سيدي العمدة أقرأك السلام وأرجوا أن تتقبل كلماتي رغم بساطتها فهي مهداة إليك: اعذرني سيدي إن أنا تطاولت اليوم على المقام، وتجرأت على قول ما لا يمكنه أن يقال سواء في حضرتك أو من وراء ظهرك، أولا لمكانتك الاجتماعية الجديدة التي أصبحت تحتلها، وثانيا لوضعك السياسي المتميز الذي اختارته لك البطون الجائعة، والجيوب الفارغة، والعيون الدامعة، والأكف الضارعة، والنفوس المحطمة في شوارع وأزقة المدينة، فهي شهادة جماعية تبعد عنك كل الشبهات، وتزيل عن تصرفاتك الغريبة كل التأويلات، وأنت السياسي المنتظر الذي تحدثت عنه صحف الرصيف عبر الأزمنة، ونعتته بأقدس النعوت، ووضعته في مصاف عظماء هذا البلد الذي اختلطت فيه الأوراق، وقننت الأرزاق،، والتفت الساق بالساق في كل مقهى وزقاق، وتطاولت أعناق الرفاق منتظرة لحظة التلاق في مؤتمرات النفاق. سيدي العمدة : أكاتبك اليوم بعدما هزمنا الملل، وقتل حياتنا الضجر، وأنهكنا الكسل ،وأعيانا الوقوف اليومي أمام بابك، منتظرين أن تتحقق بعض من وعودك المعسولة التي جادت بها أنانيتك يا مولاي ساعة جنونك السياسي الموسمي الذي لقنته بعفوية للأجيال، وضايقت به كل سياسي محتال، يوم انفجرت طموحاتك اللامتناهية أمام الأعداء والأصدقاء وعابري السبيل من انتهازيي حزبك الذين أعياهم الانتظار. صدقني أيها المناضل المغوار، فأنا لم تحركني الغيرة للكتابة عنك، ولا شهوة المال أو المقعد الذي أرقت من أجلهما دماء وجهك، ودست على أجساد ضحاياك اليمينين واليساريين، وطعنت تاريخ شهداء وطنك، وانتحلت صفة الفقيه التقي الورع، الذي يوزع الفتاوى على المريدين وزوار المقام الجدد، وإنما حركتني كرامتي ووطنيتي وإنسانيتي، وهي المبادئ التي أصبحت متجاوزة في وطن امتلك فيه سائق الحمار سيارة رباعية، وقفز النادل ببذلة المقهى إلى مركز القرار، وبئس القرار. سيدي العمدة : أخبرك أن دورة الحياة لازالت تدب فينا كباقي البشر، رغم غياب وجهك المبارك عنا كل هذه الأعوام، فلا زلنا ننام ونحلم كما يحلم البشر، ونبحث طول الوقت عن عرا ف يأول أحلامنا ويحولها إلى أمل، لازلنا نمني النفس وننتظر انبلاج الصبح الكاذب ، وننتظر تحقيق تلك الأحلام، لازلنا نقف أمام مقرك مثل القرود الآدمية مصطفين معتدلين ننتظر أن تجود علينا سعادتك بابتسامة أو إشارة أو هدية ليلة العيد، نحس من خلالها أنك لازلت راضيا عنا، مطمئنا على بؤسنا وفقرنا وجهلنا الذي أصبح طريقا لنجاحاتك أنت وكل من سار في دربك. مولاي العمدة: الجميع أصبح على علم بماضيك الذي لم تعد تأبه به، يعرفون أنك كنت فقيرا معدما، تعيش على الفتات، وكنت تملك ذات يوم دراجة هوائية متقادمة كباقي الفقراء، كانت تساعدك على الوصول إلى مقر عملك القديم ولو بعد جهد جهيد، لذلك لم تذق في أيام محنتك العذاب الذي كان يتكبده أغلب أصدقائك العمال، مع حافلات المدينة المتآكلة من ازدحام وضجيج وروائح العرق، ليدور الفلك يا مولاي ويتبسم لك الزمن، وتريد لك الظروف أن تطأ على الورقة الرابحة، وتقلب حياتك، وتغير فجأة دراجتك الهوائية القديمة بسيارة المرسيدس دون عناء بذلته، أو مدرسة مزقت مقاعدها سراويلك، أو طريق أفسدت فيها حذاءك، أو بوليس طاردك. وجدتها يا سيدي باردة كما لو كانت تنتظرك، بعد أن خلت المدينة إلا منك، بعد أن استيقظ السفهاء، ونام العلماء، وهذا حال السلطة فبكرمها الحاتمي تستطيع أن تمنح الخير لمن تشاء، ومتى تشاء، وتمنعه عمن تشاء، خصوصا للذين يعرفون من أين تأكل الكتف” مادامت البندقية والبارود من دار المخزن” فهنيئا لك ولو قلتها متأخرا لسيادتك، فقد حطمت بجبهتك كل الحواجز، وتسلقت بدهائك الأسوار، وأسكتت كل الأصوات التي ظلت تحتكر التنظير، وتفتقر إلى جرأة التطبيق. بتعويذاتك أزلت اليوم من ساحتك شبح الأوثان والأصنام، وكل الصور العابرة للمسافات والرابطة بين الماضي والحاضر، لذلك أريد أن أهمس في أذنك اليوم لأخبرك سيدي بأنك لم تعد في الساحة ذلك اللاعب رقم واحد ، ولست وحدك الحالم بدوام أوضاعنا على هذا المنوال، فهناك الآخرون الذين ينتظرون بشوق دورهم للتفرد بالوليمة على أنقاض فشلك ليتمموا ما بدأته وما كنت تنوي القيام به من جليل الأعمال، واعلم أن هناك العديد ممن ينتظرون سقوطك كما أسقط طموحك كل الذين منحوك فرصة الظهور، والتعرف على عالم السياسة، واعلم سيدي أن دوام الحال من المحال، فانتظر دورك، فسوف يضيع ذات يوم اسمك بين آلاف الأسماء، كما ضاعت قائمة طويلة من الأسماء المصنوعة التي سبقتك. من حسنات وجودك عمدة للمدينة، وبفضل سخائك اللامتناهي لمتسولي السياسة، ومرتزقة الإدارة، أننا اكتشفنا حقيقة بعض الوجوه التي ظلت متخفية وراء الستار، كانت في السابق ترتزق خفية من موائد الكبار، وتظهر لهم الحقد أمام الرأي العام بالصوت والصورة، نراهم اليوم وقد اصطفوا خلفك في خشوع، يستمعون لتوجيهاتك السامية، ويلتمسون بركتك الربانية، حينما كنت تدشن في حفل بهيج افتتاح النافورة، نافورة المدينة التي أصبحت معلمة تاريخية، تضاهي سمعتها نافورة نيويورك وباريس، وشعبية حنفيات أحياء الصفيح في البيضاء والرباط ومكناس التي لازالت تصطف أمامها طوابير النساء والأطفال المعوزين والفقراء الذين لم يعد تفكرهم ينصب سوي في أن يحصلوا على جرعة ماء وكسرة خبز وكساء، لكي يستمروا في العيش من أجل أداء دورهم الوطني من أجلك ومن أجل أمثالك، وإخلاصا لموتى حزبك، هؤلاء هم من رفعوا مجدك، و هتفوا باسمك، ووضعوك في الواجهة، عندما باعوا لك أصواتهم مقابل وعودك السخية، حينما خيلت لهم أنك وحدك من يمتلك مفاتيح مستقبلهم، وبأنك سوف تزيل عن طريقهم كل العراقيل التي حرمتهم من وصول الماء الصالح للشرب والكهرباء إلى أكواخهم، والشغل لهم ولأبنائهم ، وأنهم سوف يستفيدون من قنوات صرف المياه الصحية كما الأحياء الراقية، ومن خدمات مراحيض المساجد القريبة مؤقتا بالمجان ، قبل أن تطالها الخوصصة، وتفوت مرافقها إلى المستثمر الأجنبي الذي يتقن فن الاستثمار ويعرف طريقة استغلال ضعف بورجوازيتنا اللطيفة التي تترفع عن خدمة مصالح هذا الشعب. عذرا سيدي العمدة، فقد أدركت متأخرا أنني تجاوزت كل الخطوط الحمراء معك، بعد أن وضعت أصبعي على مكامن ضعفك الذي تتميز بها في مواقفك وفي تسييرك لشؤون مدينتك، وأصبحت شكاوى الفقراء والمحرومين في نظرك مجرد فوضي وخرق للقانون، وتحولت مطالب العاطلين والمطرودين من عملهم إلى هذيان وسلوك المجانين. أثناء مهرجان تدشين الحنفية، والذي حجت إليه كل الرعية، كما حج إليه كل الطامعين الراغبين في التقرب منك،والتمسح ببركتك،والتعرف عليك، والاستفادة من عطائك، اقتربت بدوري من موكبك المهاب، رغم الحصار المضروب عليك من طرف عناصر الشرطة والقوات المساعدة، والبوليس السري، ومن حراسك المدنيين الذين يخفون في جيوبهم الخناجر والسيوف، اقتربت منك لأرى صورتك من جديد وماذا فعل فيها المال والجاه والسلطة، وقد لاحظت أنك تغيرت، بعد أن اعتلت ملامحك الترابية مسحة من الجمال السلطوي الذي زاد بهاءك ، وتحول شعرك الأشعث الذي لم يعرف المشط من قبل إلى نعومة اصطناعية، فقد أصبح مرتبا، كترتيب ملفات السادة النواب، وملابسك أنيقة أناقة بعض المحظوظين، ووجهك الذي لم يكن يعرف الفرحة من قبل وقد أصبح بشوشا بشاشة السادة المستشارين ليلة فوزهم. سيدي العمدة، أراك وكأنك غيرت رقم حذاءك، بعد أن أصبحت رجلك تبدو أصغر مما كانت عليه من قبل، وأنت الذي لم تنزع من قدميك طول أيام بؤسك حذاءك الرياضي ، والذي لم يسبق لك أن لبست معه جوارب تحميك من تقرحاته، وأتذكر جيدا كم كنت تشتكي لي من رائحته الكريهة التي كانت تنعكس داخل بيتك، والاحتجاجات اليومية التي كانت تصدر من زوجتك الأولى. اليوم لا أحد يجادل في النظرية المغربية”إذا أعطاك العاطي، فلا تحرث ولا تواطي”، وأأكد لك سيدي من جديد أنني لم أكتب موضوعي هذا حسدا أو غيرة منك، أو هجوما على شخصيك، وإنما خوفا على مصير هذه المدينة، وخوفا على مصير هذا الوطن من أمثالك، فوجودك على رأس مدينة بحجم مدينتنا، يضع أكثر من سؤال سبق لي أن طرحته: عن دور الجامعات والمدارس المغربية بكل شعبها العلمية والأدبية والقانونية والشرعية، إذا لم تستطع أن تمنح للوطن طبقة سياسية مثقفة وواعية ، تؤمن بالديمقراطية الحقيقية، وتبتكر البرامج الإنمائية، وتبحث عن حلول للمشاكل الاقتصادية المستعصية، وتمنح لوطننا التطور المنشود الذي نأمله، لنساير مجريات هذا العالم المتغير، ولنحارب داخل وطننا كل مظاهر التخلف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي أنت رمزا مميزا له ، كما أتساءل من جديد عن مكان اختباء الأساتذة النجباء والعلماء الأجلاء، والأطباء الأسوياء في هذا البلد ؟ لقد تخلف الجميع عن الحضور في حين لم تحضر إلا أنت وأمثالك. إنها فعلا كارثة حقيقية يا سيادة العمدة، ولا يمكننا السكوت عنها أو أن نترك الأمور تمشي كما أردت لها ديمقراطيتنا البئيسة ، فالزمن الذي نضيعه اليوم بالجملة عبر البرامج التلفزيونية المأجورة، والحفلات والمهرجانات التافهة، ورفع الشعارات المتجاوزة لن يرحمنا، والتاريخ الذي نستهزئ منه يسجل أخطائنا بالجملة، وسوف يحاسبنا على ضياع طاقة هذا الإنسان الذي انهكته الوعود، وعن نزيف الوقت والمال الذي يذهب سدى، وأحلام شبابنا المتعلم والمتخصص. نحن نصنع بإرادتنا الكراكيز البرلمانية، والزعامات الحزبية الورقية من أجل أن نوهم أنفسنا ونوهم الآخرين بأننا دولة تمارس فيها الديمقراطية بحذافيرها، تمنح العصا لمن تشاء وتزيلها لمن تشاء. يمكن أن يعيش الإنسان في هناء وسعادة واستقرار نفسي في مكان منعزل عن هذا العالم، حيث يتوزع الحق والعدل متساويا بين جميع أبنائه، وتوضع المسؤولية في يد من يستحقها، ولو كان حاكمها ديكتاتورا يعطي الأوامر من ثكنته ، لأن الهدف الأسمى من هذه الحياة هو الإحساس بالأمن والأمان على مصالح الوطن ومستقبله ، فينام المواطن مطمئنا ويحيا آمنا لأنه يعرف أن الساهرين على حمايته أناس أكفاء يستحقون منه الاحترام والتقدير والتضحية ولو على حساب الكرامة الانسانية.