أنا لا أتمتع بسرعة كبيرة للفهم أو للبديهة ... وقدرتي على متابعة سياق طويل وتام التجريد من الأفكار محدودة جدا .. ولكني أتفوق على النسق الشائع من الناس في مقدرتي على ملاحظة الأشياء التي تغيب بسهولة عن الانتباه, وعلى مراقبة تلك الأشياء بدقة. تشارلز داروين.
من الإصدارات المميزة للعالم البريطاني تشارلز داروين هو كتاب التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوانات L'Expression des émotions chez l'homme et les animaux بترجمة مميزة للدكتور محمد الشيخلي, أستاذ الفيزياء الحيوية بجامعة بغداد. قبل أن اتحدث عن الكتاب يجب أن أوضح معلومة مهمة: الدار الناشرة تقول أن هذه الترجمة هي أول ترجمة لكتاب داروين. وهذه المعلومة غير صحيحة ويجب أن يتم تصحيحها في الطبعات القادمة. هذا الكتاب تم ترجمته في عام 2005 م من قبل المجلس الأعلى المصري للثقافة, إصدار رقم 977, بواسطة المترجم مجدي محمود المليجي, تحت عنوان التعبير عن الإنفعالات في الإنسان و الحيوانات. هل هناك فروقات في الترجمتين? قرأت ترجمة المليجي السنة الماضية وتوقفت في منتصف الكتاب. لا أريد أن أعيب ترجمة المليجي, حاول جهده في ترجمة الكتاب كاملا وكتب مقدمة مميزة, وكل ذلك يحسب له باعتباره صاحب المباردة الأول في ترجمة الكتاب. ولكن كشخص غير مطلع بشكل كامل على المصطلحات الطبية والطبيعية سيجد مشكلة في الاستمرار في القراءة لعدم فهمه بعض المصطلحات التي تحتاج لتعريفات وتوضيح, وكلما كان هناك توضيح وتعريف, فالقراءة ستصبح بطيئة وقد تفشل. أما ترجمة محمد الشيخلي فهي سهلة القراءة وواضحة والمصطلحات مفهومة ونستخدمها يوميا. أي قارئ غير مختص بالأمور الطبية أو الطبيعية لن يجد مشكلة على الإطلاق في قراءة كتاب داروين هذا وبترجمة الشيخلي من إصدار المنظمة العربية للترجمة.
هل يجب أن يكون الكتاب ممتعا حتى نقول عنه أنه رائع ويستحق القراءة أي بأن القارئ يستعذب القراءة ويحبها, ولا يريد التوقف دقيقة واحدة. عند قراءة الرواية مثلا, أي رواية جيدة من المؤكد أنها أعطت القارئ ما يبحث عنه, وإن لم يجد المتعة في الرواية سيقول أنها لا تستحق القراءة بشكل مباشر. ما ينطبق على الرواية هل يمكن أن ينطبق على الكتب الأخرى: الكتب الطبية مثلا أو الفكرية وغيرها. هذا السؤال مهم جدا وليس عبثي. إجابة هذا السؤال ليست شيء مؤكد عند القراء على وجه العموم. هناك من يقرأ لسبب محدد, إن توفرت المتعة في المادة المقرؤة كان بها, وإن لم تكن هناك متعة فلن يتوقف عن القراءة لأنه أجبر نفسه على القراءة لعدة أسباب: ربما لهدف تعليمي أو نقدي. ولكن القارئ الحر الغير مرغم على قراءة كتاب محدد, لن يستمر في قراءته مالم يجد المتعة في المادة المقرؤة.
ولكن هذا الشيء محير بالفعل. كيف يمكن أن يكون كتاب فلسفي مثلا ممتعا. المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في حوار له كان يشير إلى أنه في كتاباته يسعى لإمتاع القارئ أولا قبل أن يقدم له خلاصة أفكاره. ولكن بعض المؤلفين لا يلقون بالا للمتعة المرجوة التي يطمح إليها كل قارئ. هم يطلقون شرارة اللهب, إن حققت المتعة أم لا, فهي قد أطلقت ولا سبيل لإيقافها. متعة القراءة موجودة في كل الكتب بلا استثناء. وكل قارئ يضع معيار متعة القراءة له. حتى أعقد الكتب الفلسفية التي - ربما - لا أجد فيها أي متعة على الإطلاق, هناك من يجد فيها متعة خالصة لا يمكن أن تتوفر في أي شيء آخر. أتذكر أني قرأت جزء رسالة مرسلة من نبيلة نمساوية إلى الفيلسوف الشهير إيمانويل كانط, تقول فيها: يا كانط العظيم, إليك ألجأ كما يلجئ المؤمن إلا إلهه. مضت في رسالتها تبث حبها له, وتقول: لولا كتبك لقتلت نفسي. السبب الذي يجبرني على طرح هذا الرأي هو كتاب داروين. صحيح أني أقرأ الأدب وأجد فيه ما ابحث عنه. ومع ذلك أفضل الخروج عن نطاق الأدب لأفتح مجالات قراءة أخرى. لا ابحث عن المتعة في الكتب الغير أدبية, فأنا ابحث عن التنويع واكتشاف مجالات جديدة. من الأشياء التي لم تخطر في بالي قط, أن أجد كتاب داروين هذا يحوي كل المتعة التي ابحث عنها في الأدب. أقرأ باستمتاع بالغ وكأني أقرأ نص أدبي بالغ الإتقان. ربما يعود السبب في ذلك لمادة البحث المطروحة في الكتاب, وهو شيء محبب ويحصل يوميا في حياتنا اليومية ونقرأ عنه في الأدب بشكل كبير, بل يعتبر من أساسيات الرواية والأدب: التعبير عن العواطف. أو ربما يعود السبب في طريقة ترتيب داروين لتلك المبادئ وتصنيفها والحديث عنها عبر استشهادات من المحيط القريب له, والبعيد جدا. هذه المتعة التي قدمها لي داروين أجبرتني لاحقا على مشاهدة ثلاثة أفلام وثائقية عن داروين ونظرية التطور, وفيلم تلفزيوني عن حياة داروين. لا أعرف هل أبدأ بالحديث عن الكتاب أو بالمؤلف أو عن نظرياته التي تلقى كل القبول, وكل الرفض كذلك. لا أعرف من أين أبدأ الحديث بكل صراحة لأن المؤلف شخصية ليست سهلة للغاية, قد اكتب أشياء قد تغضب الطرف الآخر والعكس صحيح. من أجل ذلك سأبدأ من تمثال تشارلز داروين الضخم في متحف التاريخ الطبيعي في لندن. قبل عقود من الزمن, عندما كان داروين يطوف برحلته البحرية وهو شاب, يجمع أنواع مختلفة من الكائنات الحية الغريبة وبقايا الحفريات, كان هناك عالم أحياء وتشريح مقارن ذائع الصيت في لندن يدعى ريتشارد أوين. عندما نذكر كلمة ديناصور غالبا ما يذكر اسم أوين الذي أطلق هذا الإسم لأول مرة على بقايا الديناصور الموجود حاليا في القاعة الرئيسية في المتحف. أوين يعتبر النقيض العنيف لداروين. فهو معارض بشكل كلي لنظريات داروين حول التطور والإنتخاب الطبيعي. قاد ذلك لاحقا إلى مهاجمة الطرفين لبعضهما طوال سنوات. داروين كان متفرغا لبحثه الذي لم يطرحه إلا بعد وقت طويل, بينما أوين كان القوة الدافعة وراء تأسيس أعظم متاحف التاريخ الطبيعية في العالم. كان يحلم بأن يكون المتحف الذي يضم عجائب الخلق على طراز الكاتدرائيات العظيمة المبنية في أوروبا في القرون الوسطى. تم إقامة المتحف بصورة تخلب عقل كل من زاره واطلع عليه عام عام 1881 م. كنت قد زرت هذا المتحف السنة الماضية. لم أدخل مباشرة إلى المتحف, وإنما أخذت دورة كاملة على المتحف للتأمل في شكله الخارجي الذي يقارع أجمل التحف المعمارية في العالم. ولكن, لو تأخرت قليلا في زيارة المتحف لربما لكان بالإمكان اللحاق بمشاهدة المعركة الأخيرة التي حدثت بين داروين و أوين عام 2009 م. تفاصيل هذه المعركة هي كالتالي: تم إنشاء المتحف بدعم قوي من ريتشارد أوين, عند وفاة أوين تم اقامة تمثال ضخم في القاعة الرئيسية للمتحف, بحيث يطلع عليه أي زائر للمتحف. المتحف يضم كنوز هائلة من عجائب الخلق, وكل عينات داروين التي جلبها معه من رحلته الطويلة. في السنة الماضية, وفي غمرة احتفال المجتمع العلمي بمرور مائتين سنة على ميلاد تشارلز داروين, قررت إدارة المتحف إزاحة تمثال أوين الذي كان القوة الدافعة لإنشاء المتحف, وتنصيب مكانه تمثال أضخم منه لعدو أوين اللدود تشارلز داروين. حتى في التفاصيل كان الأمر مختلفا. كان لون تمثال أوين قريب للون الأسود, ويجسد شخصية أوين وهو واقف. بينما تمثال داروين العكس منه, تمثال يكسوه البياض وهو جالس على كرسيه يضع قدمه على الثانية, وكأنه يعلن سلطته وقوته ومعرفته تجاه أوين.