ضريح "سيدي الحاج محمد أوفضل" ... ومهما يكن فقد كانت هذه الأضرحة بمثابة "مستشفيات" ترتادها النساء لطلب الشفاء لهن أو لأبنائهن، وكثيراً ما يتطلب الاستشفاء المرابطة في الضريح عدة أيام"

وفي سياق الحديث عن أخبار الحمقى والمغفلين في قريته، يحكي الجابري عن الشيخ حمّان الذي كان "يتصرف تصرفاً يعلو على تصرف العقلاء العاديين من الناس ... كان ينطق بالحكمة وكان أحمقاً لأنه كان ذو عبقرية فوق المعتاد. كان من أولئك الذي يقول عنهم المثل: "خذ الحكمة من أفواه الحمقى". سئل الشيخ حمّان ذات يوم "كيف حال الدنيا؟" فسكت لحظة وأجاب: "إنها ملثمة، فلا ندري أهي رجل أم أمرأة". ولا يفوت الجابري أن يذكر شخصية "مامّا قّو" = أمي رقية ، والتي كان يخوّف بها الأطفال، ولا يتذكر عنها صاحبنا "سوى أنها كانت إذا خرجت من منزلها، عارية الوجه والرأس تجر ثيابها على الأرض، فر الأطفال من أماكن لعبهم في الأزقة وأفرغو لها الطريق ليطلّو عليها من ثقوب الأبواب حابسين أنفاسهم. لقد كان منظرها يجسدّ ... منظر إحدى الشخصيات الرئيسية في الحكايات التي تحكى للأطفال قبل النوم خاصة، حكاية "أمزا وتامزا" = الغول والغولة. كانت "ماما قو" تمثل في خيال صاحبنا الصورة البشرية ل "تامزا". أما زوجها "أمزا" فقد كان يصعب على عقل الطفل تصور شيء يشبهه".

وبالنسبة لليهود في قريته فقد كانوا يعيشون حياة عادية تماماً "يزاولون التجارة والحدادة والصياغة وصنع الأحذية ... وكان أطفال اليهود يلعبون مع بقية الأطفال ، لا فرق. وكانوا يتصادقون ويلعبون جميعاً. وما زال صاحبنا يتذكر طفلاً يهودياً كان صديقاً له، كان كثير المعاشرة لأطفال المسلمين: يلعب معهم ويدخل بيوتهم ... وكان صاحبنا يتردد على منازل أصدقاء أبيه من اليهود التجار فكانوا يعطونه من أكلاتهم الخاصة، كالرقاق ما يحمله معه إلى منزل أهله. وعلى العموم كان اليهود في فجيج يعيشون في هدوء وطمأنينة أيام طفولة صاحبنا. ولكنهم غادروا بعد ذلك خصوصاً خلال الحرب العربية الإسرائيلية 1947 – 1948".

أما كيف كان رجال القرية يقضون أوقات فراغهم، فإن "المجامع" كانت هي المكان المفضل، عند الكهول والشيوخ، وشغلهم الشاغل القيل والقال "حتى إذا رأوا قادماً على الطريق، رجلاً أو امرأة أمسكوا عن الكلام واتجهوا بأعينهم، بل بجميع جوارحهم نحوه، يتفحصونه من بعد وعن قرب إذا مر تبعوه بأعينهم إلى أن يغيب، ثم يعودون للتعليق ومتابعة القيل والقال... أما إن كان المار امرأة فهم يسكتون ويغضون الأبصار، حقيقة أو تصنعاً. ولكن كثيراً منهم لا يفوتهم أن يحدقوا في جسم المرأة ، من طرف خفي، رغم أن الإزار/ الحجاب يغطيها من قمة رأسها إلى أخمص قدمها. لم يكن أحد يتجرأ على الكلام في أي امرأة تمر، لأن أي امرأة في البلد لابد أن تكون أم فلان أو زوجة فلان أو أخت فلان". ولقد "كان من السهل أن يقع أصحاب المجامع في أزمة فقدان موضوع الكلام. لذلك تجدهم يقبلون تكرار الكلام في نفس الموضوع، يعيدون حكاية الخبر مرات ومرات. وكثيراً ما كانوا يلتذون بالاستماع إلى نفس الشخص يعيد نفس ما حكاه بالأمس أو قبله، متسامحين فيما يأتيه من زيادة أو نقصان" وتحليلاً لذلك يعلّق الجابري قائلاً إن "الخبر لم يكن من أجل ما ينقله من معلومات للسامع، بل من أجل تمضية الوقت. ولذلك فلم يكن معيار الصدق ذا شأن، فالشأن كل الشأن لتقديم القديم في ثوب جديد. أما الجديد نفسه فقلما يجود به الزمن، الذي هو قرين الرتابة في البلد الصحراوي، وكأن الصحراء ليست صحراء المكان بل صحراء الزمان أيضاً".

وفي سبيل عرض أبرز مظاهر التسلية الجماعية في القرية يذكر الجابري بأن "التسلية الرئيسية هي الكلام، وبالتالي فالتسلية الفردية كانت شبه منعدمة. ومن هنا ذلك الطابع الجماعي للحياة في هذا النوع من المدن الصغيرة المعزولة. لم تكن هناك حياة فردية خاصة، فكل شيء تقريبا كان على الشيع، وكل شيء في حياة الأفراد كان معروفاً أو قابلاً لأن يعرف بسهولة"، وهذا ما يقود الجابري للحديث عن الحياة الزوجية التي "كانت مختصرة في نوم الرجل مع امرأته ليلاً ... أما نهاراً فلم يكن الرجل يرى زوجته إلا مع باقي نساء الدار ... وكان كل من الزوجين يتجنب إظهار الاهتمام بالآخر. ولم يكن أحدهما يسمي الآخر أو يناديه باسمه، إذا كان هناك من يسمع.. وإذا تحدثت الزوجة عن زوجها أمام الأهل أو نساء الحي استعملت ضمير الغائب، وإذا نادته استعملت ضمير المخاطب، وإذا سمى الرجل زوجته أمام أهله أو أصحابه ذكر اسمها كاملاً: "فلانة الفلانية .. أو بنت فلان" ... وبكيفية عامة يمكن القول إنه لم تكن هناك أسرار بين الزوج وزوجته ، إلا في النادر".

ويستطرد الجابري كثيراً في الحديث عن "الرجل الذي يرجع إليه، بالفعل، فضل غرس شجرة العلم في مسقط رأسه فجيج، الشجرة التي مكنت جيله والأجيال اللاحقة في هذه المدينة من ولوج عالم المعرفة والانخراط في سلك المثقفين والفنيين والاختصاصيين على جميع المستويات. إنه الحاج محمد فرج" أحد رجالات الكفاح الوطني المغربي الذي أحدث القطيعة في مدينته بين الماضي والمستقبل ، بين الكتّاب والمدرسة العربية العصرية، بين اجترار الحياة وبين صنع الحياة، بين العزلة عن الوطن بتأثير الجغرافيا وبين الانخراط اللامحدود في العمل الوطني لصنع تاريخ الوطن. وقد كان الحاج محمد فرج إمام الجامع في القرية، وفي نفس الوقت كان مديراً لمدرسة النهضة المحمدية التي أنشأها بنفسه وكافح من أجلها، واستطاع أن يؤثر في الناس فتخلوا عن معتقداتهم المرتبطة بالطرقية وسلوكياتها وفي الاعتقاد بالخرافات والجن، وغدا التفسير العلمي الموضوعي للظواهر ينتشر ويتعمم، وتحرر الدين والشعائر الدينية من البدع والطقوس التي ليست من جوهره ولا من سننه. وإن إنكار الحاج لزيارة الأضرحة والمظاهر الشركية جعل مخالفيه يتهمونه بأن دعوته دعوة "وهابية". ومن الغريب في سيرة هذا الشيخ أن مخالفيه من "المحافظين" كانوا يأخذون عليه كونه "يخطب خطبة الجمعة بدون ورقة، وأنه لم يكن يحفظ القرآن كالماء ... ويخلط أمور الدنيا بأمور الدين ... وقد كانت السلطات الفرنسية تطلب منه أن يكتب خطبة الجمعة (حتى تتمكن من فرض رقابتها) ولكنه كان يرفض الرضوخ لهذا الطلب فيأتي دوماً إلى المنبر فارغ اليدين ليخاطب الناس مباشرة بكل جوارحه، بلسانه وبصره ويديه". وربما يستغرب القارئ حين يعلم أن مدرسة هذا الشيخ كانت تشمل أقساماً مشتركة للبنين والبنات وبدون حجاب، أي قائمة على الاختلاط بين الجنسين، وكان البنات يتقدمن التلاميذ الذين يصطفون مثنى مثنى لقراءة الأناشيد الوطنية جهراً كل صباح قبل دخولهم إلى أقسامهم. ليس ذلك فحسب بل كان رجال الحركة الوطنية وعلى رأسهم الحاج محمد فرج يرون ، حسب تعبير الجابري، "أن حجاب الفتيات وغيره من مظاهر الانحطاط كان من عمل الفرنسيين الذين أرادوا أن يبقوا على المغرب متخلفاً مستعمراً" وهذا ما يؤكد ما كنت قرأته عن أحد رجال الدين في المغرب أيام الاستعمار والذي أفتى بحرمة لبس الحجاب. (المراد بالحجاب هنا هو تغطية الوجه). ولا تمر فرصة للحديث عن الكفاح الوطني إلا ويغتنمها الجابري للحديث عن هذا الشيخ الذي "بدأ إماماً محدثاً في مسجد فانتهى إلى رجل تحديث وحداثة دون أن يشعر بتناقض في شخصيته".

وفي المجال العاطفي، فإن التكوين العلمي الفلسفي للدكتور الجابري يجعله لا ينفك عن تحليل أول تجربة حب له، تحليلاً علمياً فلسفياً، حيث إن هذه التجربة المتمثلة في مجرد "التقاء نظر" برئ بينه وبين فتاة في فصله، جعلته يستدعي نظرية ديكارت في تفسير عملية الإبصار، ويطبقها على تجربة الحب هذه التي مر بها في بدايات مراهقته. وعلى الرغم مما يبدو عليه هذا الأسلوب العلمي من جمود وبرود عواطف، إلا أنه لا يلبث أن يتجلى عن عاطفة جموحة وتعبيرات جيّاشة وأسى وحسرة، كانت مدفونة في أعماق كاتبنا و استدعتها حفريات الذاكرة هذه. وتتجلى هذه العاطفة بشكل أظهر عند حديث الكاتب عن وفاة أمه والذي أضاف له فصلاً مستقلاً.

وإن مما شدّ انتباهي، ما سطّره الجابري في وصف ما كان يمرّ به من قلق نفسي وفكري في فترة مراهقته، الذي سرعان ما تلاشى بعد قراءته لكتاب "دع القلق وابدأ الحياة" لمؤلفه الأمريكي : ديل كارنييجي. ويذكر الجابري بأنه "يدين لهذا الكتاب، ليس فقط في التخلص من تلك الأزمة بل لربما أيضاً في معالجة قلق الاختيار كلما اعترض حياته ما يستوجب اتخاذ قرار حاسم". وأنا شخصياً أكاد أقول بأني أيضاً أدين لهذا الكتاب الكثير، حيث قرأته أيام مراهقتي ، مثل الجابري تماماً، وقد ساعدني مراراً في تجاوز كثير من حالات القلق النفسي، وقد سرّني أني مررت بنفس التجربة التي مرّ بها الجابري.

ويمضي الجابري في الحديث عن حياته في وجدة ، إحدى مدن المغرب وأقربها إلى قريته، وانتقاله بعد ذلك للدراسة في الدار البيضاء ، وحياة الكفاح والاعتماد على النفس التي خاضها، وعمله في جريدة العلم كمترجم، بطلب من المهدي بن بركة ، أحد زعماء الاستقلال، وأخيراً انتقاله لإكمال دراسته في دمشق وما خاضه من تجارب في رحلته البحرية إليها. ومن الطريف أنه عند وصوله إلى بيروت واستقبال أصدقائه المغاربة له هناك، علم أن الشاب اللبناني الذي كان معهم يعمل راعياً، وكان يحمل الشهادة الثانوية، ويقارن الجابري بين المغرب ولبنان في ذلك، حيث كان من يحملون الشهادة الثانوية في المغرب آنذاك يعملون موظفين كباراً، وقد يعينون في وظيفة مدير ديوان وزير أو كاتب عام لوزارة، بينما حامل الشهادة الثانوية في لبنان يرعى غنماً "إذن لبنان متقدم جداً". وتنتهي ذكريات الجابري في هذا الكتاب عند عودته من دمشق ليجد كلية الآداب بالرباط تستعد لفتح أبوابها، حيث يلتحق بها ويختار الفلسفة تخصصاً.

وقد أشار الجابري في مقدمة الكتاب إلى أن مشروع هذه الحفريات يطمح إلى التحقق كاملاً في ثلاثة أجزاء أولها هذا الكتاب الذي يغطي مرحلة الصبا والمراهقة وأوائل الشباب. إلا أنه لم يظهر الجزآن اللاحقان إلى الوجود بعد، على الرغم من مرور قرابة عشر سنوات على ظهور الجزء الأول، وأتمنى أن نرى بقية "حفريات" الجابري قريباً، خاصة وأنها لا بد وأن تكون ثرية بالأحداث والتجارب القيّمة، التي تحكي تجربة الجابري السياسية والأكاديمية والفكرية.
معلومات عن الكتاب:
اسم الكتاب: "حفريات في الذاكرة من بعيد"
المؤلف: الدكتور محمد عابد الجابري
الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية.
الطبعة الأولى 1997م ، الطبعة الثانية 2004م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.