أفيقا خمار الهم نغصني الخمرا ** و سكري من الأيام جنبني السكرا. المتنبي
حدثنا قيس ابن زجاجة ، المتيم بالفرح ،الولوع بالنشاط و البشاشة ،أن رجلا لم يكن على إحاطة باسمه و لا نسبه ، جاهلا من أي بطن انحدر ، وهل من البرانس أم من التسول أم من غياتة هاجر ، لأن معرفته للقبه كانت مبلغ ما وصله عنه من دراية ،إذ سمع رفاقه ينادونه ب"حدو قدو" ،أي أنه لا يعرف إسرافا ،و ما فارقه يوما صوت النهى الرشيد ، إذ كان على الدوام يتحرى الوسط و الاعتدال ، فيما يقوم به من أفعال ، و فيما يرنو إليه خياله و قلبه من أحلام و آمال ،لكن ما هي إلا أيام ،حتى تغير حاله،فاختار تمزيق صك "حدو قدو " ،و التمسك بالحبل الهش ل "تعدو"،و بيان ذلك أنه في ليلة من الليالي فارقه فيها الحس السليم ،و الرأي السديد ،بعدما صاحب شلة أعوزها النصح الرشيد ، فوسوس له الشيطان أنه لا بد له من هرق المال الذي أحبه حبا جما ، و أن النجاة لن تكون له إلا إن هو عب الراح عبا ، فما أن عرف الطلا و أجواء شربها ، و ذاق ثمالة أقداحها،حتى أفرط قوس لسانه في قذف السهام و النبال ، و شرد تحليق طيور ذهنه،حتى حطت فوق جزر الوقواق الرحال ، فشطب من قاموسه كل ما اشتق من المحال . و استحال الكل في عرفه قريبا و دال. و في يوم لا كالأيام ، عاشه هذا الرجل كيوم لا سابق و لا نظير له بين الأنام ،فقد عقد العزم على شرب الخمر في بيته وحيدا ، لكن ما أن انقضت هنيهات ،حتى اشتعلت مصابيح رأسه ،فخرج من بيته هائما شريدا ، لا يعرف أهو سيد خطوه أم له مسودا ،فبعد أن سكر سكرا شديدا ، استحال بقدرة قادر إلى شجاع صنديد ،بعدما كان جبانا رعديدا ،حتى خال الأجساد قديدا ،و النساء إيماء و الرجال عبيدا، فسب كل من صادف ،قاطعا للبعض وعودا ،وملقيا في وجه البعض الآخر وعيدا. ...،و كل من صادفه حملق فيه مندهشا ، و تحرك لسانه بالعودلة و الحوقلة متعجبا من الانقلاب الذي مس "حدو قدو" و قلبه إلى جهة استعمال قاموس "تعدو"،و ما زال على حاله إلى أولجته قدماه حيث سيتداوى بالتي كانت هي الداء ، في مبنى و طيء البنيان حوافه من القصدير ، و بوابته أعرض مما تبقى من مساحة الجدران ،و عند ولوجه تعرف سر انخفاض الظاهر منه ،لأن نصيبه سرقه الغابر فيه ،حتى يسع لجحافل من أحبوا الدوخة عن طيب خاطر، و غادروا اليقظة مكرهين و آثروا أن يجعلوا بينهم و بين الواقع أحلك الستائر.و شعارهم الأثير أن قتلا لنفسك ،قبل أن تموت كمدا إن كنت من مرهفي الإحساس و يقظي الضمائر.هل هذا شعار موافق و مطابق ،أم أنه مجرد هذر لهاذر ؟ و شرعنة لما صار عندهم عبودية تفصح عن نفسها فيما يباشرونه يوميا من طقس و شعائر و ما يمارسونه في حق أنفسهم من و ذويهم من مناكر؟ذاك شأنهم ، المهم أن "حدو قدو" عب ما عب معهم ،و قبل أن ينهي ما كان يعب ، حتى تعالت أكف كأنها الألواح الخشبية في عرضها ،و نواقيس الكنيسة في وقعها ، منبئة المحترفين على قلتهم ؛ ممن لا يقوون على مفارقة المكان ،أن قد أزفت ساعة التنائي عن الصهباء و ما بقي وقت لوصالها و لا للتداني و لا لرديفه التداوي ، فيهب الجمع متثاقلا في مشيته ، كأنه يعاني جروحا لا يدركها الرائي ،و لا يحسها إلا النديم المتآخي ،خارجين من أبواب المبنى الوطيئة كأنهم أجداث خارجة من القبور يوم الحشر و النشور ،و قد اصفرت أوجههم و احمرت أعينهم و فارقها قبس النور ، فيترجل منهم من يترجل ، ويركب العربات من يركب ،و يتواعد أعضاء الجمع على اللقيا في مكان آخر و كأن طقس السكر في المدينة موسم حجيج ؛ فمن مكان إلى آخر ، وكأني بهم يمارسون التحليق بين أقانيم ثلاثة متمسحين (من المسيحية ) على طريقتهم الخاصة ،فلا هم باللوثرين و لا بالكالفينيين ، فقط قدرهم جعلهم مترحلين بين ثلاث حفر ، مؤثرين الراح بدل ماء التعميد ، قارئين صفحات الأقداح بدل صفحات الإصحاح ، صاعدين من الحفرة الأولى صوب خضرة الثانية ثم مزدلفين إلى الثالثة ،و هنا تكتمل رحلة أقدامهم كما تكتمل دوختهم ،فما كان اسم الشراع من باب التجوز ، بل هو للحقيقة حامل و ضامن ،لأن السفر فيه يكتمل برا ،و فلكه على الأمواج الرائغة للراح ،التي تعيد تجميع ما فرق الماء ، يشق طريقه على غير هدى ليحط في شط لا تملك فيه الجيوب غير الفراغ ،إذ بعد رحلة الشتاء و الصيف في السابقتين ، يدنو موعد الخريف مع الشراع الذي يحيل الانشراح عند الأصباح شرخا ،فلا تفضل في الختام إلا ندوب للإنجراح... وما كان لحال" حدو قدو" إلا نفس المصير بعد أن ركب الفلك الشراعي ،و ترك مصيره نهبا لريح الدوار التي تحرك الشراع حيث يريد القبطان الذي ملك زمام الركاب بعد أن فقدوا زمام أنفسهم ، فما أن أخذ "حدو قدو"مكانه بين الركاب و الرواد ،حتى ظهر له محيا ،كان بالكاد يتبين ملامحه ،بالرغم من أنه كان يحملق فيه بكل ما أوتيت عيناه من سعة ، ليكتشف أن ملامح الوجه ليست بالغريبة عنه ، و أن ألفتها ليست كألفة وجوه الأصدقاء ،بل هي الألفة التي تكون لنا بوجوه لا نراها إلا ببعدين إما على صفحات الجرائد و المجلات أو على شاشة التلفاز ، فهل يمكن لوجه من هذه الوجوه أن يؤم أمكنة كهاته لا يتم ولوجها إلا عندما يشرع الليل في الانحسار تاركا مكانه لنهار جديد؟ قد يكون ما أدركه ناجما فقط عن كثرة الشرب و من عوارض قلة النوم فحسب ، ردد "حدوقدو " محاورا نفسه ،ثم حك عينه ،معيدا التفرس في ملامح الوجه المألوف متسائلا :أليست هي ؟؟ بلى، إنها هي ،لن ينساها ،و كيف له أن يسلو عنها وقد كانت تأتيه لحظات سأم ،لا يعجن وحلها إلا متسمرا أمام التلفاز، متابعا برامج القناتين بغثها و سمينها ... الآن تذكر رغم السعرات الملتهبة في أمعائه و الراغية في رأسه ،تذكر معاندا ضبابية الزبد :إنها هي : فنها يفتح الآمال قبل أن يرديها ركوب الشراع إلى سوء المآل ،أما صوتها فهو على الغناء و الشدو أكثر من قادر ،قبل أن ترمي بأقدامها في دنس فلك الشراع سكرانة غير عابئة بالمحاذر ،فبعد أن كانت و لا زالت أشذى الحناجر،رغم قسمات السنون البادية تحت المحاجر ،غدت تخلخل في غنج تحت خفوت المصابيح الحمراء شعيرات يتيمة في أعلى رأس الداعر ،و صارت الأوراق النقدية في خريف العمر تلقى عليها من قبل الرعاة و النازحين من المداشر ، أولئك الذين ليس لهم عن الفن نصيب من الثقافة مهما قلت منه المقادير، و كل ما يرونه منها جسد يغني و يتمايل أمام ناظرهم السامر،و منتهى اعتقادهم البدوي الغريب في الحواضر؛ أن بمقدور أي كان أن يعتدي على حرمة الجسد الطروب ،فقط يكفيه أن يكون ممتلكا لحفنة دريهمات ليصير من القوم المتجاسر .... فماذا عسانا القول بعد هذا سوى :لكم أنت ملعون أيها الزمان الداعر ،فأف منك و أف من أنذال عبدوا المال العاهر و أف من ساسة خساسة و أف من بلاد أتى على نقط الضوء فيها زحف جحافل النخاسة. فلا عفونتهم تركت السياسة ، و لا قيحهم نأى عما يمكن للمرء أن يطمع فيه من لحظات متمدنة للسرور و البشاشة. كان غارقا في نومه و المشاهد تتوالى في رأسه، و كدأبه كان مستقبلا القبلة ملتزما بنصيحة الجدة، لأن النوم هو الأخ الشقيق للموت ،عل وضعه في السرير يكون مقدمة تشفع له عند ملاقاة خالقة إن فاجأه المنون.و ما هي إلا هنيهة حتى نهض فزعا على وقع صرخة انبعثت من الزقاق المقارب لشقته ،متسللة بكامل حدتها عبر النافذة المكسورة ، جلس في سريره متكاسلا عن استطلاع هوية الصارخ و علة الصرخة ، تناول الكتاب الذي تركه مفتوحا قبل أن يستغرق في نومه مكملا القراءة آملا في استكمال حلمه ،الذي أوقفت أحداثه تلك الصرخة الملعونة دون استئذان كأنها صرخة مخرج لم يرضه أداء المشهد:"........ قال الرّاوي: فهِمْنا. حينَ فهِمْنا. وعجِبْنا. إذْ أُجِبْنا. وندِمْنا. على ما ندّ مِنّا. وأخذْنا نعتَذِرُ إليهِ اعتِذارَ الأكْياسِ. ونعْرِضُ عليهِ ارتِضاعَ الكاسِ. فقالَ: مأرَبٌ لا حَفاوةٌ. ومشْرَبٌ لمْ يبْقَ لهُ عندي حَلاوَةٌ. فأطَلْنا مُراودَتَهُ. ووالَيْنا مُعاوَدَتَهُ. فشمخَ بأنفِهِ صَلَفاً. ونأى بجانِبِه أنَفاً. وأنشدَ: نَهاني الشيْبُ عمّا فيهِ أفْراحي فكيفَ أجمَعُ بين الرّاحِ والرّاحِ وهل يجوزُ اصطِباحي من مُعتّقةٍ وقد أنارَ مشيبُ الرّأسِ إصْباحي آلَيتُ لا خامرَتني الخمرُ ما علِقَتْ روحي بجِسْمي وألفاظي بإفْصاحي ولا اكتسَتْ لي بكاساتِ السُلافِ يدٌ ولا أجَلتُ قِداحي بين أقْداحِ ولا صرَفْتُ الى صِرْفٍ مُشَعشَعةٍ همّي ولا رُحتُ مُرْتاحاً الى راحِ"[1]
------------------------------------------------------------------------ [1] من المقامة القطيعية من مقامات الحريري ،بالإمكان تحميلها على الرابط الآتي : http://www.4shared.com/get/HH9bLlx2/___.html