شاركت قبل أسبوعين في ندوة بمدينة طنجة حول "طنجة في الأدب والفنون". شارك إلى جانبي مخرج سينمائي ومصور فوتوغرافي. كانت البداية مع الصورة الفوتوغرافية، ثم الأدب من خلال روايتي "معجم طنجة" (دار المتوسط، 2016)، ثم السينما. انطلقت من فكرة دافعت عنها طوال مداخلتي: طنجة مدينة-عالم، مثلها مثل باريس أو مدريد أو برشلونة. ورغم ما كُتب عنها بأقلام كتاب عالميين: بول بولز، خوان غويتيسيلو، ويليام بوروز، دانيال روندو... ورغم آلاف الصور الفوتوغرافية، وعشرات الأفلام السينمائية، فإن طنجة ما زالت في انتظار الخيال المغربي. وأضفت أن الاهتمام الأدبي المغربي بطنجة بدأ مع محمد شكري، وما علينا سوى اعتبار الكتابات العالمية مجرد نصوص سياحية. ولم يكن لي من الوقت ما يساعدني على تطوير أطروحتي، باستثناء ذكر بعض الأمثلة من الأدبين العربي والعالمي، كان في مقدمتها قاهرة نجيب محفوظ، وإسكندرية إدوار الخراط، وجزائر محمد ديب وكاتب ياسين ومولود فرعون، ونيويورك بول أوستر، وباريس بلزاك وموديانو، وبراغ ميلان كونديرا أو سيلفي ريشتر. وقد كنت أحمل معي ساعتها عدداً من المجلة الفرنسية "لير" التي خصصت ملفاً كاملا عنونته ب"باريس رواية، من بلزاك إلى موديانو"، الحائز على جائزة نوبل سنة 2014. وأضفت فكرة أزعجت صاحب العرض الفوتوغرافي مفادها: إذا لم يكتب المغاربة عن مدنهم، فعلينا أن نقتنع بأنها مدن لم تدخل إلى فضاء التخييل الأدبي. هذا منطق أدبي موجود في كل آداب الأمم، منذ طروادة إلى اليوم. كُتبت عن مراكش كتب رائعة بقلم خوان غويتيسولو، المقيم الدائم فيها، وإلياس كانيتي، وكلود أوليي. لكن ألم تسمعوا أنين مراكش وهي تموت من شوق انتظار أدبائها، وخيالها، ولغتها؟ وطنجة أيضاً يُسمع أنينها العالي، فهي تنتظر خيالاً مغربياً خالصاً. وما عدا ذلك فهو مجرد سياحة وإقامات عابرة، ونصوص مسافرين. لأن السؤال الذي يبقى ملحّاً هو: كيف، ولماذا، لم توح طنجة لكتّابها بأي شيء؟ إنها مدينة خلقت لنفسها أسطورة خاصة وامتلكتها كما تُمتلك البداهة. الفرنسيون يتذكرون أن أزقة باريس عرفت خطوات همنغواي، لكن خطوات بروست وبلزاك أكثر أهمية ورُسوخاً. ونحن في المغرب نعتزُّ بكون أزقة مدينتنا طنجة عرفت خطوات بولز، وتينيسي ويليامز وترومان كابوت وألان غينزبورغ وماتيس، الذين كانوا يشعرون بما يشعر به من يقضي نهاية أسبوع في قرية، لكن خطوات محمد شكري والراوي الشفوي محمد المرابط: بقرة بولز الحلوب تبقى هي الأهم. بكل تأكيد، هناك آخرون، لكن أين هم؟ أين أصواتهم وأبطالهم وشخصياتهم؟ علينا البحث عن طنجة داخل عالم كلماتنا. لقد ظلت طنجة دولية طيلة عقود، أي ظلت جسماً مريضاً. من كتب عن هذا المرض غير شكري؟ لم يكتب زولا عن شيء آخر سوى عن هذا الجسد الضخم الرائع والمريض الذي اسمه باريس. طنجة جسد مريض مثل باريس: المتعة الصاخبة، الجيوب المظلمة، التهريب، الجريمة، المتاحف، دور السينما، اللغات... شكري لم يكتب شيئاً سوى عن لعنة طنجة، مثلما كتب "جاك يوني" عن باريس الملعونة. لكن هناك أيضا طنجة الحلم، وهذا ما كتبته في روايتي "معجم طنجة"، حيث أبرزت حياة وأوقات ومصير واحدة من أكبر كُتّاب النثر في القرن العشرين: جين بولز. لكن يجب أن نعترف أن شكري هو أكبر من قدّم الشهادة الكُبرى. طنجة مدينة شكرية، مثلما باريس مدينة بلزاكية، وستبقيان كذلك، رغم التغيرات العمرانية والروحية. رغم أن همنغواي كتب عن باريس، فإن أحداً من الفرنسيين لم يستشعر أنه كتب شيئاً ذا قيمة. ونفس الشيء بالنسبة للبلجيكي جورج سيمنون، لماذا؟ هناك الكثير من حفلات السكر، ومن الوضاعة. في كتاب همنغواي "باريس عيد" الكثير من جلسات السكر. وفي نصوص بولز، وبورّوز، وترومان كابوت، وتينيسي ويليامز الكثير أيضاً من السكر والوضاعة والمخدرات. علينا أن نطرح هذا السؤال: ما هو أفضل كتاب كُتب عن طنجة؟ لنغير كلمة "كتاب" لأنها تعني أشياء كثيرة: رواية، دليل، مذكرات، أو حتى كتاب هجاء... ولنستعمل في السؤال لفظة "رواية". هناك طنجة ورقية في كل الأجناس الكتابية، لكنها موجودة كفضاء ملعون ومكان مجروح بمقاصد أسلوبية راسخة في روايات محمد شكري، وأتمنى أن أكون قد أضفت شيئاً بروايتي "معجم طنجة". غير أنني متأكد من شيء واحد، هو تعبيري عن حبّي لهذه المدينة. وهو أمر سيسعد لا محالة كل الطنجيين. يعي الطنجيون اليوم جيداً أنهم يعيشون في مدينة جميلة، العيش فيها نوع من الهناءة. رغم أنهم لا يأخذون كل وقتهم لتأملها. وهو شعور موجود أيضاً لدى المراكشيين. لكن أين كتبهم؟ الكل ينتظر. *كاتب وشاعر مغربي