فتح قرار الحكومة الإسبانية تقييد مفهوم القضاء الكوني، الذي كان يسمح للمحاكم الإسبانية بمتابعة الجرائم الخطيرة المرتكبة بالخارج، جبهة جديدة مع السلطة القضائية. وصوت الحزب الشعبي، الذي يتوفر على أغلبية مريحة بمجلسي البرلمان الإسباني، على هذا القانون الذي يحد من إمكانية تحقيق القضاة في قضايا من هذا القبيل بموجب مفهوم "القضاء الكوني"، وهو إجراء تسبب في الكثير من الجدل والاحتجاج، لاسيما بين القضاة الذين يتولون قضايا في إطار هذا المبدأ القانوني، الذي استخدمه بشكل خاص القاضي، بالتازار غارثون، ضد الرئيس الشيلي السابق، أوغستو بينوشيه.
وبحسب النص الجديد، فإنه يجوز للمحاكم الإسبانية النظر في حالات "جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية أو ضد الأشخاص والممتلكات المحمية في النزاعات المسلحة"، شريطة أن يكون الإجراء موجها ضد مواطن إسباني أو أجانب مقيمين "عادة" بإسبانيا.
وبالنسبة للحكومة فإن هذا المبدأ "تسبب فقط في صراعات" بعد احتجاج السلطات الصينية القوي على خلفية إصدار المحكمة الوطنية، أعلى هيئة جنائية بإسبانيا، مذكرة توقيف دولية في حق خمسة مسؤولين صينيينº بينهم الرئيس السابق، جيانغ تسه مين، ورئيس الوزراء السابق، لي بنغ، بتهمة الإبادة الجماعية والتعذيب وجرائم ضد الإنسانية في التبت.
ودافع الحزب الشعبي، الذي اتهم بالخضوع لضغط بكين، عن إصلاح هذا القانون بالقول إنه "منطقي وعادل" للتركيز على القضايا الجنائية التي فتحت فوق التراب الإسباني. بل وذهب وزير الشؤون الخارجية والتعاون، خوسي مانويل غارسيا مارغايو، إلى أبعد من ذلك بتأكيده على أنه "لا يمكن أن تصبح إسبانيا دركيا دوليا".
وأشار رئيس الدبلوماسية الإسبانية إلى أن "التفكير في أن إسبانيا يمكن أن تفتح تحقيقا حول ما حدث بالتبت قبل 15 أو 20 سنة أمر غير واقعي وتسبب لنا في مشاكل خطيرة"، دون أن يكشف ما إذا كان تقييد مفهوم القضاء الكوني تم بسبب الضغوط الصينية، مؤكدا، في الوقت نفسه، أنه يشمل رد فعل سلطات بكين.
ولم يقنع موقف حكومة ماريانو راخوي ولا حججها المنظمات غير الحكومية المدافعة عن حقوق الإنسان أو قضاة المحكمة الوطنية الذين وصفوا الإجراء ب"غير الدستوري"، وخرج بعضهم عن صمتهم لتأكيد معارضتهم لهذا الإصلاح، بحجة أنه "غير دستوري" و"يقوض استقلال القضاء".
وقال القاضي سانتياغو بيدراس، الاثنين الماضي بمدريد، إنه يرفض إغلاق ملف وفاة المصور خوسيه كوسو الذي قتل بقذيفة أمريكية سقطت سنة 2003 على فندق في بغداد خلال الحرب على العراق، معتبرا أن القانون الجديد "مخالف لاتفاقيات جنيف" التي يتعين بموجبها التعجيل بفتح تحقيق حول جريمة وقعت خلال نزاع مسلح بصرف النظر عن جنسية مرتكبيها وأينما كانوا.
ومن جانبه، قال القاضي السابق بالمحكمة الوطنية في مدريد، بالتاسار غارثون، إن إصلاح القضاء الكوني يشكل "إهانة لاستقلال القضاء" و"قد تكون له عواقب قانونية على النواب الذين صادقوا عليه"، داعيا إلى الطعن في هذا النص أمام المحكمة الدستورية من خلال محامي الشعب.
ودعا بالتاسار غارثون، الذي سبق له أن طبق مفهوم القضاء الكوني في قضايا همت الأرجنتين والشيلي، جميع القضاة الإسبان إلى السير على خطى القاضي سانتياغو بيدراز.
وبالنسبة لجمعية قضاة الديمقراطية، فإن القانون الجديد للحزب الشعبي يشكل "تدخلا سياسيا" في مجال العدالة وذلك من أجل مصالح تجارية ودبلوماسية واستراتيجية مع دول مثل الصين.
وأضافت الجمعية، التي تضم قانونيين مرموقين بالبلاد، أن "الأمر يتعلق بخطوة إلى الوراء في مكافحة الإفلات من العقاب"، معربة عن استيائها لكون تقييد مفهوم العدالة الكونية تعني إلغاء كل المحاكمات المفتوحة بإسبانيا.
ولا يزال قضاة المحكمة الوطنية، وفي محاولة للدفاع عن استقلال القضاء، يقاومون السعي لإقناعهم بهذا الأمر، وخلافا لإرادة الحكومة، قرروا دراسة حالة بحالة الشكايات المرفوعة بإسبانيا في سياق القضاء الكوني.
وقد أضحى تقييد مفهوم القضاء الكوني بإسبانيا، التي تسعى الحكومة من ورائه إلى تهدئة الأوضاع وتفادي صراعات مع دول مثل الصين، قضية محرجة للحكومة التي لم تفتأ تؤجج التوتر، الحاد أصلا، بين السلطتين التنفيذية والقضائية.