للعقلية (mentalité) المتخلفة صفات كثيرة جدا، يصعب سردها والإحاطة بها كلها. وأعتقد أنني قاربت هذه الظاهرة، لكن بشكل غير مباشر ودون قصد الخوض في موضوعها، في مقال بعنوان"إنهم تائهون وفي كل واد يهيمون! ومع ذلك يتعجرفون!!!"(جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، 28 مايو 2014)؛ ذلك أن من بين سمات الذهنية المتخلفة التخبط والخلط والتردد والارتباك والتناقض…، من جهة؛ والتكبر والتنطع والاستعلاء والتعجرف…، من جهة أخرى. ومن كانت هذه هي صفاته (وهي الصفات التي ركزت عليها في المقال المذكور)، سواء كان فردا أو جماعة، فإنه لن يستطيع أن يتملك منهجا للتفكير، يقوم على ثقافة التساؤل وحسن الإصغاء وممارسة النقد الذاتي وإعمال التفكير الجدلي في تفسير الظواهر والأحداث، الخ؛ بل ينحصر تفكيره في نظرة أحادية للأشياء (أبيض أو أسود) ويعتمد في تفسيره للأحداث على عامل واحد. كما أن من سمات أصحاب التفكير المتخلف أنهم لا يقرون بأخطائهم ولا يقبلون بآراء مخالفيهم. وإذا تحملوا مسؤولية ما وفشلوا في أدائها، تراهم يبحثون عن مشجب يعلقون عليه أسباب فشلهم؛ ولذلك، فهم لا يتحدثون عن الفشل عند تحققهم منه، بل يستعملون كلمة الإفشال التي يهدفون، من ورائها، إلى تحميل غيرهم مسؤولية فشلهم. ويندرج هذا النوع من العقلية فيما يسمى بنظرية المؤامرة؛ وهي نوع من التفكير الذي يفسر الأحداث والوقائع على أن من ورائها متآمرون يديرونها من خلف الستار. ودون الدخول في تفاصيل النظرية وتعريفاتها التي تختلف باختلاف وجهات نظر أصحابها، نقول بأن المؤامرة تقتضي وجود طرفين: طرف متآمِر وطرف متآمَر عليه. وفعل التآمر قد يحصل بالفعل وقد يكون متوهَما. كما أن المؤامرة قد تحدث في المنزل أو في العمل أو في الحزب السياسي أو في النقابة أو في الجمعية أو في الدولة، الخ. ونحن لا تهمنا، هنا، لا المؤامرة (التي قد تقع أو لا تقع) ولا نظريتها، بقدر ما يهمنا النوع من التفكير الذي تكرسه هذه "النظرية". وتهمنا، بالأساس، خلفيات وتجليات هذا النوع من التفكير في حياتنا السياسية. صحيح أن هذا النوع من التفكير قد يكون تعبيرا على عدم القدرة على فهم وتفسير الأحداث لأسباب موضوعية كالجهل وغياب المعطيات والمعلومات الكافية. لكنه، أيضا، قد يجد فيه الفاعل السياسي (الذي يهمنا هنا) الوسيلة "المثلى" للتهرب من المسؤولية فيما يقع من أحداث التي هو طرف فيها؛ وذلك بلعب دور الضحية (أي المتآمَر عليه). وهذا هو، في نظري، ما يقوم به حزب العدالة والتنمية المهووس بعقدة المؤامرة، من آخر مناضل في القاعدة إلى أول مسؤول في الحزب (فهم كلهم يعتقدون أن الجميع يتآمر عليهم؛ والأصح أنهم يعملون على إيهام الناس بذلك)؛ ويكفي أن نستحضر بعض مواقف الحزب على المستوى الحكومي وعلى مستوى البرلمان، وحتى على مستوى الأجهزة الحزبية، لندرك هذه الحقيقة. فهم كلهم يجتهدون في تقمص دور الضحية. فحتى في تهجماتهم على خصومهم السياسيين، فهم يحاولون إقناع الرأي العام بأنهم في وضعية الدفاع عن النفس. كما أنهم يجتهدون في ترويج فكرة مفادها أن الآخرين (المعارضة المؤسساتية وغير المؤسساتية) يعرقلون عملهم ويحولون دون تنفيذ الإصلاحات التي وعدوا بها الناخبين. فبدل أن يقروا بعدم قدرتهم على تحقيق وعودهم، يلجئون لنظرية المؤامرة التي هي سلاح العاجز وشماعة الفاشل. نتذكر جميعا كيف دشن الحزب الأغلبي عهده بالاستنجاد بمملكة الجن والحيوان لصياغة "مصطلحات" ذات حمولة قدحية، يصف بها خصومه ومعارضيحكومته.فقد حقق الأستاذ "عبد الإله بنكيران" ووزراء حزبه، في هذا الباب، إنجازا غير مسبوق؛ إذ أقحموا الحيوانات والعفاريت في القاموس السياسي المغربي، فأصبح لها حضور ملفت في خطاب مسؤولي "البيجيدي" سواء تحت قبة البرلمان أو في الحوارات الصحفية أو وفي التجمعات الحزبية. لقد أضحت كلمة "تماسيح" وكلمة "عفاريت" تشكل، في خطابات "بنكيران"، "مصطلحا" واحدا، بحيث لا يتحدث السيد رئيس الحكومة عن التماسيح إلا وهي مقرونة بالعفاريت. فهذه المخلوقات قد استوطنت ذهن رئيس الحكومة وتمثل نموذجا من التساكن السياسي غير المسبوق. فالتماسيح لا تُستحضر إلا مصحوبة بالعفاريت. ورغم أنه لم يجرؤ يوما عن الإفصاح عمن يقصدهم بهذه الاستعارة غير الموفقة، فإنه من السهل أن نفهم بأنه يقصد كل جهة (أو جهات) يمكن أن يعلق عليها شماعة فشله. ويمكن، أيضا، وبنفس المنطق، منطق المؤامرة، أن نعتبر أن السيد "بنكيران" يمارس التعتيم بهذه الطريقة ليوهمنا بأن هناك من يريد إفشال مشروعه، بينما هو، في الواقع، يخدم مشروع الجهة التي يدعي أنه يهاجمها. وبهذا، يصبح، بعد أن نقلب المعادلة، انسجاما دائما مع نظرية المؤامرة، المتآمر الأكبر (مع جهات نجهلها؛ قد تكون من "المخزن" العتيق وقد تكون خارجية؛ جماعة الإخوان، مثلا ) على الشعب المغربي من خلال تراجع حكومته عن المكتسبات السياسية والاجتماعية والحقوقية التي حققها هذا الشعب بفضل نضالاته المريرة. فتعطيله لدستور فاتح يوليوز 2011 خير دليل على ذلك. إنه التآمر على الانتقال الديمقراطي الحقيقي الكفيل بتحقيق الملكية البرلمانية التي شكلت سقف شعارات ومطالب الحراك الديمقراطي المغربي الذي جسدته حركة 20 فبراير. ولنا في التنازل على صلاحياته (التي حرصت القوى السياسية الديمقراطية على توسيعها ما أمكن في الدستور الجديد لتفادي ما كان يعاني منه الوزراء الأولون السابقون، وبالأخص "عبد الرحمان اليوسفي"، من ضيق في هامش التحرك واتخاذ القرار…) ما يؤكد ما نحن بصدده. فالاشتغال بعقلية ما قبل دستور 2011، هو تآمر على الحراك الديمقراطي بهدف إجهاضه. لكن، لإخفاء هذه الحقيقة، يلقون بالمسؤولية على غيرهم بادعاء أن هذا الغير يعرقل عملية الإصلاح. وليكون لدور الضحية (الذي يتفنن "البيجيدي" في لعبه) صدى في المجتمع، استنجد الحزب الأغلبي بعالم "ابن المقفع" واختار منه بعض الحيوانات التي ترمز إلى "الشر" ليجعل منها رمزا لخصومه السياسيين الذين لا يرى فيهم إلا متآمرين. وسنكتفي، هنا، بمثال واحد، نأخذه عن السيد"عبد العزيز الرباح" الذي استعار مصطلح "الأفاعي" للحديث عن خصوم حزبه، حيث قال في ملتقى شبيبة الحزب بطنجة (غشت 2012): "إن مسلسل الإصلاح الذي يقوده الملك ، تترصده "الأفاعي" التي تنتظر الفرصة للخروج من جحرها من جديد، معتبرا أن بعض تلك "الأفاعي" تحاول "إشعال نار التخاصم" بين الإرادات الملكية والحزبية والشعبية، مستغلة الصحافة في ذلك" ؛ ودعا "الرباح" إلى مواجهة هذه "الأفاعي" بحزم ، معلقا: "هؤلاء لا مكان لهم في المغرب الجديد إلا إذا تابوا إلى الديمقراطية"(عن جريدة "المساء"). والتوبة إلى الديمقراطية لا تعني، هنا، في نظرنا المتواضع، وحسب المعطيات التي أكدها ويؤكدها الواقع، سوى ترك الحكومة تعمل ما تشاء دون معارضة ودون نقد أو انتقاد، بحجة أنها تحظى بثقة الشعب. فيكفي أن تنتقد حكومة بنكيران لتجد نفسك مصنفا في خانة الأشرار. وهذا ما وقع ل"عيوش" و"التازي". فبعد أن غيرا رأيهما في أداء حكومة الحزب الأغلبي، نالا من "بنكيرن" وحزبه الشيء الكثير من التهجمات والاتهامات والأوصاف القدحية. ويذكرنا هذا الموقف بخطاب "بوش" بعد 11 سبتمبر 2001 الذي مفاده أن من ليس معي فهو ضدي. ونعرف تبعات ومخاطر هذا النوع من الفكر الشمولي الذي يتدثر في عباءة الفكر الديمقراطي. بعد النهل من عالم الجن والحيوان، وبعد أن أصيبت "المصطلحات" (التي نحتوها من هذا العالم) بالبوار، طلعوا علينا بمصطلح جديد، اسمه "الدولة العميقة". وقد كانت وجهتم، هذه المرة، نحو بلاد الحليف الإستراتيجي الذي استعاروا منه حتى اسم الحزب. وقد وجدوا في القاموس السياسي والتاريخي التركي المصطلح المناسب لتفكيرهم القائم على نظرية المؤامرة. فالقول بالدولة العميقة، يحيل على الدولة القائمة ويوحي بتعارض مصالحهما. وكعادتهم، يلعبون على الغموض، فيطلقون مسميات يلفها كثير من اللبس والالتباس الدلالي، لكونهم يتعمدون تركها دون تحديد؛ لكنهم يضفون عليها مسحة من الحمولة العاطفية حتى تؤدي مهمتها المتمثلة في إقناع المخاطب بأنهم ضحية جهات تتآمر عليهم. .فكل "المصطلحات"(إن صح القول بأنها مصطلحات) التي يستعملونها في حق خصومهم، تصب في نظرية المؤامرة التي يختبئ وراءها حزب العدالة والتنمية للتحلل من مسؤولياته وتقديم نفسه على أنه ضحية. وهكذا، تراهم يتهمون معارضيهم بعدم الاستقلالية وبتنفيذ توجيهات الدولة العميقة، كلما مارسوا حقهم الدستوري وعبروا عن رفضهم لسياسة الحكومة. فكل قرار أو موقف سياسي لا يتماشى مع توجههم، يعتبرونه تنفيذا لتوجيهات الدولة العميقة. حين خرج حزب الاستقلال من الحكومة، بعد أن رفض رئيس الحكومة التعديل الحكومي الجزئي الذي طالبت به القيادة الجديدة للحزب (والقصة وتطوراتها معروفة لدي الرأي العام)، اعتبروا ذلك مؤامرة تمت بتوجيه من الدولة العميقة؛ بينما التحالف مع من اتهموه بالأمس بالفساد وأرادوا محاكمته، اعتبروه من "فتوحات" الدولة القائمة. كما اعتبروا أن المجهودات التي بذلت لتوحيد الصف النقابي، قد تمت بتوجيه من الدولة العميقة. وقس على ذلك من الأمثلة التي تبرز قصور الحزب الأغلبي في تمثل دوره الحقيقي كقائد لأغلبية حكومية، مسؤولة عن تدبير شؤون البلاد والعباد بناء على تعاقد سياسي، قوامه الاحتكام إلى المقتضيات الدستورية القائمة على قاعدة ربط المسؤولية بالمحاسبة. خلاصة القول، الاحتماء وراء نظرية المؤامرة، دليل على العجز والفشل. والفاشل يبرر، دائما، فشله بوجود قوة تمنعه من تحقيق طموحاته. وحين يتعلق الأمر بأمور الدولة، يصبح الأمر خطيرا؛ ذلك أن الفاشل قد يجر البلاد إلى المجهول. وهذا هو مصدر القلق الذي أصبح يساور الأوساط الثقافية والسياسية والنقابية والجمعوية والحقوقية وغيرها.