شيوخ من أمثال القرضاوي يعيدون انتاج الكنيسة في القرون الوسطى تحت مسمى الإسلام السياسي: يفتون بالطرد من الملّة والقتل ويمنحون من يرضون عنه صكوك الغفران. هو ليس نموذجا حديثا او وحيدا. كثيرون هم يقبعون خلف الله وخلف الساسة. لم استغرب ولن استغرب ان يقع رجل دين بقيمة وثقل القرضاوي في حضن قطر وحضن الغرب. من منا ينكر ان الجاه والمال عندما يتساقط خلف الدين هو قوة وان اردنا التشبيه الصحيح هو مهر القوة والنفوذ والسيطرة والتحكم.
دائما في المجتمعات المحافظة او المتدينة بين قوسين، او حتى المجتمعات المهزومة البدائية او المستعمرة، تتعلق بالغيبيات وما وراء الكون لتبرر سلوكيات معينة لشخص حمل قبعة الشيخ، فكل ما يقال عنه هو الحقيقة باسم الله، وكل الفتاوى التي تصدر عنه هي قرانا بالوكالة المطلقة كخليفة لله على الارض.
باسم الدين نقتل ونكفر ونتزوج النساء الاربع ونسرق ونعيش الفساد متعة من متائع الدنيا الزائلة، هذا حال المشايخ القابعين في حواري الانظمة والساسة العرب، جميعنا نردد ان الدين افيون الشعوب وانا ارددها معكم افيونا وهيروينا ومارجوانا وحشيش وكل مكونات التخدير الابدي للعقل واجتياحاته المقموعة.
تساؤلات عديدة تعيش تناقضات الشيوخ في العالم العربي، تجدهم يقزمون الدين الى صغائر الاشياء عنوانها الفتن والمرأة والحرام والحلال والرذيلة والشرف، وفي لياليهم - ولا اعمم ولا اشمل - اشير الى فئة معينة هي عنوانا، يسهرون لياليهم في النظر الى مفاتن النساء عبر الفضائيات الاباحية وعبر الانترنت وبداخله يعيش غرائزه المكبوتة ويتمنى ويشتهي. وما ان يستيقظ صباحا، يعود الى قناع الدين والمشيخة مستغفرا الله على ما ارتكبه من جرم في حق ايدولوجيته وقناعاته المبتورة والله غفور رحيم.
ان هذه النماذج كثيرة. ولا عجب ان ترى المتدينون من هذا النوع يسعون نحو الغرائز بتفاصيلها المال والجنس والطعام، وما السياسة الا جزءا من هذه الغرائز لأنها المحرك الرئيس للتنفيذ وسأضرب لكم مثلا، فالأنظمة بغض النظر عن ايدلوجيتها وعلمانيتها ودينها، هي التي تقرر وتشرح وتحدد مسار الهيمنة والسيطرة سواء اكانت بمرجعية علمانية ام دينية ام يسارية او غير ذلك. وهذا يقودنا الى الشغف الذي يمتطي نفوس رجال الدين في الاقتراب من الحكم ومن الرئيس والقائد والنظام ليكون مفتي السياسي ومحللا لسلوكه وتشريعاته واتجاهاته ومبررا لإدارته السياسية حتى لو كانت تعانق المستعمر ام تحضنه على حساب الشعب وقضيته واهتماماته ونمائه وتطوره.
القرضاوي في غزة. ترحيب حمساوي يفوق الضيافة العربية. كيف لا وهو قادم من عند الحبيب صاحب الاموال التي لا تحصى، قادم من قطر المتحالفة مع اسرائيل واميركا وتنسق علاقات تجارية معها عوضا عن النهج السياسي تجاه القضية الفلسطينية والسورية على حد سواء، وآخرها قضية تبادل الاراضي بين اسرائيل والفلسطينيين بمباردة قطرية فاقت التبعية التاريخية لعملاء الاستعمار.
كل هذا لم يمنع حماس من استضافة القرضاوي مفتي البلاط القطري في غزة واستقباله كعلامة اسلامية بشكل عام وصاحب التأثير المباشر على قطر وحاكمها في تحليل السياسة القطرية لشعوب عربية لم تستفق بعد من غيبوبتها التي قضت الثورات العربية على موتها الرحيم.
لو عدنا للوراء نجد ان نماذج القرضاوي وجدت على مر التاريخ وخصوصا فترة الحكم العباسي والأموي وُسموا بشيوخ البلاط الرئاسي، ولكن فعلا ان قضية الاسلام السياسي والتوجهات القائمة من قبل هذه الحركات بشيوخها ومفتيها ما هو إلا رغبة جامحة للهيمنة والسيطرة على الحكم باسم الدين. وما منصب رجل الدين إلا بدعة من قبل السياسيين الذين حكموا في الفترة الذهبية للإسلام وبالتحديد العباسيون والأمويون والعثمانيون، حيث لم يرد في الاسلام كدين مثل هذا المصطلح، والهدف من ذلك هو غسل دماغ الشعوب وتثبيت سياستهم ضمن استراتيجية واضحة عنوانها شيخ ورجل دين.
وهنا تجدر الاشارة الى ان رجال الدين المبتدعين من قبل الحكام يتميزون بمواصفات تليق بمقامهم من حيث اللغة واللباس عوضا عن اموال تقذف الى جيوبهم بصورة تتخطى ما نتوقع، ولن يقف الامر عند هذا، فبإمكانهم ان يكونوا وسطاء لبعض الافراد والمؤسسات من باب الدعم الانساني لتجنيد اموال من قبل الانظمة بحيث يستطيعوا ايضا فرض نفوذهم على افراد ومؤسسات واحتواء سياساتهم التي لاحقا تتحول من منظمات غير حكومية الى منظمات غير قادرة على المعارضة لارتباطها المباشر ماليا بالنظام القائم، عوضا عن تحويلهم للدين كتجارة تحقق مصالحهم ومصالح المستعمر والحاكم.
ان الناظر لواقع العالم العربي السياسي اليوم يرى الازدواجية الواضحة في تعاطي رجال الدين والشيوخ مع الانظمة، فما يحدث في فلسطين وسوريا نموذجا لم تدرك الشعوب العربية حتى الان مغزاه.
وهنا اسأل القرضاوي عن سبب صمته على ما يحدث في سوريا والذي يلعب حاكم قطر دورا فيها، وأيضا ما طرح من قبل قطر حول مبادلة الاراضي بين الفلسطينيين والإسرائيليين وأيضا الحرب على غزة وغير ذلك.
ان صمت رجال الدين او علماء الامة كما يعرفون انفسهم عن اصدار فتاوى ضد الانظمة العربية وضد اضطهاد المرأة وضد اسرائيل ما هو إلا تبعية مطلقة للأنظمة وأيضا استخدام الدين كغلاف لمصالحهم الشخصية والقرضاوي عنوانا كبيرا لذلك.
اعلم انكم تعلمون انني ضد الحركات المتأسلمة التي تحاول اليوم استخدام الدين ذريعة لسياستها خصوصا انهم بدوا واضحين في اتجاهاتهم التحالفية مع الاستعمار وحماس والإخوان في مصر نافذة لذلك. واعتقد ان صفة التكريم والتبجيل والتقديس لرجال الدين في المجتمعات الاسلامية تعطي هؤلاء المساحة المعفية من النقد على ادائهم، وحتى مجرد ان انتقد انا او غيري هذه السياسة نهاجم من قبل البعض على اننا نمس الدين المتمثل بقدسية هؤلاء.
ان العائد لأوروبا فترة العصور الوسطى والتي نعيش تحولاتها في العالم العربي بدقة، كانت الكنيسة عنوانا للساسة والأنظمة الاقطاعية التي اعتبر اليوم ان انظمتنا الحالية توازيها سياسة ومكانة، ولكن بصورة اكثر تكنولوجية ومغلفة بالدين الاسلامي بدلا من الدين المسيحي. فلم تكن صكوك الغفران وعلاقة الانسان بربه من خلال وسيط ورفض مارتن لوثر لذلك مثلا افرز تشريعا بقتله لأنه يعارض مصالح الكهنة ورجال الدين والنظام في حينه. واليوم تعود هذه السياسة للعالم العربي من خلال شخص القرضاوي وأمثاله ممن يدعون انهم علماء الامة.
اعتقد ان الوعي بذلك هو النقطة الاولى للتحول في العالم العربي خصوصا بعد خيبة الامل مما افرزته الثورات العربية، واعتقد ان الوعي في ما نريد هو اساس التغير بعيدا عن العاطفة والدين السياسي. وإقصاء القرضاوي وعلماء البلاط السياسي من التأثير على مسار التحول نحو الحريات في العالم العربي سيساهم في قدرة الشعوب على فرز انظمة اكثر وطنية واستقلالية عن المستعمر مما يفضي تحولا في واقع الامة العربية.