على بعد أسابيع قليلة من الذكرى السنوية لتنصيب حكومة السيد عبد الإله بنكيران، يعيش التدبير الحكومي هذه الأيام على صفيح ساخن، فالحكومة مطالبة من جهة، بحصيلة سنتها الأولى و تقديم الحساب للمواطنين من خلال إبراز الإنجازات وتبرير التعثرات. و من جهة أخرى، مطالبة باستشراف المستقبل ووضع خارطة طريق جديدة للأربع سنوات المتبقية من الزمن الحكومي. في هذه الورقة، سوف لن نخوض في حصيلة الحكومة و ما راكمته من إنجازات و إخفاقات، بقدرما سنركز بالأساس على المستقبل الحكومي، على اعتبار أهمية التحولات المتسارعة و الدينامية التي يعرفها المشهد السياسي المغربي بعد مرور سنة من عمر حكومة السيد عبد الإله بنكيران، و التي من المفروض أن تثير نقاشا عموميا واسعا وتغني و تثري و لاشك مجال السجالات و النقاشات السياسية، و تفتح الباب على مصراعيه على التخمينات و التساؤلات المستقبلية. فهل ستستمر الحكومة بنفس التشكيلة الوزارية ونفس المكونات الحزبية؟ هل ستحتفظ بنفس منهجية و طريقة الاشتغال و تضمن بالتالي التنزيل الصحيح لمضامين الدستور وتحترم ما وعدت به في التصريح الحكومي؟ هل ستعمل الحكومة على الرفع من وتيرة الأداء و التسريع من إيقاع معالجة الملفات الآنية و الملحة، في ظل ارتفاع سقف الإنتظارات و التطلعات الشعبية و بطئ وضعف العمل الحكومي؟ أم ستختار الحكومة منطق التغيير والتصويب و التعديل، وعيا منها بضرورة الاستماع لنبض الشارع وأهمية التفاعل و التأقلم مع التحولات والمستجدات الطارئة، والتجاوب مع الضغوطات و الإكراهات و الصعوبات الذاتية و الموضوعية التي ما فتئت تواجهها منذ تنصيبها؟ فاستحضارا لمجموعة من الاعتبارات و المحددات و المتغيرات ( اقتصادية، اجتماعية، سياسة، حقوقية...)، و تأسيسا على الفرضيات الموضوعية و الواقعية، سنحاول استشراف مستقبل الحكومة الحالية، انطلاقا من قراءتنا و تحليلنا للوضع الراهن للمشهد السياسي الوطني، قصد بلورة التخمينات المستقبلية المتعلقة بالمسار الحكومي ، و التي نكاد نجزم أنها لن تخرج عن ثلاث سيناريوهات محتملة: * سيناريو الاستمرارية؛ * سيناريو العودة من البداية: استقالة أو إسقاط الحكومة؛ * سيناريو التعديل الحكومي. 1 – سيناريو الاستمرارية: الرتابة في العمل تقتل التغيير. من المؤكد أن الحكومة الحالية بمكوناتها الحزبية ترغب في الاستمرارية و تشتغل على ذلك، لكن واقع الحال وكل المؤشرات المتوفرة تنحوا في اتجاه فرضية التغيير، فجميع الإرهاصات تؤكد على أن الحكومة لا يمكن أن تستمر بنفس الوجوه ونفس منهجية العمل و نفس وثيرة الاشتغال، على الأقل للاعتبارات الأساسية التالية : * السياق الدولي المضطرب: الذي يتميز من جهة، بالأزمة الاقتصادية العالمية الحادة التي تتطلب من الحكومة تعبئة كل أطياف المجتمع من أجل إيجاد الحلول الناجعة لمواجهة التداعيات السلبية للأزمة الراهنة، ومن جهة أخرى، صعوبة التكهن بمآل ثورات الربيع العربي و ما ستفرزه من خريطة سياسة، ستكون لها و لاشك انعكاسات على مستقبل مقولة الاستثناء المغربي. * ضعف التحكم في المؤشرات الاقتصادية: نتيجة الظرفية الاقتصادية الصعبة التي تتميز بتباطؤ معدل النمو (أقل من % 3) و تفاقم عجز الميزانية الذي تجاوز 6%. ومن تجلياتها الاجتماعية كذلك، ارتفاع نسبة الرشوة (فاستنادا إلى التقرير الأخير لمؤسسة "مشروع العدالة العالمية" احتل المغرب المرتبة 80 من أصل 97 دولة في مجال محاربة الرشوة) و ارتفاع نسبة البطالة ( 30 % في صفوف الشباب)، الأمر الذي أدى إلى استمرار العجز في القطاعات الاجتماعية و على رأسها : التربية والتكوين ، الصحة ، السكن ، التشغيل والرعاية الاجتماعية. * الاحتقان الاجتماعي: بدأت مؤخرا، موجة من الاحتجاجات الاجتماعية تطفو على السطح ، نتيجة عدم استجابة الحكومة للمطالب المادية و الاجتماعية للأجراء ( ضعف الخدمات الاجتماعية ، المس بالحريات النقابية...). كما أن تعثر الحوار الاجتماعي أدى إلى توسع و تزايد رقعة الاحتجاجات، و تنامي موجات القلق والتوتر الاجتماعي، الشيء الذي أصبح يتطلب بإلحاح إعادة النظر في التوازنات الاجتماعية القائمة. * بطئ و ضعف الأداء الحكومي: نتيجة غياب الانسجام و التوافق الحكومي، وضعف الاشتغال على تنزيل مقتضيات الدستور، و تأجيل لأوراش مصيرية ( إصلاح صندوق المقاصة، صناديق التقاعد...)، كما أن الحكومة مؤخرا فتحت أبواب الصراع على أكثر من جبهة ( الباطرونا، النقابات، الأحزاب...) مما يؤشر على قصور في استراتيجياتها التواصلية مع مختلف الفرقاء. * ردة في المجال الحقوقي: تراجع حقوق الإنسان في عهد الحكومة الحالية، والتضييق على الحريات العامة، من خلال المس بالحريات النقابية ومصادرة حرية التعبير والحق في التظاهر السلمي ( التعاطي السلبي مع احتجاجات المعطلين و مع احتجاجات مجموعة من النقابات العمالية...). * حركية في المشهد الحزبي: فالأحزاب المغربية تعيش هذه الأيام دينامية و حركية غير مسبوقة ، حيث تعيد ترتيب بيتها الداخلي وتقويته لمواجهة الاستحقاقات القادمة ، مما أفرز صعود قيادات حزبية منافسة تبحث عن موطأ قدم في مربع الزعامة السياسية، كما تعيش الساحة السياسية مؤخرا حركة شد و جدب قوية بين الأطياف الحزبية خصوصا بين أحزاب ورموز المعارضة من جهة، ومكونات الأغلبية من جهة أخرى . و في هذا الصدد، لابد من الإشارة، أن كل المؤشرات ( اقتصادية ، اجتماعية ، سياسة، حقوقية...) تصب في اتجاه صعوبة تحقق سيناريو الاستمرارية، أخرها تقرير صادم جديد، أنجزته مؤسسة "مشروع العدالة العالمية" الأمريكية في 97 بلدا عبر العالم، حيث احتل المغرب المرتبة 80 بالنسبة إلى الضمانات الممنوحة لحماية الحقوق الأساسية للأشخاص، والرتبة 61 في مؤشر تسهيل المساطر الإدارية . 2 – سيناريو العودة من البداية: استقالة أو إسقاط الحكومة. في ظل الاحتجاجات الاجتماعية التي يعج بها الشارع المغربي، ارتفعت أصوات تنادي بإسقاط الحكومة الحالية و أخرى تضغط من أجل استقالتها. * إستقالة الحكومة: احتمال وارد عند بعض المحللين السياسيين و عند بعض الأحزاب المعارضة، على اعتبار أن الحكومة انتهت صلاحيتها و تقلص رصيدها و انحسرت شعبيتها، و فشلت في مواجهة "العفاريت" و "التماسيح" على حد تعبير رئيس الحكومة السيد عبد الإله بن كيران ، لكننا نعتقد أن هذا الاحتمال مستبعد التحقق في المنظور القريب، نظرا لما يشكل من مخاطر على توازن النسق السياسي المغربي في شموليته، وربما ستكون له نتائج وخيمة على شعبية الحكومة بمختلف مكوناتها وخصوصا على الحزب المتزعم للحكومة الحالية (العدالة و التنمية ). * إسقاط الحكومة: و في هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى التحركات الأخيرة للأمين العام لحزب الاستقلال السيد حميد شباط، الذي لوح باحتمال انتقال مطلب التعديل الحكومي، إلى مطلب إسقاط الحكومة . و مما يؤكد هذه الفرضية ، اتصالاته مؤخرا بزعماء مجموعة من الأحزاب (حزب الاتحاد الاشتراكي، الأصالة و المعاصرة ...) لحشد الدعم لتنفيذ أجندته السياسية، وعزمه سحب البساط من تحت حزب العدالة و التنمية من خلال الانسحاب المحتمل لحزب الاستقلال من الإتلاف الحكومي، و هذا ما لاحظناه من خلال خرجاته الإعلامية الأخيرة (برنامج " 90 دقيقة للإقناع " في قناة ميدي 1 تيفي) . هذا الخيار يبقى وارد، نتيجة تبعثر أوراق الحكومة وكثرة التناقضات الداخلية التي يمكن أن تفجرها من الداخل. لكنه مستبعد الحدوث في الوقت الراهن، نظرا لكونه يشكل مخاطرة باستقرار البلاد و مقامرة غير محسوبة العواقب، حيث سيضرب في العمق التوازنات السياسية القائمة ، ويعصف بالمستقبل السياسي لحزب العدالة و التنمية المتزعم للحكومة. زيادة على ذلك، فإن الأحزاب المشكلة للمعارضة حاليا غير قادرة، على الأقل في الفترة الحالية، على ركوب هذه المغامرة السياسية و تشكيل البديل المنتظر للحكومة الحالية. فحزب الإتحاد الدستوري لا يمكنه لعب هذا الدور في المنظور القريب ، كما أن حزب التجمع الوطني للأحرار، و حزب الاتحاد الاشتراكي يعيشان مخاضا عسيرا حول كرسي الزعامة. بينما حزب الأصالة و المعاصرة لازال يبحث عن شرعيته المفقودة وعن استعادة مكانته داخل اللعبة السياسية، نتيجة تآكل شعبيته من جراء تداعيات احتجاجات حركة 20 فبراير. 3- سيناريو التعديل الحكومي: التغيير في ظل الاستمرارية. كل الإرهاصات تدل على تعديل حكومي وشيك، على اعتبار أنه "مطلب شعبي" على حد تعبير الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي وصف عمل الحكومة في تصريحاته الأخيرة ب "البطيء" نتيجة لافتقادها ل "رؤية واضحة". صحيح أن التعديل الحكومي بيد المؤسسات والجهات العليا التي تصنع القرار السياسي، حيث يتم ذلك وفق ترتيبات وطقوس خاصة، ووفق توافقات وتوازنات معينة. لكن التعديل الحكومي في الفترة الراهنة يبقى ضرورة ملحة ، نظرا لكونه سيعيد الوهج لشعبية الحكومة، و سيضخ دماء جديدة في الجسم الحكومي ، مما قد يساعد على تسريع وثيرة الاشتغال، والرفع من إيقاع العمل. فضلا عن ذلك، فالتعديل الحكومي ضرورة حتمية و هو مناسبة للحكومة لمراجعة أوراقها و إعادة ترتيب أولوياتها، خصوصا و أننا على مشارف سنة مالية و اقتصادية صعبة. و من المنتظر أن يشمل هذا التعديل الحكومي: * بعض الوزراء: فتغيير بعض الوجوه الوزارية التي لم تقنع في عملها و لم تحقق النتائج المرجوة أمر ضروري، كما أن الاحتفاظ بالوزراء الذين أبانوا عن الحنكة السياسية وعن الكفاءة في معالجة الملفات المطروحة أمر مستحسن و محبذ. * منهجية و طريقة الاشتغال: التأكيد على مراجعة منهجية الاشتغال عن طريق إعمال المقاربات الحديثة في التدبير الحكومي ( المقاربة التشاركية، التدبير بالنتائج، التدبير بالمشروع...) والعمل على إرساء إستراتيجية تواصلية محكمة، و على وبلورة ميثاق سياسي وأخلاقي يجمع بين كل مكونات الحكومة المستقبلية، و يضبط آليات و منهجية الاشتغال، و يحرص على التوافق و الانسجام الحكومي. * تركيبة الحكومة: فالمعلوم أن عدد الوزراء الحالي متضخم مقارنة مع عدد الوزراء في حكومات دول أخرى مجاورة لبلادنا ( إسبانيا مثلا) ، مما يحتم تقليص عدد الحقائب الوزارية في تشكيلة الحكومة المقبلة، و بالتالي مراجعة كوطا الحقائب الوزارية المسندة لكل مكون من مكونات الحكومة. كما أن الرفع من تمثيلية النساء و تمثيلية الأقاليم الصحراوية أصبح يشكل ضرورة ملحة. و إجمالا، قد نختلف أو نتفق مع أداء و حصيلة الحكومة الحالية، وقد نصفق أو نعارض طريقة اشتغالها و مقاربتها و معالجتها للملفات الكبرى، لكن الأكيد، أن هذه الحكومة شكلت حدثا استثنائيا ، وأحدثت رجة في المشهد السياسي المغربي، على أساس أنها دشنت لمرحلة جديدة وشكلت محطة مهمة في مسار التجربة السياسية المغربية و لبنة من لبنات بناء عملية الانتقال الديمقراطي ببلادنا. فنجاحها في المستقبل رهين بمدى ارتباطها بالهموم والقضايا المجتمعية واستجابتها للإنتظارات و التطلعات المشروعة للمواطنين، وبلورة و ابتكار الحلول الناجعة و المناسبة والقمينة بمواجهة التحديات و الإكراهات الملحة ، في ظل ظرفية استثنائية و صعبة.