تناول المخرج الشريف الطريبق سنة 2008 في فيلمه المعروف "زمن الرفاق'' الذاكرة الطلابية، "و الذاكرة مقارنة الأمس و اليوم، وهكذا يمكن أن نقارن من جهة أولى بين شبيبة اليوم، شبيبة كازانيغرا (في إشارة إلى فيلم كازانيغرا، أي الدار السوداء نكاية في اسم مدينة الدارالبيضاء)، شبيبة تفتقد أفقا تقاتل من أجله، وتعوض ذلك بالعنف اللفظي البيني. وشبيبة الأمس القريب من جهة ثانية، شبيبة زمن الرفاق، التي عاشت حلما كاسحا بالعدالة الاجتماعية و التحرر، وكان الطالب حينها يعيش أجواء نضالية راقية، يعرف ماركس ومهدي عامل وتطور الرأسمالية و..." هذا هو التوصيف الذي أعطاه الكاتب محمد بنعزيز للجو العام الذي يطبع الحركة الطلابية بالمغرب في مطلع الألفية الثالثة في مقال له منشور على هسبريس سنة 2009، و أنا أعتقد أنه بعد مرور حوالي عقد على مقاله و على إصدار "زمن الرفاق" سيعطي توصيفا أكثر قدحا في حق الحركة الطلابية المغربية لاسيما في بعض المدن المغربية بالذات. لعل أغلب طلبة 2017 مثلا لم يحالفهم الحظ ليعيشوا زمن الرفاق (و زمن الإخوان في نفس الوقت)، لكن الطريبق و غيره من المخرجين الشباب حافظوا لهم على الأقل على ذاكرة ذاك الزمان، و إلى جانبهم باقي المبدعين من كتاب و روائيين و شعراء و فنانين، زمن لربما سيستغرب منه طلبة و طالبات الجامعات المغربية في 2017 (إلا ما قل و ندر) و استغرابهم أمر عادي في نظري بعد أن تم إعدام الحركة الطلابية و الثقافية بالجامعات و تم إلجام جميع الفصائل و المنظمات الشبابية (لا أعمم و إنما أتحدث عما عمت به البلوى) حتى بات يستغرب من تنظيم أنشطة طلابية و فكرية بفضاءات الجامعات و أصبحت الندوات و المحاضرات و الأنشطة الطلابية تشكل مصدر حنين إلى الزمن الجميل من طرف الأساتذة و الخريجين القدامى، حتى باتت الجامعات أشبه إلى حد كبير بالثانويات أو الإعداديات -لا فرق- لم ينجح في ظلها الشباب و الشابات في الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أخرى و من التخلص من صفة "تلميذ(ة)" و اكتساب صفة "طالب(ة)"، و بالتالي ينجرف هذا النوع من الشباب مع جدار برلين الذي سقط في 1989 و جرف معه العالم و يعيش أكبر مشاكله التي عبر عنها مارتن سكورسيزي بأنها "حين لن يكون لديه شيء ليقوله". إذا كان الفيلم يصور "الصراع بصريا و و معجميا بين فصيلين طلابيين الرفاق أصحاب الملابس العصرية، الحاملين للعلم الأحمر و صورة تشي غيفارا، و الإخوان أصحاب الجلابيب البيضاء الملتحين والغامضين في الفيلم. وطبعا دون إغفال الفريق الثالث المتفرج غير المعني بالصراع و غالبيته من أبناء الفلاحين الذين كانوا أول من التحق بالجامعة في أسرهم، وهؤلاء يعتبرون تواجدهم في المدينة فرصة للتعلم و العيش، وهم يتعرضون لسخرية بنات المدن (المتحضرات)".، فإن الأوضاع قد تغيرت و تبدلت تماما في بعض الجامعات، إذ شهدت اندثار الفصيلين المذكورين و غيرهما، لصالح توسع دائرة الفريق الثالث تبعا لارتفاع الصراع، حيث بات الجميع غير معني و من فئة المتفرجين، و هذه الفئة باتت تشكل الأغلبية المطلقة و الجامعة لكافة أطياف المجتمع، غنيهم و فقيرهم بدوهم و حضرهم، ذكورهم و إناثهم، لم يعد مقتصرا على أبناء الفلاحين، لم يعد يتعرض لسخرية بنات المدن، لأن الجميع أصبح (متحضرا) لاحقا بركب الموضة و التقدم التكنولوجي، باحثا فقط عن إشباع اللذة الدراسية المتمثلة في النقاط و إتمام الموديلات، و في إشباع اللذة البطنية و الجنسية لا غير (إلا قليلا منهم)، إنه زمن العولمة. أحن إلى زمن الرفاق... "زمن الرفاق" الذي أحن إليه ليس نفسه "زمن الرفاق" المصور في الفيلم، إذ الفيلم له زاوية نظر معينة و له زاوية إبداعية خاصة، إنما أحن إلى زمن الرفاق المتسم بالفكر و التعدد و النضج، زمن التحاور و التطاحن الفكري بين مختلف المدارس و الايديولوجيات، زمن يعيش فيه الطلبة في بيئتهم و تاريخهم غير بعيدين عن المجتمع و السياسة، زمن تهتم فيه الطالبة بالفكرة أكثر من اهتمامها بطلاء أظافرها و ضيق سروالها أو باتساعه و بلبسها برقعا أو سروالا قصيرا أو بعدد الجيمات التي تجمعها صورتها على موقع فيسبوك، زمن يهتم في الطالب بالفكرة أكثر من اهتمامه بشعره أو حذائه أو سرواله أهو أسفل الكعبين أو أعلى الفخذين أو بعدد الفتيات الذين يدردش معهن على حائطه الفيسبوكي أو غيره و اللواتي يدغدن عواطفه برسائل قصيرة أشبه بالسهام أو القذائف، أحن إلى زمن النضج و الأدب و الالتزام و الاحترام الذي يمتاز به الطلبة و يجعلون مجتمعهم يحترمهم نتيجة ذلك، لا أحن إلى زمن "الرفاق و الإلحاد و الفسق و الزندقة" و لا إلى زمن "الإيمان و الطائفة الناجية"، كما لا أحن إلى زمن العنف اللفظي أو الجسدي، و لا إلى زمن المقاطعات و الفوضى و الاعتداءات و المحاكمات. أحن إلى زمن الرفاق... لعلني أحن و أحلم إلى زمان مثالي و فاضل، و هذا أكثر ما يمكن لي أن أفعله للأسف، فالواقع شيء آخر منقلب رأسا على عقب، إنه زمن "أستاذ الجنس و المال و الريع مقابل النقطة و الماستر و الدكتوراه و المناصب العليا"، إنه زمن تلاميذ الثانويات الذين لا يفكرون إلا بطرفهم السفلي و البعيدين عن واقعهم و عن سياستهم و عن التنظير و الفلسفة فلا هم إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء كل همهم الفيسبوك و الواتساب، إنه زمن المستوى المعرفي المتدني الذي أنتج لنا طلبة لا يتقنون تركيب الجمل مع بعضها مثل عدم احترامهم للحرم الجامعي و لحرمة المدرج و المحاضر و المحاضرة، بل إنه زمن المسؤولين المتتعتعين تحت قبة البرلمانات و أمام الشاشات، إنه زمن فقد فيه الطالب قيمته المعرفية و المعنوية و الرمزية في المجتمع، لم يعد الطالب يرعب المخزن ولا يفرض الاحترام في الحي و أصبح وجوده و عدمه سواء، عادي هذا الواقع في زمن طغت فيه الماديات، طغت فيه مبادئ الرأسمالية المتوحشة، طغت فيه الزبونية و المحسوبية و الشوفونية و الفردانية. أحن إلى زمن الرفاق... توقف أيها القارئ المحترم هذه ليست نظرة سوداوية و لا إقرارا لهذا الوضع، و إنما فقط مجرد حنين. لربما منطق هذا الحنين يقتضي منا أن لا نستغرب من الأستاذ عزيز بتطوان و استفزازه للطالبات و لا من العزيزيين الذين على منواله مال، جنس، ابتزاز، فساد .. عادي، و أن لا نستغرب من الطلبة الذين يسعون لشراء النقطة و غيرها و الذين لا يتمتعون بمقومات التعلم و طلب العلم كل ما في الأمر أنهم يمتلكون رؤوس أموال أو عقارات أو أنهن "سهرن الليالي في طلب العلم"...، عادي أيضا، وعادي أن تسود ثقافة الفردانية و غياب قيم التضامن و التضحية في صفوف الطلبة و ترك بعضهم البعض في مواجهة واقعهم الأليم... فالأمر لا يهمهم، لأنها النتيجة الحتمية للمقدمات و الأسباب التي ذكرناها بعد أن تم تفكيك دولاب مختلف الفصائل و الحركات الطلابية، و محو آثار الحلقيات العلمية و الثقافية و الأشكال النضالية (لا أعمم)، و لعل الدولة و سياستها الأمنية نجحت في ذلك و استطاعت نسبيا القضاء على مصدر من مصادر الإزعاج داخل المجتمع ففي جميع الأحوال ماذا ستفعل بطلبة يساهمون في رفع نسبة الوعي داخل المجتمع و يؤطرون الحراك و المظاهرات و النضالات التي يخوضها الشعب؟. أحن إلى زمن الرفاق... لعل الساحة الجامعية المغربية اليوم في أمس الحاجة –أكثر من أي وقت مضى- إلى إعادة النظر في أخلاقيات و أدبيات العمل الجامعي و الطلابي، و طبعا هذا يبقى مجرد حنين بدوره. أخيرا أحيي و أشيد على أيادي من لا زالوا يحتفظون ببعض مقومات زمن الرفاق، إن على مستوى الأساتذة الذين يحترمون أنفسهم و موقعهم و يحترمون طلبتهم و مكان جلوسهم، أو على مستوى الطلبة الذين يبادلونهم نفس الاحترام و الود و المحبة، و يسعون بخطى حثيثة و واثقة في مسار تكوينهم و دراستهم، و في نفس الوقت يعملون على تأطير أنفسهم داخل صفحات الكتب و بين دروب المواقع الالكترونية داخل الحرم الجامعي و خارجه في الفضاءات الثقافية و النوادي التربوية و الجمعيات و المنظمات الرسمية و غير الرسمية. و تحيتي الأخيرة لمن يحن يشاركني الحنين ل"زمن الرفاق"، الحنين الذي ليس تسويدا للنظرة أو تخوينا للمجتمع، و إنما مجرد نظرة نقدية تحليلية داخلة في إطار النقد الذاتي و فقط. أحن إلى زمن الرفاق...