نوفل البعمري * عرف المغرب منذ حوالي أربعة أشهر حراكا شعبيا و شبابيا، هدف الى احداث تغيير سياسي و مؤسساتي ببلادنا، يقطع مع اساليب الحكم المطلق الذي تكرس لسنوات طوال، و هيمنت فيه الدولة و أدواتها «السياسية› على طبيعة التطور الذي شهده المغرب طيلة 40 سنة الماضية، و هو تطور ظل محافظا على طبيعة النظام السياسي و جوهره، رغم بعض التغييرات الطفيفة التي شهدناها خصوصا فيما يتعلق بمجال حقوق الانسان، الى أن وصلتنا هبات نسيم الاحتجاج الجماهيري القادمة من تونس و مصر...، فاطلقت دينامية حركة 20 فبراير من خلال المسيرات و الفعاليات الشعبية التي نظمتها منذ انطلاقها الى حين الوصول لمرحلة اعداد الدستور و الاستفتاء عليه، و هي مرحلة خلقت جوا من النقاش السياسي حول طبيعة النظام السياسي و التحولات الممكنة خصوصا على صعيد الاستجابة لمطلب ربط المسؤولية بالمحاسبة، و كذا فصل الاقتصادي مع السياسي.....و غيرها من المطالب التي تم رفعها في الأشهر الاولى لانطلاق الحركة، بتنوعها و باستقلاليتها، و جماهيريتها قبل أن يتم التحكم فيها و في جموعها العامة لتتحول لأداة و درع في يد بعض الأطراف، وهو الموضوع الذي سنعود اليه فيما بعد. لقد عمل المغرب على اختيار منهجية التشاور في اعداد الدستور و عرضه على الاستفتاء، ودون الدخول في الأجواء المصاحبة للحملة التي تم تنظيمها خصوصا من قبل بعض الجهات من داخل الدولة، و التي حولت الاستفتاء الى فلكلور، غطى على الحملة التي نظمتها الاحزاب السياسية و النقابات و المجتمع المدني، و التي تطهر أن هناك جهات من داخل الدولة و وزارة الداخلية على الخصوص مازالت تريد التحكم في الحياة السياسية و المدنية، و مازالت تريد الهيمنة على المسار الديموقراطي ببلادنا، وأن تلعب دور الاحزاب السياسية التي تعتبر هي الاداة الطبيعية التي من المفترض الموكول اليها أمر تأطير المواطنين عموما و الناخبين خصوصا في مثل هذه اللحظات، و يظهر أن هذه الأطراف التي تحركت من أجل تنظيم مسيرات باخراج رديء، و مسيء للمغرب و للعمل الذي قامت به الاحزاب السياسية و النقابات و الجمعيات التي كانت لها موقف ايجابي من مشروع الدستور، ان هذه الممارسات التي تم تسجيلها في أكثر من مدينة، و تم الحديث عنها في العديد من تقارير المنظمات الحقوقية، تشير الى استمرار هذه الجهات المتنفذة في التحكم في مسار التحول وفي طبيعته و التخوف ان تتحكم أيضا في منتهاه. لذلك تبقى المهمة الأساسية التي على الجميع توضيحها هنا، بشكل لا يدع مجالا للشك هو أن تأطير المواطنين هو من اختصاص الاحزاب السياسية، و النقابات، و هيآت المجتمع المدني، و أن شرعية ما نقوم به من تغييرات يستند على حجم حيادها والمسافة التي تقوم بها الدولة تجاه الاستحقاقات التي قد نعيشها، و رغبتها في جعل الفاعلين الرئيسيين من الأدوات التي من المفترض انها تأطر المواطنين هي التي تقوم بمهامها، خصوصا و أن هذه الأحزاب تركت انطباعا ايجابيا على حيوتها و على قدرتها على الحركة و الفعالية في تأطير المواطنين، خصوصا اذا ما خلقت الأجواء المناسبة لذلك. لكن و للأسف و مع ما تم تسجيله هنا، من استمرار هذه التعبئة من قبل نفس الجهات للنزول للشارع بشكل متزامن مع المسيرات التي تنظمها ما تبقى من حركة 20 فبراير، و في نفس الزمان و المكان، بشكل أدى و سيؤدي الى توتر الوضع و الى ازدياد الاحتقان داخله بدل الاستناد الى نتائج الاستفتاء. عن الاعداد للاستحقاقات المقبلة سيشهد المغرب في المراحل المقبل عدة استحقاقات انتخابية، تهم تجديد مجلس النواب، واعادة انتخاب المجالس المحلية، والغرفة الثانية، وذلك من أجل ان تواكب المؤسسات المنتخبة التغييرات التي أقرها الدستور الجديد، واذا كنا في ذلك لا نختلف على ضرورة اجراء هذه الاستحقاقات قبل موعدها فإن ما يطرح من اسئلة واشكالات اساسية تهم توقيتها و الاجراءات المصاحبة لها، خصوصا فيما يتعلق بالتقطيع الانتخابي و نمط الاقتراع، والتغييرات التي لابد ان تشهدها الادراة الترابية، و جهة الاشراف،عليه فإن ما يتم تداوله اليوم من اتجاه اجراء الانتخابات في اكتوبر المقبل، فان ذلك يطرح علامات استفهام قوية حول اسباب هذه السرعة القياسية في تنظيم الانتخابات، و عن الجهة نفسها التي تجري هذا الحوار مع الاحزاب، خصوصا و ان وزارة الداخلية من خلال محاولة فرض اجندتها تجعلنا اليوم نطرح سؤالا مباشرا حولها، وحول اسلوب اشتغالها؟ و أية جهة تمثل، هل تمثل الحكومة جهات أخرى لا نعلمها؟ إن قرار اجراء الانتخابات و توقيته، ليس من اختصاص وزارة الداخلية، بل هو من اختصاص الحكومة التي يجب هي من تتولى فتح حوار حول الاستحقاقات المقبلة، و ليس وزارة الداخلية التي تريد اليوم فرض أجندة سياسية ستدخل المغرب بشكل متسرع في انتخابات سترهنه لخمس سنوات مقبلة، و هي الانتخابات التي من المنتظر ان تفرز لنا مؤسسات جديدة، الا يفرض ذلك اعمال ادوات و طرق جديدة مواكبة لهذا الاصلاح؟ الن يؤدي الاشتغال بمنطق ما قبل الاستفتاء الى تكريس العزوف و عدم الثقة؟
ان ما يجب القيام به هو القيام بإجراءات عملية، دقيقة تهم الحياة الانتخابية، تؤدي بشكل لا يدع مجال فيه للشك الى بعث روح المشاركة في الانتخابات، حيث انه لا يجب الارتكان والاطمئنان لحجم المشاركة في الاستفتاء ولا يجب قياسها على المشاركة في الانتخابات فطبيعة الاستحقاقين مختلف سواء من حيث الشكل أو المضمون و الغاية منه.
عن الولاة والعمال إن أولى الاجراءات التي يجب القيام بها، هو ضرورة القيام بحركة تنقيل للعمال والولاة بمختلف اقاليم و الولايات على الصعيد الوطني، خصوصا و أن جلهم ينتمون للعهد ما قبل الاستفتاء بل منهم مازال يشتغل بعقلية أمنية، غير مواكبة للتطورات التي ينهجها المغرب، كما أن جزء كبير منهم يتم طرح مسألة ارتباطاتهم بأطراف سياسية، بجدية، وعدم حيادهم عن الاحزاب السياسية، وعن كون تعيينهم جاء باقتراح من بعض الوافدين الجدد على الحياة الحزبية ببلادنا، بالتالي فالدخول للانتخابات بهؤلاء المسؤولين الترابيين، سيفقد للاستحقاقات شرط المساواة بين المرشحين والاحزاب السياسية، اذ لا معنى لاجراء هذه الانتخابات في ظل استمرار تواجد عمال وولاة مطروح عليهم اكثر من علامات استفهام، تجرحهم، و تشكك في حيادهم. إن مسألة ضرورة القيام بحركة واسعة لإعفاء و تنقيل العمال والولاة بالمغرب، يحيلنا مباشرة الى الحديث عن الاشراف على الانتخابات، هل يمكن اليوم و في ظل الدستور الجديد ان ندخل للانتخابات تحت اشراف وزارة الداخلية، التي ظل الجميع يطعن في اشرافها، و يتهمها بإفساد العملية الانتخابية، و بتدخلها في اغلب الاستحقاقات الماضية لأحزاب « الكوكوط مينوط» التي كانت تخرج من رحمها و تحوز على اغلبية مطلقة، ان الرجوع لتاريخ الاستحقاقات الانتخابية السابقة، جعل من استمرار اشراف وزارة الداخلية على الانتخابات هو ضرب من العبث، و تزكية للفساد الانتخابي و لهيمنة « اصحاب الشكارة» الذي استظلوا بظلها، كيف يعقل أن الوزارة التي ظلت منذ اول انتخابات الى العهد القريب يشكك الجميع في حيادها وفي تواطؤها مع احزاب بعينها، و في فبركتها للانتخابات، و تزوير نتائجها، ان تشرف على انتخابات نريد من خلالها ان تفرز لنا مؤسسات تعكس حقيقة ارادة الشعب؟
إن هاتبن الارادتين لن تستقيمان، لن يستقيم اشراف وزارة الداخلية مع مطالب الشارع في تخليق الانتخابات، وفي تحقيق المنافسة النزيهة والشريفة، فبالعودة للدستور الجديد، الذي اعطى للجهاز القضائي استقلالية كبيرة عن السلطة التنفيذية، والتي تم الارتقاء بالمجلس الاعلى للقضاء الى المجلس الاعلى للسلطة القضائية، وعزز الثقة فيه جهاز سيحقق الحياد المطلوب و النجاعة من خلال تنوع تشكيلته والتغييرات التي طرأت عليه من خلال اضافة مؤسسة الوسيط و المجلس الوطني لحقوق الانسان كمؤسستين ممثلتين بهذا المجلس في تركيبته الجديدة، يجعل من هذا المجلس و تعزيزا للثقة فيه، هو الجهاز المؤهل اليوم للإشراف على الانتخابات باعتباره جهازا مستقلا عن باقي المؤسسات والسلط، وباعتباره جهازا كذلك لا مصلحة له في الانحياز لجهة ما مادام القضاة سيشتغلون بمرجعية «المغاربة متساوون امام القانون» و هي مرجعية ستحقق لا محالة المساواة في الانتخابات بين الاحزاب والمرشحين، وسيؤدي الى اعطاء اشارة اساسية و هذا هو المهم للناخبين على تواجد رغبة حقيقية للدولة في تحقيق نزاهة الانتخابات واحترامها لإرادته.
عن نمط الاقتراع لمسألة الثانية و الضرورية اليوم، هي ضرورة اعادة فتح نقاش موسع و عميق حول نمط الاقتراع الحالي، الذي يحقق مطلب القضاء على استعمال المال الحرام في كل انتخابات، بل تم التحايل على نمط الاقتراع باللائحة في صيغته الحالية، و جعل من العديد من « اصحاب الشكارة» يتصدرون اللوائح الانتخابية، و اذا كان هنا تتواجد مسؤولية مباشرة للأحزاب السياسية أثناء اختيار مرشحيها، فان تغيير و تطوير نمط الاقتراع سيكون الاجابة الاساسية والرئيسية حول استعمال المال الذي يتم من خلاله افساد الانتخابات من خلال شراء الذمم و استغلال عوز الفقراء، و عليه يظل نمط الاقتراع الذي كان قد اقترحه الاتحاد الاشتراكي كبديل عن النمط الحالي منذ مؤتمره السادس الا و هو نمط الاقتراع الفردي على دورتين يظل هو النمط الانسب للقضاء على هذه الظاهرة، لان مستعملي المال الحرام لن يستطيعوا توزيع المال الحراك وشراء الاصوات مرتين، بالتالي سيتحقق مطلب القضاء عليهم و التواري للوراء، كما انه سيحقق مسألة القضاء على البلقنة، و ما ستفرزه الانتخابات من نتائج تصعب من مهمة رئيس الحكومة المقبل، لأن هذا النمط سيؤدي الى احداث العديد من التكتلات الحزبية أثناء الدور الثاني، خصوصا اذا ما صاحب ذلك رفع العتبة التي بموجبها يتم توزيع المقاعد على المرشحين.
عن مراجعة اللوائح الانتخابية المسألة الثالثة، هي قضية اللوائح الانتخابية، التي لا بد و ان يتم الاستغناء عنها اليوم، خصوصا و أنه و رغم المراجعة التي شملتها مؤخرا قبيل الاستفتاء ظل العديد من الشوائب يشوبها، بل ظلت مجالا اساسيا للصراع بين الدولة و الاحزاب السياسية لسنوات طوال، و التي كانت تعمل وزارة الداخلية على استغلالها لتزوير الانتخابات من خلال تمكين ناخبين بعينهم من بطائق متعددة للشخص الواحد، و تصويت « الاموات»، و التشطيب على من ارادوا حتى يحرم من المشاركة في الانتخابات....لذلك تظل البطاقة الوطنية هي البديل الطبيعي للوائح الانتخابية المشوهة التي على اساسها تتم الانتخابات، خصوصا وانه يستحيل معها التزوير أو التحكم في الناخبين مادام كل مواطن سيصوت بحيه، ومادامت ستعفيهم من اجراءات التسجيل باللوائح الانتخابية، والاشكالات التي تطرحها، حيث سيتم اعتماد اللوائح الادارية، وستجعل من كل المغاربة الحاصلين على البطاقة الوطنية هم مسجلين عمليا و ناخبين، مع ضرورة اعمال اجراءات قانونية استثنائية تمكن المواطنين الذين لا يتوفرون على البطاقة الوطنية من التصويت من المشاركة في الانتخابات. عن التقطيع الانتخابي المسألة الرابعة: قضية التقطيع الانتخابي، الجميع يعلم أن الدولة كانت من خلال فبركة تقطيع انتخابي تتحكم من خلاله في طبيعة الفائزين بالانتخابات، حيث من خلال التقطيع الانتخابي كان يمكن لها أن تضمن نجاح المرشح الذي تريد، أو ترسب المرشح الذي ترفضه، من خلال كون التحكم في التقطيع الانتخابي يتم من خلاله التحكم في الكتلة الناخبة نفسها، اذ كانت تعمل الدولة عندما تريد انجاح مرشح ما ان تعد له دائرة انتخابية بكتلة ناخبة تمكنه من النجاح، و في حالة رغبتها في تشتيت الكتلة الناخبة لمرشح لا ترغب فيه السلطة كانت تعمل على تجزئ الدائرة الانتخابية بشكل يضعف قوته و امتداده الانتخابي، لذلك فمسألة التقطيع الانتخابي لم تكن تراعى فيها وحدة الدائرة الانتخابية و تجانسها، بل كان يحكم هاجسها هو ارادة التحكم و السيطرة في العملية الانتخابية، لذلك وجب اليوم أن تتم اعادة النظر في الدائر الانتخابية، و طريقة التقطيع الانتخابي، و جعله في خدمة الديموقراطية لا في خدمة اجندتها و أهوائها السياسية ،بالتالي فالانتخابات اليوم تحتاج من بين ما تحتاج اليه هو جعل التقطيع الانتخابي فرصة و مناسبة أولية لدعم الثقة في الدولة، و في رغبتها بالاستمرار في الاصلاح السياسي، من خلال اجراء تقطيع انتخابي حقيقي، يتناسب ومتطلبات التغيير الذي ننشده جميعا كمواطنين، و كفاعلين. خلاصة: إن هذه المراجعات التي لابد أن تعرفها الحياة السياسية ببلادنا، لهي الكفيلة بوضع المغرب على سكته الصحيحة، و على أن يكون للمراجعة التي عرفها الدستور مؤخرا، سيكون لها معنى، و الا فمهما كانت المضامين المتقدمة للدستور الحالي، و مهما كانت طبيعة الآفاق الواسعة التي قد يفتحها الدستور، فانه لن يظل سوى نص مكتوب لا قيمة له، من الناحية الواقعية، والعملية، مادامت الانتخابات التي ستفرز لنا المؤسسات المنتخبة التي من خلالها سيتم اختيار رئيس الحكومة، ووزراءه و التي من خلالها ستجسد التعبير الحقيقي عن ارادة المواطنين الناخبين، وعليه فإن القيام بالإصلاح السياسي المطلوب هو الذي سيعزز الثقة في مسلسل الاصلاح الذي دشنه المغرب، و سيعيد المغاربة للمشاركة في الحياة الانتخابية و من خلالها الحياة السياسية و ستكون المرحلة الثانية للاصلاح السياسي قد انطلقت، وسيجعل من المغرب استثناء حقيقيا.