يبدو أننا تعودنا العيش على ذكريات الماضي الجميل، حتى و إن لم يكن جميلا في وقته، إلا أنه و بالمقارنة مع حال اليوم يبدو أجمل، و قد يصير الحاضر أحلى من الآتي، كما قال الشاعر السوداني الهادي آدم في قصيدة أغدا ألقاك " قد يكون الغيب حلوا، إنما الحاضر أحلى" و غدا سيصير الغيب حاضرا، و يصير الحاضر هو ذلك الماضي الجميل، حتى صرنا في كثير من المواقف نتحسر على ما فات، و كأن اللحظة التي نعيشها لا تمتعنا فنقول " يا حَسْرَة"، هذه الكلمة التي صارت على كل لسان، و في كل المواضيع التي تهم حياتنا اليومية، نقولها متحسرين فعلا على زمن جميل مضى و انقضى، و اندثرت معه العديد من الأمور التي لم نكن نستلذها آنذاك، ربما لبساطتها، أو لقلتها، أو ربما لعدم تقديرنا لها في حينها، أما اليوم، و بعد ما فاق كل شيء حده، و انقلب إلى ضده، صارت الحياة غير الحياة، و غاب الاستمتاع بكل ما كان ممتعا، و فقد كل ما كان حلوا حلاوته، و كل ما كان قيما قيمته، حتى صار الإنسان يقوم بكل ما يقوم به على أنه واجب فقط، دون أي إحساس، مما أثر سلبا على العديد من الميادين و القطاعات التي تعتبر من أساسيات بناء المجتمعات. كلما انطلق الموسم الدراسي، و توجهت كسائر الآباء إلى المكتبات لأقتني اللوازم المدرسية لأبنائي، إلا و أعود بذاكرتي إلى سنين صباي، عندما كنت أنا أيضا تلميذا، أتوجه مع أبي إلى إحدى مكتبات المدينة، أحمل بين يدي لائحة الكتب التي كانت أقل بكثير مما هي عليه لوائح اليوم، أذكر جيدا و أنا في السنة الأولى ابتدائي، والتي كان يُطلق عليها آنذاك " التحضيري" حينها لم أكن أحمل محفظتي الصغيرة سوى سبورة، دفترا من 12 ورقة، كتاب القرآن ( حزب سبح) و مطالعة اقرأ للأستاذ بوكماخ عليه رحمة الله، و جازاه عنا كل خير، كنا نحمل حقائبنا بدون عناء و لا ملل، عكس اليوم، حيث أصبحت الحقائب المدرسية على شكل حقائب السفر، بعجلات تمكن التلميذ من جرها، بعد أن أصبح حملها شبه مستحيل، بل هناك من وسع الله في رزقهم، لم يجدوا بُدّاً من استخدام من يحمل حقائب أولادهم. لم يكن أبدا يتعبنا حمل حقائبنا المدرسية، كما لم نكن نمل أبدا من مطالعة كتبنا – إقرأ و القرآن الكريم – فلم يكن لدينا سواهما، لأن التعليم آنذاك كان يعتمد على مجهود المعلم في تلقين تلاميذه الدروس داخل القسم، و العمل على الشرح و التوضيح و التبسيط، إلى أن يستوعبوا كل ما ينبغي استيعابه، فلم يكن يطلب من المتعلم لا التحضير، و لا البحث في الإنترنيت، و لا شيئا من هذا القبيل، فكان المستوى التعليمي أفضل مما هو عليه اليوم، لا لشيء، سوى لأن المعلم كان يعمل بجد، و يؤدي رسالته على أتم وجه، و طبعاً، لا يضيع الله أجر من أحسن عملا.
أما اليوم فقد أصبحنا في زمن، صار معه الدخول المدرسي بما يصحبه من مصاريف، ضريبة سنوية تقسم ظهر الآباء، قبل أن تقسم الحقائب من ثقلها ظهر التلاميذ، فقد تعددت الكتب و تكاثرت، و تنوعت المقررات و اختلفت، و كثرت المواد و تشعبت و تعقدت، فصار على التلميذ أن يُدَرِّس نفسه بنفسه في البيت، قبل القدوم إلى الفصل، فيما يسمى بالتحضيرللدرس، بعد أن كانت العادة تقتضي إنجاز تمارين الفهم بعد استيعاب الدرس من المعلم داخل القسم، و هي نفس الطريقة التي كانت تُعتمد أيام كان واضعوا المخططات التعليمية الجديدة تلاميذ كغيرهم. و الغريب في الأمر، أنه في كثير من الأحيان يكلف تلاميذ الأقسام التحضيرية بالبحث عن مواضيع في الإنترنيت، و هو الأمر الذي أراه تمرينا للآباء الذين يقومون بإلأمر عوض أبنائهم الصغار، الذين يصعب عليهم ذلك، و هي ربما المسألة الإيجابية الوحيدة في الموضوع، بحيث يدرس الابن في المدرسة، فيما يفرض على الآباء المراجعة و إنجاز التمارين و البحوث في البيت، أليس العلم مطلوباً من المهد إلى اللحد؟.
كل هذا يمكن التكيف معه، و التعود عليه، و التعامل معه بطريقة أو بأخرى، لكن الذي لا يمكن تحمله أبدا،هو المستوى المتدني لذي أصبح عليه حال التعليم الحالي، من جراء كثرة الإضرابات في صفوف رجاله، فلم يمض إلا أسبوعين على الانطلاق الرسمي للموسم الدراسي، حتى سجلنا يومي الأربعاء و الخميس الماضيين أول إضراب إنذاري لرجال التعليم، جعلنا نبحث بجدية عن حل للتقليل من الآثار السلبية التي تسبها مثل هذه التوقفات الغير محددة، والتي تفقد التلاميذ تركيزهم و حماسهم، و تضيع عليهم ساعات، بل أيام من العلم و التنوير، و ليس غريبا أن نسمع يوما عن إضراب التلاميذ احتجاجا على إضراب معلميهم و أساتذتهم، و مطالبتهم بتعويضهم عن كل الحصص التي ضيعوها عليهم، و هذا أمر طبيعي بما أننا نعيش زمن التغيير، و كم أود لو أن وزارة التعليم تسمح للتلاميذ باجتياز الاختبارات كأحرار دون الانتساب لأية مؤسسة تعليمية، كما هو الحال بالنسبة للباكلوريا، حينها أكون أول من يدرس أبنائه في بيته، و لا يرسلهم إلا لإجراء الامتحانات، بما أنني فعلا أقوم بالشطر الأول من هذا الأمر، و أنا الذي لم ينجز لي أبي تمرين واحدا طوال سنين دراستي، و كذلك أمثالي من أبناء جيلي، ألا رحم الله تعليم زمان و " ياحَسْرَة ".