يعرف المشهد السياسي الأيام القليلة الماضية تطورات متسارعة تكشف عن جزء من الرهانات المتفاعلة التي تسعى إلى تغيير موازين القوى السياسية والتأثير في مستقبل الخارطة السياسية التي ستفرزها انتخابات السابع من أكتوبر المقبل. حزب العدالة والتنمية الذي تصدر الانتخابات السابقة، لا يزال يقدر أنه الحزب الذي يستحق الاستمرار في مركز الصدارة، فلحد الآن لم يظهر أي متغير اثر سلبا على شعبيته وقاعدته الانتخابية، فتجربته في التدبير الحكومي، التي كان يعتقد أنها ستتسبب في خفض شعبيته، أثبتت الانتخابات الجماعية أنها كانت سنده في توسيع قاعدته الانتخابية والتحول إلى الحزب الأكثر تأييدا في الوسط الحضري مع تحقيق اختراقات جد مهمة في العالم القروي. صحيح أن العتبة الانتخابية تغيرت، وأن من شأن ذلك أن يؤثر جزئيا في مقاعد هذا الحزب، لكن يبدو أن رهانه على توسيع قاعدة المسجلين في اللوائح الانتخابية يستهدف سد الفجوة التي سيتسبب فيها خفض العتبة الانتخابية، وتحصين مقاعده الحالية أو الزيادة فيها قليلا. ولذلك، ظلت مطالبه في الآونة الأخيرة مركزة على نشر النتائج الرسمية للانتخابات لضمان الاستثمار الأمثل لمعطياتها، وتعزيز فعالية التأطير الخارجي لضمان أكبر قدر ممكن من التسجيل في اللوائح الانتخابية للرفع من حظوظه في توسيع قاعدته الانتخابية. أما حزب الاستقلال، فيبدو أنه منشغل أكثر بالجواب عن الاستهدافات التي تعرض لها في الآونة الأخيرة والتي ينظر إليها على أساس أنها كلفة فك الارتباط من حزب الأصالة والمعاصرة، إذ تلقى هذا الحزب ضربات موجعة تمثلت في إسقاط المجلس الدستوري لأكبر عدد من مقاعده في مجلس المستشارين (ستة مستشارين)، وكذا إسقاط الحكن الإداري لرئاسته لجهة الداخلة وادي الذهب بحجة تمتع الرئيس المنتسب لحزب الاستقلال (الخطاط ينجا) بالجنسية الإسبانية، ناهيك عن إصدار حكم ثقيل في حق نجلي الأمين العام لحزب الميزان ومنعهما من الترشح لولايتين انتخابيتين. ولذلك، غير هذا الحزب خطابه الذي كان يدعو إلى حكومة ائتلافية وطينة، وأصبح قريبا في لغته من لغة حزب العدالة والتنمية في مواجهته لحزب الأصالة والمعاصرة والتأكيد على وجود إرادة من لدن السلطة السياسية لمكافأة حزب البام بمعاقبته، ولذلك لم يتردد حزب الاستقلال في مواجهة المجلس الدستوري واتهام قراراته بالتعسفية والرغبة في قتل التعددية السياسية والعودة لتنشيط تجربة الحزب الأغلبي، كما لم يتردد حمدي ولد الرشيد في توجيه انتقاد حاد للإدارة الترابية على خلفية إسقاط المجلس الدستوري لعضوية رئيس المجلس الجماعي بالداخلة، محذرا إياها من العواقب الخطيرة التي يمكن أن تنتج عن خدمة أجندة البام في الصحراء وتغيير قواعد اللعب الديمقراطية بهذه المنطقة. أما الاتحاد الاشتراكي، فيعيش توترا حادا، تعكسه حجم التصريحات والسلوكات المتناقضة التي صدرت عنه، فمن فتح المجال لإمكانية التحالف مع أحزاب الأغلبية بما فيها حزب العدالة والتنمية، وتقديم إشارات لإمكانية التقارب معه بفتح مقر الاتحاد الاشتراكي لأكدال لمسامرة مع الأمين العام لحزب العدالة والتنمية عبد الإله بنكيران، إلى إنتاج خطاب أكثر رايدكالية من طرف قيادته الحالية وصل إلى حد اتهام البيجيدي بالهيمنة واستغلال التسجيل الإلكتروني لإغراق اللوائح بالمقدين الجدد، والتلويح بأن الانتخابات القادمة ستكون مزورة ! تفسير هذا التوتر مرجعه بالأساس إلى رغبة قيادة الحزب في طمأنة حزب الأصالة والمعاصرة والجهات التي تدعمه، وإلى تدارك الموقف بعدم تحمل كلفة الإشارات التي صدرت عن الحزب في اتجاه التقارب مع العدالة والتنمية، وأن التوجه الرسمي لحزب الوردة يتجه نحو تضييق الخناق على العدالة والتنمية لا التقارب معه. أما حزب الأصالة والمعاصرة، فعينه على اقتناص أكبر عدد من الفرص لإضعاف حزب العدالة والتنمية ومنع خيار الاستمرارية أو على الأقل جعل حكومة العدالة والتنمية المقبلة أضعف بالقياس إلى الحكومة الحالية. ولذلك، فهو يتحرك على الواجهة الانتخابية بالضغط على وزارة الداخلية لحذف 300 ألف مسجل تم تسجليهم بفضل الحملة التي قامت بها شبيبة حزب العدالة والتنمية، كما يتحرك لفك التحالفات في عدد من المجالس الجماعية المنتخبة للظفر برئاستها أو على الأقل منع حزب العدالة والتنمية من رئاستها (نموذج الرباط). أما على الواجهة السياسية، فمعركته تتجه إلى اختطاف عدد من المباردات الحكومية ونسبتها إليه، أو محاولة البروز كسلطة أكبر من الحكومة في إمكان الحصول على مكاسب اقتصادية وتنموية من خلال مبادرات رئاسة جهة طنجةالحسيمة (الحديث عن استقدام مشروع صيني في الجهة سيوظف 300 ألف عامل !!) هذا فضلا عن الاشتغال لتفكيك الانسجام الحكومي، بإقامة تواصلات سياسية مع وزراء في الحكومة أو حلفاء فيها دون تشاور مع رئاسة الحكومة أو مع مكونات أغلبيتها. بالنسبة للأحزاب الأخرى، وبشكل خاص التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية، فيبدو من خلال سلوكها السياسي، أنها غير معنية تماما بهذه التطورات، وأن الرهانات المتقابلة لا تؤثر سلبا على وزرنها الانتخابي المتوقع في الانخابات القادمة، وأنها ما دامت خارج دائرة التنافس على الرتبة الأولى، فهي أحزاب مطلوبة للتحالف، وأنها ليست مستهدفة في مقاعدها، وإن كان المجلس الدستوري مس بعض مقاعدها لاسيما حزب التجمع الوطني للأحرار. أما حزب التقدم والاشتراكية، فلايزال مصطفا إلى جانب حزب العدالة والتنمية، وإن كانت لغته بعض رموزه تميل إلى قدر من الاعتدال وتجنب خيار المواجهة، فقد اختارت قيادته أن تتنتقد بمرونة طريقة نشر وزارة الداهلية لنتائج الانتخابات، كما أنها لم تلتزم مقاطعة راديكالية لحزب الأصالة والمعاصرة ومناوراته لتفكيك الانسجام الحكومي، إذ اتجه السلوك السياسي لهذا الحزب إلى دعم خيار الاستمرار في التجربة الإصلاحية التي تقودها الحكومية الحالية وفضلت أن تتجنب كلفة إنتاج نبرة راديكالية اتجاه الداخلية وحزب الأصالة والعاصرة لاسيما وأن هذا الحزب تأذى كثيرا في المحطة الانتخابية السابقة بفعل الضغوط التي مورست على بعض مرشحيه لسحب ترشيحاتهم ووضعها باسم أحزاب أخرى في الدقائق الأخيرة السابقة لوضع الترشيحات. هذا من جهة الرهانات الحزبية، أما من جهة الوضع السياسي العام، فتبرز مؤشرات متراترة داعمة لدينامية الأصالة والمعاصرة، فمن جهة، هناك قرارات متلاحقة بإسقاط 15 من أعضاء مجلس المستشارين من قبل المجلس الدستوري، والتي كان من نتيجتها تبوء حزب الأصالة والمعاصرة موقع الصدارة في هذا المجلس، ومن جهة ثانية، ولأول مرة، يتم توقيع مذكرة بين بنك المغرب والاتحاد العام لمقاولات المغرب، تتنتقد سياسات الحكومة وتتهمها بالتسبب في التقليص من نسبة لجوء المقاولات للاقتراض من الأبناك، ومن جهة ثالثة، اتجه السلوك النقابي إلى منع تتويج الحوار الاجتماعي، ومحاولة إنتاج حراك اجتماعي على خلفية رفض مشروع الحكومة لإصلاح صندوق التقاعد، ومن جهة رابعة، تحاول بعض الفعاليات الحقوقية إنتاج حراك آخر مواز على خلفية انتقاد واقع الحقوق والحريات بالمغرب وانتقاد عدم اعتماد الحكومة للمقاربة التشاركية في إخراج بعض القوانين التنظيمية ذات الصلة بالملف الحقوقي، ومن جهة خامسة، هيمنت على الواجهة الإعلامية توجهات تحاول أن ترسم صورة عن حزب العدالة والتنمية كحزب مهيمن على الساحة السياسية. تركيب هذه الرهانات، الحزبية منها، وما يرتبط بمخرجات فاعلين آخرين اقتصاديين واجتماعيين وحقوقيين وإعلاميين هذا بغض النظر عن خلفيات تزامنها ومن وراءها، يفيد بأن الرهان الأساسي ليس على منع حزب العدالة والتنمية من الحصول على المرتبة الأولى، وإنما هو على منعه من حقيق تقدم يغير قواعد التوازن السياسي، وأن الخيار الأفضل الذي يتم الاشتغال عليه، هو إحداث تراجع لحزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال، في مقابل إحراز تقدم لحزب الأصالة والمعاصرة، وجعل الحزب المتقدم في الانتخابات (حزب العدالة والتنمية) بين خيارين/ إما تحالف الضرورة بين العدالة والتنمية وحزب الأصالة والمعاصرة لتشكيل حكومة متوازنة، أو تشكيل حكومة ضعيفة من عدد أكبر من الأحزاب التي يصعب تأمين الانسجام الحكومي بينها.