يحيى بوافي * سقراط : " النصر الوحيد الذي يدوم و لا يترك وراءه ما يوجب الندم ،هو انتصار المرء على نفسه ."
je puis bien concevoir un politique moral, c'est-à-dire un homme d'Etat admettant comme principes de la prudence politique ceux qui peuvent se concilier avec la morale; mais je ne conçois pas un moraliste politique qui se forge une morale à la convenance de l'homme d'Etat. KANT Ce qui important dans la révolution, ce n'est pas la révolution elle –même, c'est ce qui se passe dans la tête de ce qui ne la font pas ;c'est le rapport qui ‘ils ont eux-mêmes à cette révolution dont ils ne sont pas les agents actifs M.FOUCAULT
جالسا جلسته على المنصة ،على منوال تلك التي يجلسها أستاذ متسلط على مكتبه في مواجهة تلاميذه الخانعين ، في انتظار فيضه المعرفي و جوده الوعظي و كرمه الإرشادي، طمعا من عند نفسه في الإظهار الكامل لجسد تسلطه ، ملوحا بحركات بطيئة ليده كأنها تلتقط نغمات صوته المتثاقل الفاضح لتثاقل لسانه تحت وقع الخمر، و العهدة على شهادة المجربين و على رواية من عركتهم الدربة و الدراية بالآثار المسكرة للطلا و الراح و ما كان من الحرام متاح. و كما قال المتنبي :و إن تكن تغلب الغلباء عنصرها * فإن في الخمر معنى ليس في العنب. و لأن السيد محمد زيان كان في مقام انكشاف ،بعدما انجلت روحه وصفت مرآة نفسه و صقلت تحت تأثير المشروب الروحي ،فقد جلا و صفا أفق الخطابة لديه و بلغ منه مبلغ الحلول ، فلم يجد لسانه المتثاقل من تعليل ، و دماغه الذي صهرته سعرات الخمر لم يلف أسلس تحليل لما يقع في الوطن العربي من حراك و ربيع زاحف باخضراره الديمقراطي على أصقاع قتلها خريف الاستبداد العليل ،إلا قدرة الجبار الجليل سبحانه و تعالى ؛ فهي ما دفع الشباب التونسي إلى التضحية لإجتثات مؤخرة بنعلي اللاصقة تكوينيا بالسلطة من على كرسيها ،مرغما إياه على الرحيل ،و القدرة ذاتها كانت كذلك علة لإشهار شباب الثورة المصرية لصدورهم مرحبين بالمنايا في سبيل إبعاد عائلة مبارك و حاشيته الفاسدة التي تفننت في امتصاص دمهم و دفن آمالهم ...، و القدرة عينها هي السر المحرك و الباعث لما يقوم به الليبيون و اليمنيون و السوريون و لا زالوا من بدل لأرواحهم في سبيل التغيير و وضع اللمسات الأولى في سبيل أفق ،بالرغم من أنه سينضح بالدم ، إلا أنه سيضمن غدا أفضل للأجيال القادمة ... أما نحن و لأننا مغاربة ،بحسب منطوق ما قاله السيد زيان ،فقد كانت الإرادة الإلهية المطلقة معنا ك"شعب مختار "،بحيث دشنا انتقالات فيها كل محلل يحتار ،و كل مراقب لما حابانا به الله من معجزات سرعان ما يستبد به الدوار ، و سيدنا زيان صادق في ذلك ،على الأقل لأن انتقالنا الديمقراطي هو أشبه بالثبات و السكون ، إنه الحركة الأزلية لشبح الديمقراطية في دائرة مفرغة كرمز للجمود و قد أذن فيها القدر أن تكون فريسة الأبدية ،و هو ما يمكن أن نستشفه إن نحن قارنا فقط بين المدة التي استغرقها ترقبنا في قاعة انتظار الانتقال الديمقراطي الموعود و بين الفترة التي استغرقها الانتقال الديمقراطي غير بعيد عنا في الجارة إسبانيا .و لأن الله اختصنا بهذه النعمة ،بحسب السيد زيان ، فقد اصطفانا العلي القدير الذي وسعت رحمته كل شيء ،كي نكون الشعب الذي يخلق "الانتقالات الجذرية "في مسار تاريخ البشرية ،دون أن نفقد و لو واحدا من أفراد شعبنا ،و لا أن نزهق روحا من أرواح الرعايا العزيزة ،و لا أن نسيل و لو قطرة دم واحدة ،فسبحان الإله الجبار ،الذي طهر من بيننا زمرة الأشرار ،باستثناء حفنة من "الحمقى"- على حد تعبير الزعيم زيان - و الذين لا يستحقون من قائدنا المفدى زيان؛ الخطيب المفوه صاحب البيان ،الذي أوتي منه أكثر من اللازم حتى صار البيان لديه مرادفا لإشعال النزاعات و نشوب الشنآن . فهذا الرهط من الأشرار لن يجود عليه صاحبنا من وقته الثمين و لو بأقل مقدار. و حين نطق الزعيم المبجل بهذه الكلمة ثارت ثائرة واحد من الحضور ،و استبدت به الغيرة عن الجماعة التي إليها يدين بالانتماء و لمبادئها بالوفاء ،فطلب مناظرة الزعيم ،و لأنه من باب المحال أن يناظر شموخ الجبل انحدار السفح ،كما يعتقد كل زعماء أحزابنا الأبرار ، متيقنين بأن ما ينطقون به هو الوصايا عينها التي تهدي من استبدت به الغواية و الضلال ، و أن كل معارضة لها فيها تقريب للخير من رمس المحال ،و بعد هذا كيف لمن يصنف نفسه من جماعة الناجية و زعيما للأبرار ،أن يناظر واحدا ممن ينعتهم بالأشرار ؟؟ لذلك كان أن تجاهل الزعيم صرخة الناطق بالعبارة غير حافل به و لا مهتم بالمراد منها ، و لأن المعني في وسط حضور ،فقد حز في نفسه أن يتم تجاهله ،و إقصاء رأيه ، فما كان منه ،تأمينا للمزيد من اهتمام المخاطب بما يقول ، إلا أن تفوه بعبارة تختزل السواد في تاريخ الزعيم و تكثفه ، صائحا :"أنت من هجر السرفاتي " . و ما أن تم النطق بهذه العبارة حتى دلف الحزب الليبرالي إلى نقطة بدء في تاريخ جديد؛هو تاريخ انحسار المسافة و البون بين شعاره و واقعه ،بين رمزه و لسان حاله ،إذ من المعلوم أن المخيال الشعبي الثر في إطلاق الألقاب و التسميات ،و الصادق بالمناسبة في أغلب اللحظات ،لم يرض بأن يحمل الحزب الذي أسسه السيد زيان اسم الحزب الليبرالي ،و لم يرض له من بين الأسماء ،إلا اسما سارت بذكره الركبان ،حتى كاد يغطي على الاسم المرخص له قانونا،و ذاك هو لقب:"حزب السبع ديال الوقيد "أي "حزب سبع علبة الثقاب"،- تماما مثلما تم قلب اسم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى اتحاد الشركات ،بعد تجربة التناوب تعبيرا عن الخيبة - و هذه العلبة بالمناسبة ،اشتهرت في لحظة كان فيها عود الثقاب سيد مواقف الإشعال ،لدى ربات البيوت ،كما لدى المدخنين الذين قضى منهم من قضى ، ومنهم من لا زال ينتظر سوء المآل .
و المؤشر الأكبر على بدء تاريخ انطباق الشعار على الواقع المفصح عن الانهيار، هو أن نطق العبارة أظهر في خاتمة المطاف أن السبع لا يخفي إلا قبضة من عيدان الثقاب التي سرعان ما اشتعلت دفعة واحدة في نفس الزعيم المكلومة المهزومة ،بعد أن تم حكها بالعبارة الخشنة ،فتطايرت الشرارة سبابا و قذفا ، أزبدت له شفاه الزعيم و رغت ،و كي تأتي النار على آخر عود ثقاب في نفسه ،قام بتقريب الميكرفون أكثر من فمه ،حتى يقوى على التقاط وضاعة كلامه بكامل تقيحها صارخا:"قود أنت و هو"، و لأن نطق العبارة مرة واحدة لم تكف لحمل اشتعال ثقاب الغل في نفس الزعيم المفدى كررها أربعا ،و كأني به يؤدي شعيرة أو طقسا في محراب السباب و الشتيمة ،مردفا إياها بعبارة "الله يلعن والدك أنت و هو "ثلاث مرات ،ثم "قود آ الزبل " ثم " أنا أخ.... على الناس و على الناس مثلك و عليه "، ثم " أنت والسرفاتي و النهج الديمقراطي لا تساوون دقيقة من حياتي ". تلاحقت العبارات من دون توقف و فعل زيان في معجم السباب ،ما يفعله الزمار بالمزمار ،سب و قذف من دون أن يأخذ نفسه ،ربما كي يلفظ حمم بركان نفسه الوضيعة و هي بكامل حرارتها النشوئية و العياذ بالله . و من المفارقات أن تكون نفس علبة عود الثقاب التي لها شكل متوازي المستطيلات ،حاملة على الوجه المقابل للوجه الذي رسمت عليه صورة السبع ؛شعار حزب زيان ،عبارة مفادها :"باستهلاكك للمنتوجات الوطنية تسهم في تنمية اقتصاد بلادك " ، فهل باستهلاكنا لما أنتجه و تحرك به لسان زيان في ذاك اليوم البئيس سنساهم في تنمية السوق السياسية ، و سنرفع من وثيرة التبادلات الحزبية و المناظرات الإيديولوجية في هذا البلد الذي ابتلاه الله بأشباه الزعماء . و من عميق المفارقات أيضا ،بل من مكر الصدف أن عرى الزمن الدلالة الحقيقية للسبع شعار الحزب المأسوف على وجوده في هذا البلد ،فالقيم التي يريد الترويج لها لا علاقة لها بالليبرالية ،حتى المتوحشة منها ،إنها تحيل رأسا على الغاب ، و على حالة حرب الكل ضد الكل التي أسهب طوماس هوبس في بيانها.