منذ أن وجدتني أتنقل بين أحياء بني مكادة، بعد مغادرة الأسرة لشارع المكسيك الراقي أواخر السبعينات من القرن الماضي، إلى حي مبروكة الشعبي، ثم حي الإذاعة، و بعده بوحوت، و هي بعض من أحياء بني مكادة المكافح أهلها كفاحاً من أجل العيش، و صموداً من أجل البقاء، وسط خارطة مدينة سرعان ما تنكر شمالها لجنوبها، فكان التجاهل، و التهميش، و أنواع أخرى من سوء المعاملة و قسوة التعامل، المنضافة إلى القساوة في كل جوانب الحياة. لم تسجل ذاكرتي قط عاملا أو واليا جاب أزقتها و المرافق المتهالكة بها، و المسمية قسراً بأسماء وهمية توحي لنا بوجود مدرسة و مستوصف و مستشفى للأمراض العقلية و العصبية.... و لم يحظى مسجد من مساجدها القديمة و لو بركعة يؤديها بها أحد أصحاب الأمر و النهي - السلطوي طبعاً، و ليس المعروف و المنكر-، اللهم تلك التي كان يحضرها عامل المدينة قديماً في ليلة القدر، و التي كنا نُمنع و نحن في بداية مشوارنا الديني من دخول مسجد مبروكة الشهير يومها لأداء صلاة التراويح، بعدما تُزين صومعته بالأنوار، و تُنظف زرابيُّه و تُعطر ترحيبا بالسي " الكيسى" أو " الفلاح" أو مَن بَيْنَهُمَا. و حتى لا أكون ظالما للتاريخ، و حتى أعطي لكل ذي حق حقه، فلم تكن المنطقة منسية كما يظن البعض أو مغيبة من أجندة المسؤولين، بل لم تكن تمر فترة طويلة على ساحة تافيلات دون أن تحتضن تجمعات أو خطابات، و المناسبات كثيرة طبعاً، حيث لم يكن في طنجة من يتقن فن التصفيق و التمجيد سوى سكان أحياء بني مكادة القصديرية. و لم يكن فيها من يحترم مبدأ الاستماع و الانصات للخطب الملكية غير كبار السن منهم، حين كان المقدمون يعمدون إلى تجميعهم منذ الساعات المبكرة من صباح اليوم الثالث من شهر مارس، بعدما يوزعون عليهم الرايات و صور الحسن الثاني، و يلقنونهم الشعارات التي ينبغي ترديدها بين الفينة و الأخرى، و ينصبون مكبرات الصوت لبث خطاب العرش، و من غاب غاب حقه طبعا في الحصول على عقد الازدياد، أو شهادة السكنى، أو الضعفية...! يومها كانت بني مكادة قبلة للمسؤولين، و المتسولين السياسيين، و مكانا مناسبا لاتقاط صور فَرْحة الشعب الطنجاوي و ليس الطنجي - على لسان الإذاعي المقتدر محمد الغربي- و تمريرها عبر قناة الإعلام الوحيدة التي لم يكن لها شريك و لا منافس. بينما في الفترة ذاتها كان من حظ سكان الشمال من المدينة احتضان الاستعراض الذي كان يجوب شوارع بلجيكا، و باستور، ومحمد الخامس إلى غاية النجمة، احتفالا بعيد الشباب، إنها فعلا مسألة حظوظ. أوليس الشمال عادة أرقى من الجنوب؟ لا زلت أتذكر جيدا تجمعا خطابيا ترأسه العامل " إدريس الفلاح " أوائل الثمانينات، و لم تفارقني قط صور العجائز و الشيوخ و هم يهتفون بحياته مرددين " عاش العامل ديالنا" بعدما ظل يعدهم بتخليصهم من مساكنهم القصديرية، و نقلهم إلى حياة أفظل، و هو يعتلي منبرا بساحة تافيلالت، ليقنعهم بقبول المخطط الذي أُعد بمكر كبير لإعادة تقسيم الأرض المنسوبة إلى الدولة، و توزيعها على أصحاب البراريك، و معهم غيرهم من الذين ولدوا و في أفواههم ملاعق من ذهب، ممن كان لهم حظ الفوز ببقع لا حق لهم فيها، بما أنهم لم يعانوا قساوة البرد، و لم يناموا تحت قطرات المطر المتسربة من بين شقوق القصدير، و لم يذوقوا عضَّات الجرذان...، في الوقت الذي حرم منها بعض من ذوي الحقوق الشرعيين، أو أرغموا على اقتسام بضعة أمتار مربعة أو مثلثة مع غيرهم. و الشاهد على ذلك تلك الإقامة الشاهقة التي أُنبثت في منطقة خصصت كذباً لتكون خضراء، قبل أن يتم تفويتها قهراً و غصباً و رغما عن أنوف سكان أرض الدولة، لتتحول إلى ما هي عليه اليوم ، واحدةً من مسببات الفوضى التي تعيشها المنطقة، و التي تنضاف إلى أسباب أخرى، على رأسها عشوائية التقسيم، و ردائة التجهيز. أو بالمختصر المفيد، إقامة مجموعة جحور بأحياء عشوائية لكن مرخصة، لا تحترم أدنى شروط السكن اللائق. ليظل الوضع الاجتماعي على ما هو عليه أو يزيد سوءاً، فنجد اليوم أنفسنا أمام تبعات كل تلك الجرائم التي اقتُرفت في حق المكان، و في زمان غير بعيد عن الزمان. و دارت الأيام، و مرت الأيام، ما بين احتجاج و اعتصام، و مسيرات و اشتباكات مع قوات الأمن، و تأكد للكل بما لا يدع مجالاً للشك أن بني مكادة صارت طرفا أقوى في المعادلة الأمنية الصعبة، و أن أبنائها لم يعودوا يصفقون كما كان سلفهم، و لا يقبلون بغير حياة كريمة بديلا عن اقصاء طالهم لعقود لحساب أبناء النافذين و الوافدين. و بعد أن تأكد بالملموس سحب البساط من تحت أرجل عناصر الأمن الوطني التي صار وجودها بالمنطقة بمثابة صب الزيت على النار، هاهي الزيارة الأولى ثم الثانية في ظرف أقل من أسبوع لليعقوبي الوالي بالنيابة، و الوالي الجديد كا يُتَوقع أن يصير، فكانت صلاة الجمعة بمسجد أرض الدولة، و زيارة مرافق أو شبه مرافق عمومية، و تجوال بين أزقة الأحياء الضيقة الغارقة في المخدرات و السلوكيات المشينة، و الاستماع طويلا لشكاوي بعض الساكنة، و إعطاء وعود يعلم الله وحدة نية صاحبها، في عملية لا زال الغموض يلف دواعيها و أهدافها، خصوصا و أن صراعا بات واضحا بين الأجهزة الأمنية يسعى كل طرف لكسبه، و أن السلطات سجلت فشلها في العديد من التدخلات التي شهدتها المنطقة، و أن المقاربة الأمنية التي اعتمدت في معالجة العديد من القضايا لم تكن بالاختيار الصائب. زيارة سبقت بيومين خدعة الثالث عشر من يناير، و قبل أسابيع قليلة من تخليد ذكرى العشرين من فبراير، و بعد رواج أخبار تفيد اعتزام السلطات الأمنية التدخل في المنطقة لتحرير الأرصفة و الشوارع من الباعة المتجولين و مَن خلفهم. معطيات جعلت الكل يتسائل " آشْ جَا يْدِيرْ الوالي فْبْنِي مكادة ؟ "، و أية مقاربة ياترى تلك التي يعتزم اعتمادها في حل الإشكاليات التي استعصت على من سبقه ؟ و هل هناك فعلاً رغبة في العمل على ذلك ؟ أم أن المنطقة كتب لها أن تبقى ساحة لتصفية الحسابات كلما تطلب الأمر؟. و في انتظار الكشف عما تخفيه الصدور، تبقى بني مكادة تلك المنطقة التي اختارت التنديد بدل التصفيق لطغاة دخلوا المدينة فأفسدوا فيها، و جعلوا أعزة أهلها أدلاء.