شهر رمضان شهر الخيرات، أو بالأصح شهر فعل الخيرات. و صحيح أن الناس يتسابقون لفعل الخير في هذا الشهر الكريم، و خصوصا مع اقتراب نهايته، لأن الجميع متيقن أن العشر الأواخر من رمضان تخفي بين لياليها ليلة خير من ألف شهر، و الناس بطبعهم طماعون، و الطامع في الخير لا يلام، فيعتقد البعض أن التصدق في العشر الأواخر من رمضان يضمن لهم التصدق في ليلية القدر، و بذلك يتضاعف أجرهم آلاف المرات، كما هو شأن القيام و التهجد. و هي المسالة التي يتفطن إليها حتى المتسولون الذين يكثرون في هذه الفترة بالذات، و ينتشرون ما بين الشوارع و الأسواق في النهار، و يتسمرون أمام أبواب المساجد بالليل يترقبون "بركة العواشر"، يأتون من كل فج عميق، فتتحول بوجودهم المدينة إلى أشبه بالفَلُّوجَة، حيث ضحايا الحرب من المعطوبين و ذوي العاهات - اللهم لا شماتة - يصطفون أمام أبواب المساجد، و يعترضون سبيل المارة، و يتربصون بأصحاب السيارات أمام إشارات المرور. منهم فاقدي الأيدي و الأرجل، و منهم مشلولين على كراسي متحركة، و منهم من يحمل أطفالا رضعاً، و منهم من يعاني من أمراض جلدية خبيثة، يشكون ما ابتلاهم به الخالق للمخلوق، في صور هي الأبشع على الإطلاق. و لن أبالغ إن قلت أن غالبية هؤلاء من الوافدين على المدينة في هذا الشهر الكريم، كما هي عادتهم في كل المواسم الدينية التي اعتاد المسلمون أن يتصدقوا فيها بسخاء. فعل الخيرات هو الشعار الذي يحمله أغلب الناس في هذه الأيام المباركة، ولا يقتصر على الفرد فقط،، بل كثرت في السنوات الأخيرة النشاطات الخيرية بأسماء مختلفة، إفطار الصائم، ملابس لدور الأيتام و دور العجزة...، و كلها أعمال خيرية تقوم بها منظمات و جمعيات و تجمعات شبابية و بمبادرة من فايسبوكيين و فايسبوكيات تحت عناوين مختلفة، منها من هو لوجه الله و يراد به جزاء الآخرة، فلا ننكره على أصحابه، و منها من كان عملا يراد به خير الدنيا و متاعها، و صيت يذاع، و صور تُنشر، و جرائد و مواقع إليكترونية تكتب و تًنشر، و الناس يتكلمون...فيكون بذلك عملا دعائيا لا خير فيه و لا أجر لصاحبه، و للأسف، هذه حقيقة أغلب الحملات المسماة بالخيرية، و التي تُقام في هذا الشهر الكريم، باستثناء بعض المبادرات، و التي اعتاد أصحابها تنظيمها داخل و خارج رمضان، و تدخل ضمن مخططاتهم أو برامجهم السنوية، في إطار العلاقة التشاركية التي تربط بعض المؤسسات الخاصة بالمجتمع المدني. و الغريب في الأمر، أننا لا نجد مثل هذه الحملات لمساعدة الذين يعانون برد الشتاء و فيضاناتها، أو الذين هزمتهم أثمنة الدواء، أو تلك النسوة اللاتي تقضين اليوم كله واقفات بشارع فاس، و ساحة 20 غشت في انتظار عمل شاق، قبل أن تعدن خاويات الوفاض إلى بيوتهن، و يعلم الله بظروفهن المادية و الاجتماعية. فهل الخير كله في الحريرة و الكسوة ؟ و الحقيقة أن ثقافة القفة هذه التي باتت موضوع كل رمضان، و التي يروى عنها الكثير، صارت من مخلفات الماضي التي كان ينبغي أن تترك و تعوض بعملية أخري تليق و كرامة المواطن، الذي سئِمَ الوقوف في طوابير مذلة من أجل بضاعة بقيمة زهيدة، يُمَنُّ بها عليه و هي حق له، بما أنها تُصرَف من ميزانية الجماعات، التي هي أولا و أخيراً أموال الشعب، أي من الشعب و إليه. فلماذا إذا كل هذا التشهير و التحقير، و التظاهر بفعل الخير من قبل مستشارين يتخذون من عملية قفة رمضان حملة دعائية لهم، و كأنهم يعطون من جيوبهم؟ بل يعطون من والاهم، و يمنعون من عارضهم. قفة رمضان التي تكلف ميزانية المدينة الشيء الكثير، هي أيضا فرصة لاسترزاق البعض ممن تحملوا مسؤولية تسيير شؤون المدينة، فيتخذون من صفقة الدقيق و الزيت مناسبة للخروج بهامش من الربح ليس بالهين، و هذا ما تجلى خلال الأيام القليلة الماضية، حينما امتنع والي الجهة عن توقيع صفقات قفة رمضان لجل مقاطعات المدينة، بعدما وجد اختلافاً كبيرا بين عروض الأثمان المقدمة عن كل مقاطعة، و هو الأمر الذي يزكي كل ما قلناه عن استغلال بعض الأشخاص لهذه المناسبة قصد الاسترزاق بلقمة الضعفاء. و الغريب أيضاً أن عملية القفة هذه هي الموضوع الوحيد الذي يدافع عنه ممثلوا السكان بكل استماتة، فتجدهم في صراع كبير مع الرؤساء حول العدد و المحتوى، حتى تظن أنهم فعلا صادقون في دفاعهم عن فقراء أحيائهم، غير أن واقع الحال غير ذلك، و أن العملية هي ضمان ولاء ساكنة الحي من الضعفاء، الذين يظنون أن السِّي فلان هو من تكرم عليهم في العيد، فيدعون له، و يصوتون عليه، و يكون بذلك كمن يقلي الحوت في زيته. نسأل الله في هده الأيام المباركة أن يرزقنا القناعة و الرضا بما رزقتنا. و ليعلم الذين حصلوا على القفة في ليلة القدر أو ليلة العيد أنهم لم يحصلوا إلا على ما هو حق لهم، و ليسَ مَنٌّ من أحد. و عيدكم مبارك سعيد