لم تمر سنة 2022 حتى عرف المغرب حدثين عظيمين؛ ففي مطلع هذا العام وبالضبط في شهر فبراير وَلَّى العالم وجهه شطر المغرب بعد وقوع الطفل ريان في حفرة بضواحي مدينة شفشاون حيث بقي عالقا بها لبضعة أيام، وها نحن اليوم نرى العالم كلَّه يتحدث عن منتخب المغرب وما أنجزه وسينجزه بإذن الله تعالى في قطر. ليس من العبث أن يكون المغرب قبلة للعالم في سنة واحدة، وليس من الصدفة أن يهوي الخالق سبحانه بقلوب الناس في شتى بقاع العالم إلى محبة المغرب ويجري على أَلْسِنَةٍ من مختلف الأجناس والأعراق واللغات أدعية كالغيث لأهله بالتوفيق والسداد والنجاح في مناسبتين مختلفتين. إنها آيات منظورة تقتضي التدبر والنظر بقصد استخلاص الدروس والعبر، واستجلاء الخيط الناظم بين هذين الحدثين اللذين يبدوان متباينين ومتباعدين منذ الوهلة الأولى. بالأمس القريب سقط الطفل ريان في حفرة وعلِق بها مدة خمسة أيام، حاولت خلالها السلطات المغربية إنقاذ الطفل في اليوم الأول لكن دون جدوى، ومع توالي الساعات ازداد الضغط وتواصلت المحاولات دون نتيجة تذكر، لقد كان موضع الطفل في الحفرة وطبيعة التربة وانحذار الأرض تشكل بثلاثيتها عقبة كؤود لإنقاذ الطفل ريان، وبكل تأكيد ساهم مهندسون مغاربة في تقديم حلول، وقدم أجانب خبراتهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة لتجاوز الوضع، لكن الحل العملي بقي مستعصيا إلى أن برق الأمل وجاء العم علي جاجاوي الملقب بالصحراوي وهو رجل مغمور ينحذر من الجنوب الشرقي المهمش والمنسي. والسؤال هنا ما الذي جعل عمي علي الصحراوي أكثر فعالية من كل المحاولات التي سبقته حتى سُمِّيَ ببطل الأمتار الأخيرة؟ ✓ أولا، معرفته الميدانية بكل تضاريس المغرب وتربية المغرب ومناخ المغرب. ✓ ثانيا، خبرته التي راكمها لعقود في حفر الآبار وبكل الطرق سواء التقليدية أو العصرية، بحيث يمكنه التعامل مع كل الوضعيات. ✓ ثالثا، تغليبه لفلسفة الفعل والحرص على تغيير الوقائع في الأرض بذل المبالغة في التنظير والحسابات أمام وضع متأزم لا يقبل الانتظار وهدر الزمن. ✓ رابعا، شجاعته وتطوعه وتحمله عبء المسؤولية في وضعية شروط النجاح فيها ضئيلة إن لم نقل مستحيلة، إذ نادرا ما نرى الناس يُقبِلون أو يَقبَلون بمثل هذه التحديات. ✓ خامسا، تركيزه على إنجاح مهمته وعدم اكتراثه بالشهرة والإعلام فلم نشاهده يتهافت إِبَّانَها على عدسات الكاميرات ولم يفعل ذلك حتى بعد زوال الحدث. ✓ سادسا، اندماجه بسرعة في فريق عمل كان هو القائد الميداني فيه، يوجه ويواكب ويعطي النموذج في البذل والتضحية، إذ لم يكن مجرد آمر لمن معه بل كان يعمل بيده حفرا وحملا للتراب، رابطا الليل بالنهار. ✓ سابعا، تَحَلِّيهِ بالبساطة والفطرة وتوكله على الله وثقته بالله وشعور بالمسؤولية تجاه الآخر، وحبه لكل أبناء الوطن وفي كل أرجائه بعيدا عن النعرات القبلية الضيقة. وموازاة لهذا المشهد وضعنا الناخب الوطني السابق وحيد حاليلوزيتش الفرنسي الجنسية في حفرة من الخلافات بين اللاعبين، وفي حفرة الهزيمة في كأس إفريقيا، وفي حفرة أُقبِرَت فيها مواهبنا الكروية التي آثرت حمل القميص الوطني المغربي على غيره من الأقمصة، كما وضعنا في حفرة هدر المال دون طائل يذكر، كما أراد أن يقبرنا في حفرة التقهقر إن نحن سَلَّمنا بعقليته الديكتاتورية التي لا تؤمن إلا بخضوع وإذعان اللاعب دون مراعاة شخصية لاعبين نشأوا في بيئة متحررة. ولكي نكون أعمق في تحليلنا، فالمسؤولية لا تقع فقط على وحيد حاليلوزيتش، بل على الذين اختاروه مدربا وجلسوا يتفرجون على تراهاته وخزعبلاته، كيف لا نُحَمِّلهم المسؤولية والكل يعلم أن هذا المدرب قام بنفس التصرفات مع منتخب اليابان الذي أقاله شهر أبريل 2018 على بعد أقل من شهرين عن بداية مونديال روسيا، ولذلك نذكر مسؤولي الجامعة وعلى رأسهم فوزي لقجع بالمثل القائل "من جَرَّبَ المُجَرَّب فعقله مُخَرَّب". في هذا السياق وفي متم شهر غشت سيَقبَل وليد الرݣراݣي تعيين الجامعة له ناخبا وطنيا ليجد أمامه منتخبا ملقاة أجزاؤه في حفر متعددة، اجترار نكبة كأس إفريقيا، واجترار الطبقية بين اللاعب المحلي واللاعب المحترف، واجترار غيابات وازنة للاعبين مميزين وحاسمين، والأخطر من ذلك اجترار فريق بدون روح وبدون هوية وبدون طموح. من داخل هذه الحفر سينجح وليد الرݣراݣي في بعث المنتخب الوطني من تحت الرماد، فكانت جمرته المتقدة كافية لتوقد كل قلوب اللاعبين وتشعل لهيب الفرح في كل المغاربة والعرب والمسلمين وأحرار العالم، ليبقى السؤال لماذا نجح وليد الرݣراݣي في هذا الوقت القياسي؟ أولا، معرفته العميقة بالبيئة الكروية واطلاعه الميداني على الكرة المغربية، ثم إدراكه الجيد لعقلية وذهنية اللاعب المغربي ووقوفه على إمكانياته التي يمكن توظيفها ونواقصه التي يمكن تفاديها ثانيا، توظيفه لخبرته الكروية كلاعب محترف بعدة أندية أوروبية، ما جعله يحسن التصرف مع اللاعب المحترف واللاعب المحلي على وجه سواء. كما أن تعامله مع المكاتب المسيرة لنوادي مغربية كبيرة أكسبه خبرة في التعامل مع الجامعة لأن مسيروها هم رؤساء نوادي حاليين أو سابقين. ثالثا، مروره المباشرة إلى الفعل باستعادة اللاعبين وتصفية الأجواء وبعث روح جديدة في المنتخب رابعا، شجاعته في القيام بتنقية شاملة وتطهير كلي لبيئة المنتخب المغربي من كل الطفيليات التي كانت تقتات من الخلافات وكثرة المتدخلين، لذلك أصر وليد الرݣراݣي على تغيير جذري في كل "سطاف" الفريق، ما جعله يتحكم في اختياراته وخططه وطريقة لعبه وتعامله مع اللاعبين، عكس الأحزاب السياسية في المغرب التي لا يهمها المناخ الذي تمارس فيه السياسة ولا يهمها الوفاء بعهودها بقدر ما يهمها المناصب والكراسي والنفوذ والامتيازات، وإلا كان من واحبها أن تهيء أولا البيئة السياسية القابلة لتنفيذ المشاريع والبرامج السياسية. خامسا قطع كل خيوط الزبونية والمحسوبية والسمسرة التي كانت تتحكم في المنظومة الكروية المغربية سواء بطريقة مباشرة من داخل الجامعة أو بطريقة غير مباشرة من خلال لاعبين قدامى كان لهم نفوذ كبير وتحكم في اختيارات الناخب لارتباطهم المباشر بالسوق العالمية للاعبين، وهو ذات الأمر الذي نعاني منه في المجال السياسي والاقتصادي. سادسا، اندماجه بسرعة فائقة مع فريقه بحيث أصبح كل أعضاء الفريق يحسون أنه واحد منهم بل ويبذلون أقصى ما يمتلكون من جهد من أجل إسعاده ومن تم إسعاد ملايين المتابعين. لقد نجح وليد في امتلاك قلوب لاعبيه وزرع فيهم كل معاني المثابرة والعطاء والطموح، لأنه كان نِعمَ النموذج والمثال. سابعا، تبنيه خطابا بسيطا ينفذ إلى القلوب والمشاعر يفهمه اللاعبون قبل غيرهم، خطاب يركز على النية ورضا الوالدين, وتجنب النفاق والتملق، وفعل الخير وزرع المحبة والإيثار بين اللاعبين، فرأينا بونو يتنازل لنصيري على جائزة أفضل لاعب، وما هذه الروح إلا نتيجة خطاب الفطرة والأخلاق الفاضلة التي توطد الأواصر بين أفراد المنتخب الوطني. هكذا ونحن نستعرض مشهد حفرة ريان ومشهد مونديال قطر تتجلى أمامنا صور متماثلة – صورة طفل عالق في حفرة بعدما وقع فيها بسبب أخطاء غيره ، وصورة منتخب وطني مغربي عالق في أوحال الهزيمة ليس لقلة إمكانياته، ولكن لسوء تدبير مسؤولي الجامعة وسوء اختيارات الوزارة الوصية. – صورة العم علي الصحراوي الذي تطوع ليكون بطلَ الأمتار الأخيرة رغم كل الصعاب المذكورة آنفا لينقذ حياة الطفل ريان فأبلى البلاء الحسن وأحبه كل المغاربة وكانت معه كل دعوات العالم ، وصورة وليد الرݣراݣي الذي قَبِلَ بتحمل المسؤولية في ظروف جد جد صعبة وعرَّض مستقبله التدريبي إلى مغامرة غير محسوبة. – صورة العالم وهو يشاهد المغاربة ملتحمون لتحقيق إنجاز تحت الأرض مع ريان، وصورة العالم وهو يشاهد منتخب المغرب يقيم إنجازاته فوق الأرض. – صورة الدعوات مع ريان التي كانت مرفوقة بالحزن والأمل في إخراج الطفل، وصورة الدعوات مع المنتخب المشفوعة بالفرح العارم والأمل في الفوز بكأس العالم – صورة التعاطف العالمي مع المغرب من خلال طفل، وصورة تعاطف العالم مع المغرب من خلال منتخب. – صورة مشاهدين يحبسون أنفاسهم منتظرين نتائج الحَفْرِ ساعة بساعة، وصورة جماهير تحبس أنفاسها انتظارا لصافرة الحكم دقيقة بعد دقيقة. وقصارى القول أن المغاربة شعب عظيم، وشعب معطاء، وشعب مبدع، وشعب كريم، وشعب صبور، وشعب قنوع، وشعب خزان للكفاءات، وشعب مستعد لكل التضحيات من أجل رفع الوطن عاليا بين مصاف الدول؛ لكن هذا الشعب يفتقد كما كان المنتخب سابقا لمن يقوده نحو التقدم والرقي والازدهار والتنمية، يفتقد لمن يبعث فيه روح جماعية تخرج كل مواطن من أنانيته وبحثه عن خلاصه الفردي، إلى عقلية جديدة تؤسس لخيار الخلاص الجماعي الذي يضمن الكرامة والرفاه لكل مواطن. لقد عانى المغرب ولا يزال من الهدر الدائم للزمن السياسي، ومن الهدر الدائم لثرواته الطبيعية، ومن الهدر الدائم لكفاءاته وموارده البشرية، ومن الهدر الدائم لإرث تاريخي لدولة عمرها تجاوز 13 قرنا عرفت في ذروتها تفوقا سياسيا واقتصاديا وعلميا. إننا اليوم في حاجة إلى "مَنْ" وهذا "المَنْ" ليس بالضرورة أن يكون فردا واحدا ، ولا أن يكون مُخَلِّصا قادما من السماء، ولا مهديا منتظرا، إن هذا "المن" هو أنا وأنتِ وأنتَ، إن هذا "المن" هو نحن الذين وعينا بإمكانياتنا وبقدرتنا على تغيير واقعنا، فَلَئِنْ كان المنتخب قد وصل إلى ما وصل إليه من معالي المراتب فلأنه آمن بطموحه والتزم بالعمل الجماعي في الميدان بعد التخطيط المسبق، ونحن أيضا من باب غيرتنا على هذا الوطن بإمكاننا أن ننحو نفس المَنْحَى لنَمْحِيَ مسلسل الهزائم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتعليم…، ونقول بصوت واحد "كفى" نحن شعب يستحق الأفصل، نحن شعب سيكون بحول الله وقوته قاطرة للشعوب المستضعفة في كل المجالات بعدما حقق انتصارات كروية عالمية غير مسبوقة. وتدبروا جيدا قوله تعالى « إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ » وتذكروا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يد الله مع الجماعة»، إذن الحل هو العودة إلى قيمنا وأخلاقنا الأصيلة؛ "نديرو النية ونتوسلو برضات الوالدين ونحيدو النفاق ونحبو الخير لبعضنا البعض" ثم نَمُرُّ إلى الفعل لتغيير عقلية الانتظار والاتكالية والأنانية والخضوع والاستيلام التي عششت فينا طويلا، حينها ستأتي الانتصارات طوعا أو كرها في واقعنا وحياتنا. فتماما كما أن عمي علي الصحراوي قد نجح في الوصول إلى جسد ريان وإخراجه بخبرته وكفاءته المحلية، ولو أنه لفظ أنفاسه، إذ لا حيلة مع قدر الموت، وتماما كما أن وليد الرݣراݣي قد نجح في إخراج المنتخب الوطني المغربي من براثن الهزيمة بعدما أصر على تطهير محيط المنتخب ومنحه سلطة اتخاذ القرار في دائرة وظيفته، فإن الشعب المغربي بمقدوره عاجلا غير آجل أن يصبح محط أنظار كل العالم إن هو سلك نفس المسلك الذي نهجه وليد الرݣراݣي عبر تطهير المناخ السياسي والإقتصادي الذي يعوق انطلاق عجلة التقدم في هذا الوطن الحبيب، وإحداث تغييرات جذرية في بنيات المؤسسات، ومنح كل مسؤول سلطة اتخاذ القرار في دائرته حتى يكون مسؤولا عن قراراته وما ستؤول إليه. فمتى حوَّلنا هذه الأفكار إلى عمل، ومتى أدركنا أن الانتصار يستوجب منعطفا حاسما وقرارات جازمة في الحياة، عجلنا بِقَدَرِ التقدم وأنزلناه من السماء إلى الأرض، وما ذلك على الله بعزيز. ختاما أقول، إن وقوع حدثين كبيرين متعلقين بالمغرب في سنة واحدة، حدثين جعلا منه قبلة العالم كله، ليوحي أن شمس التغيير ستشرق من المغرب لتعلن قيام ساعة عهد جديد وعصير جديد بحول الله وقوته. قبل هذا وذاك كامل التوفيق للمنتخب الوطني المغربي سير سير سير حتى الفوز بكأس العالم