عقب الزلزال الذي ضرب الأحزاب السياسية المغربية عشية الإقتراع التشريعي الأخير، تباينت القراءات، غير أنها اتفقت في كون المفاجأة الكبرى هي اكتساح "العدالة والتنمية" للداوائر التشريعية. فأحزاب الكتلة أنهكتها سنوات الإنخراط في العمل الحكومي فظهر ابتعادها عن القواعد والشعب. وأحزاب مايسمى باليمين خذلته حيادية الإدارة التامة، وأما أحزاب الوسط فقد حصد نتيجة الإهتراء الأيديولوجي والتذبذب في الإنتماء إلى أي معسكر. أزمة الأحزاب ظهرت بكل وضوح في خسارة معاقل وأحصنة كانت متداولة فقط بين يمين ويسار ووسط ، وبهذا الإنحسار تقوى رصيد الحزب "الإسلامي" الآتي توا من خندق المعارضة. والحقيقة هي أن الاحزاب السياسية سقطت ضحية قواعد سياسية سادت منذ الإستقلال واستحال معها التخلص من أسرها إلا حين وقوع الزلزال. أهم هذه القواعد هي اعتبار القصر وحده مصدر القوة والإستقواء وإهمال صوت الشعب وصدى القواعد. فالقصر منذ الإستقلال كرس في الحياة السياسية قاعدة أن جميع المنافع المادية والسياسية بما فيها الحقائب الوزارية والمسؤوليات السامية، كل ذلك بيد الملك، وأنه لايمكن جني ثمار التنافس السياسي دون موافقة ضمنية او صريحة من القصر، وأن اللجوء إلى الإنتخابات ما هو إلا شكليات تتكفل بها الداخلية والأجهزة السرية. الآن وبعدما ترك القصر الأحزاب السياسية تواجه حقيقتها، وقع ماوقع. لكن هذا لا يعني أن العملية السياسية التي حملت "العدالة والتنمية" إلى الدرجة التي هو عليها الآن، لم تكن "مهندسة" وبذكاء، كما يعرف فقهاء القانون الدستوري، لكن رغم ذلك فالنتائج جاءت متناغمة مع رياح الربيع العربي التي مالت نحو الحركات الإسلامية "المعتدلة". كما اعترف بعض زعماء الأحزاب بكون رفاق بنكيران كانوا أكثر تنظيما وانضباطا، وحملتهم الإنتخابية كانت متقنة وجدية،وخطابهم كان واقعيا ومرنا، وتصريحاتهم الموجهة إلى الخارج ومراكز القوى كانت دبلوماسية ولبقة تزيل المخاوف وتطمئن الخائف. الأحزاب السياسية إذن جنت نتيجة ركونها إلى الماضي وقواعد الماضي، ورفضها التجاوب مع المرحلة الجديدة، فهي في الحقيقة ضحية الإنقلاب الذي هو منظومة العمل السياسي التي تكلست بفعل طول تحكمها في السلوك السياسي للنخب السياسية، تحكما هو خارج السيطرتها. لكن هذا لا يعفي النخبة الحزبية من تحمل المسؤولية، فآخر ما ساد في اللعبة السياسية من ممارسات، زادت من عزلتها، مثل التحالفات الهجينة التي ظهرت، وتصدع أغلبية حكومة عباس الفاسي، واللوائح العائلية كل ذلك ساهم في إدبار المواطن عن أحزاب جعلتها تصرفاتها تبدو نسخا عن بعضها تستحق العقاب كلما كان ذلك ممكنا، فكانت حركة "العدالة والتنمية" هي الوسيلة الوحيدة لأبراز الغضب من تلك السلوكيات. إذن فالأحزاب المغربية جنت نتيجة عوامل موضوعية وأخرى ذاتية ، واكتساح "العدالة والتنمية" جاء نتيجة العقاب الذي سلطه المواطنون المصوتون على التشكيلات التي لم تواكب السير الجاري للأمور بعد هبوب رياح الربيع العربي. لكن المستفيد الأكبر من كل ماوقع، ليس هو "العدالة والتنمية" بل هو النظام السياسي المغربي، الذي أبان عن قدرة عالية على التكيف مع الأزمات وعلى غنى في البدائل التي تمكنه من استمرار التوازن والإستقرار السياسي. فوصول قوى المعارضة ليس جديدا على النظام السياسي، فقد تمكن الأخير من احتواء نخب الحركة الوطنية وبعدها نخب اليسار واليوم نخب "الإسلام السياسي". فكل هذه النخب كانت في البدء معارضة من النوع الذي لايتردد في إعلان نفسه بديلا عن النظام القائم، وفي سبيل ذلك تمكنت من حشد وتجنيد قطاعات مهمة من المجتمع،وانتهى بها المطاف أخيرا إلى تحولها إلى قنوات لالتحاق تلك النخب المتحركة بالمناصب والمسؤوليات وانفصل الجميع بنسب متفاوتة عن المبادئ والأيديولوجيات والجذور الشعبية. انتهت الأمور بالجميع إلى الركون إلى المحافظة ودعم الأوضاع كما هي، تمت إذن "مخزنة" كل النخب المنخرطة في اللعبة السياسية، ونفس الأمر سيطبق على الحزب الإسلامي الظاهرة في هذا الموسم الإنتخابي. فلا شيء إذن حصل على الحياة السياسية ويمكن اعتباره مفاجئة في مملكة لا تحتمل المفاجئات، بل الأمر هو مجرد دورة جديدة من دورات الإستقطاب والإدماج والإحتواء، وفق منطق التوازن وضرورة "الإستقرار" الذي تنعم به المملكة.