نهى الشرع عن أمور وأوجب تركها، وأمر بأوامر أن تؤتى قدر المستطاع، وحرم الإفساد حتما وأرشد إلى الإصلاح على حسب الوسع والطاقة، وأمر في المنهيات بالاجتناب وفي المأمورات بالترخّص ومراعاة الظروف والأحوال، ففي الحديث:" إذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم"، وتلك سياسة الشرع الحكيمة في ترك المنهيات والاستجابة للمأمورات. ومن ثم نظر الفقهاء بحصافة الرأي ومعدن النظر الفسيح فتحققوا من قاعدة سَنيّة مفادها أن: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح"، فإذا توقفنا عند حقيقة الإصلاح والإفساد من منطلق البيان القرآني، ألفينا نهي الشرع عن الإفساد مع تقرير أن الأصل هو الإصلاح، فيكون قيام هذا الوجود ووظائف الموجود على مبدأ الإصلاح، وهذا ما تقرره جملة آيات منها قوله تعالى: " والسماء رفعها ووضع الميزان" والميزان القصد به العدل وبه قامت السماوات والأرض، وهو عنوان الإصلاح وسمتُه بلا ريب. ويؤكد ذلك قوله تعالى: " ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها" والمعنى ظاهر أن الإفساد طاريء بتغير أو بتطور، وأن الأصل وجود الإصلاح ابتداء. فإذا تقرر ذلك يكون النهي عن الإفساد نهيا جازما لما يتسبب عنه من مخالفة أمر الله تعالى، ثم لما يفضي فيه الحال إلى إهلاك أصل الموجودات، وإذاية الخاص والعام وهذا ما لا يرضاه الله تعالى في وجود كما أمر الله تعالى فيه بالعبادة أمر سبحانه أيضا بحسن العمارة. النهي عن الإفساد في الأرض اقتضت حكمة الله تعالى فيه النهي عن مقاربة الظلم الذي حرمه الله تعالى على نفسه وجعله بين الخلق محرما، فظلم الموجودات جميعها بوأدها وإخراجها عن سر جمالها، وهذا يشمل جميع الكائنات. أفرأيت وصية النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ثم لتقم الساعة" وسر النصيحة في المحافظة على قانون الجمال في الكون الذي يتنافى مع الهدم والإفساد المعتبر من الجرائم في حق المتحرك والساكن. العزم على الإصلاح لايشترط فيه بالضرورة وجود الصلاح، وفرق بين الاصطلاحين بقدر ما ينبيء عن تقديم الأول على الثاني، فالإصلاح يفتقر إلى نظر سديد وفقه متين يتقارب فيه الحال مع المآل، ولا يستغنى فيه عن الاجتهاد والتعقّل، بينما الصلاح قد يتوقف فيه الأمر على حدّ معين لا يتجاوزه، ولذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم: " أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: نعم إذا كثر الخبث. ومفهوم الحديث أن الإصلاح بعزم وسداد رأي وصدق توكل أمره إلى الله تعالى، ووجهة المصلحين سديدة لا محالة، والاقتصار على صلاح الحال دون العزم على الإصلاح، مفوّت لمقصده العظيم، ومن ثم فلا يسمن ولا يغني إن كثر الفساد. إن سلوك الإفساد ليوحي بأزمة قيم ينبغي أن يتفطن لها الآباء في البيوت، والمربون في الفصول، وغيرهم ممن له قدرة ومكنة على الإصلاح، ولا يدعي أولئك المتطلعون إلى أفق الصلاح أنهم نجحوا ومعاول الهدم تصحبهم، وأن الخلل كامن في إرادتهم ما دام المجتمع يحفل بشرذمة لا تعرف الحق من الباطل وحق قول أبي زهرة في زهرة التفاسير: إن الجماعات لا تصلح بمجموعها ابتداء، إنما تصلح بأجزائها أولا ثم تنضم الجماعات الصغيرة أو الأجزاء بعضها إلى بعض، وتتآلف صالحة متعاونة على البر والتقوى غير متعاونة على الإثم والعدوان، ولذلك كان في سنة الاجتماع إصلاح المجتمعات الصغيرة في القرية أو أحياء المدينة، لتتآلف مع المجتمع الأكبر، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأمة الإسلامية التي ابتدأ بها المجتمع في المدينة، وكما قوى الإسلام مجتمع الأسرة، ليكون بتآلفه قوة المجتمع الأكبر.