في أول خطاب لعيد العرش (30 يوليوز 1999)، أي بعد سبعة أيام من وفاة الملك الحسن الثاني (23 يوليوز 1999)، تحدث الملك محمد السادس للشعب المغربي قائلا:
«سياستنا الداخلية بارزة المعالم، واضحة السمات، والمطلوب هو ترسيخها ودعمها».
إن هذه المقولة تترجم بوضوح الاستراتيجية المتكاملة التي يتبناها الملك محمد السادس لحكم مغرب القرن الواحد والعشرين، مقارنة مع الاستراتيجية المغايرة التي تبناها والده الملك الحسن الثاني، طوال 38 سنة من حكمه للبلاد (1961-1999).
إن ذلك يدفعنا إلى وضع مقارنات بين حكم الأب وحكم الابن، على صعيد السياسة الداخلية، وعلى مستوى المربع الضيق، المكون من المستشارين والتقنوقراط، والمحيط بالمؤسسة الملكية.
الأربعة عقود التي قضاها الملك الحسن الثاني متربعا على عرش المملكة المغربية، اتسمت بتنفيذ مشاريع قليلة لكن عملاقة، من قبيل رفع تحدي بناء سدود كبيرة أنقذت المغرب من خطر الخصاص في الماء، بالإضافة إلى ملحمة المسيرة الخضراء (1975)، التي جعلت المغاربة يتجندون وراء عاهلهم ويقتحموا الحدود الوهمية في الصحراء المغربية بأعداد فاقت 350 ألف مواطن.
نجاح هذه المشاريع، كان يقف وراءه -إلى جانب الذكاء اللامع للملك الحسن الثاني وقوة شخصيته وصلابة إرادته- المساعدون الأقربون للملك الذين كانوا ينفذون مضامين الملفات التي توكل إليهم بشكل حرفي، ودون أية تعثرات تذكر في هذا السياق.
وكانت المشاريع الكبرى التي يقودها الملك الحسن الثاني، تنعكس دلالاتها ومراميها على كل المجالات، وإذا اتخذنا المسيرة الخضراء نموذجا في هذا السياق، نلاحظ أن هذه الملحمة فجرت مواهب في الغناء، وألهمت قريحة الشعراء، وكانت تفاصيلها موضوع عدد كبير من الكتب داخل المغرب وخارجه، بالإضافة إلى التفاف النخب الثقافية والفكرية حولها، مما أعطى لهذه المسيرة صيرورتها الخالدة.
في سن 36 عاما اعتلى الملك محمد السادس عرش المملكة، فتبنى استراتيجية تنموية كبرى، تختزلها جريدة "صوت الشمال الاقتصادي" في العنوان البارز التالي:
-الإحاطة الدقيقة بالقضايا العالقة، والمباشرة الميدانية للملفات السوسيو اقتصادية.
مكونات هذا العنوان نعثر عليها في الأوراش الهيكلية الكبرى، وشبكة الطرق السيارة، والبنيات التحتية الاقتصادية، ومشاريع التأهيل والتنمية الحضرية، والبرنامج الوطني لإنجاز المدن الجديدة... إلخ.
هنا نتساءل بكامل الموضوعية: هل تتوفر المؤسسة الملكية في العهد الجديد على مستشارين أكفاء يعول عليهم لإيصال هذه الأوراش الهيكلية العملاقة إلى غاياتها المرجوة؟
لن نجيب، لكن فقط نشير إلى ظاهرتين سلبيتين:
- الأولى: معضلة تعثر إنجاز عدد لا بأس به من المشاريع التنموية التي دشنها الملك محمد السادس، خاصة على صعيد أقاليم الشمال، ومنها مشروع المدن الجديدة، ومشروع الميناء الترفيهي لطنجة-المدينة، وكذا برامج التنمية الحضرية لمجمل المدن المغربية تقريبا (!!).
- الثانية: ما رافق إنجاز ميناء طنجة المتوسطي (11 مليار درهم) من خروقات، تمثلت في التزوير على صعيد نزع ملكية أراضي الفلاحين، التي سبق للنائبة البرلمانية فاطمة بلحسن (عن حزب العدالة والتنمية) أن فضحتها على الملأ (!!).
نتساءل أيضا دون خلفيات: لماذا اقتصر الترويج لهذه المشاريع الكبرى على ما هو إعلامي فقط، ولم ينعكس على ما هو ثقافي وفني، ويجري تبنيه من قبل النخب الثقافية والفكرية والأكاديمية؟
نترك الإجابات الممكنة والمحتملة للقراء.
* شعبية الملك في مخيلة الشعب:
في كتابه "الملكية في مغرب العهد الجديد" (2009)، يقول الأكاديمي محمد زين الدين ما يلي:
»تتمركز المؤسسة الملكية في موقع مركزي داخل الحقل السياسي الوطني، ليس فقط بحكم وضعها الروحي والدستوري، بل أيضا بفعل حضورها في مخيلة الشعب، وبفعل مشروعية الفعل والإنجاز، التي أمست تركز عليها بقوة المؤسسة الملكية، خصوصا في المجالات الاجتماعية«.
إن هذه القولة تحيلنا على الصفة الأكثر التصاقا بالملك محمد السادس، وهي كونه »الفاعل الأوحد في الساحة السياسية الوطنية«، وهي الفاعلية التي يدعي بعض الحزبيين، الذين لم يعد لهم وجود في الشارع أو وسط المجتمع المغربي، أنها (تقزم دور الأحزاب)، فيما يذهب آخرون إلى أن هذه الدينامية (تلغي دور ومهام أعضاء الحكومة)!!.
في واقع الأمر، إن الملك محمد السادس يبدو بالفعل هو (الفاعل الأكبر) في الحياة السياسية الوطنية، بدليل الحيثيات التالية:
- ظهور الملك في الشارع العام يعطي انطباعا جيدا وإيجابيا لدى المواطنين الذين يستشعرون أن الملك معهم وبقربهم.
- الملك يقود سيارته بنفسه، ويحترم قانون السير، ويقوم بزيارات مفاجئة للأحياء مطبقا بذلك سياسة القرب.
- اتساع خارطة تنقلات الملك، التي تشمل مجموع التراب الوطني، تسمح له بالاطلاع على أحوال الشعب، ومصافحة المواطنين العاديين، الذين تحمل لهم زياراته مشاريع اجتماعية واقتصادية. - إن الملك محمد السادس، لا يقضي بالعاصمة الرباط سوى أيام معدودات، فهو دائم التنقل بين المناطق، ويحظى باستقبالات شعبية كبيرة وتلقائية، (ليست من تدبير السلطة!!)، ويطلق عليه المغاربة "ملك الفقراء"، وما يزال المغاربة يتذكرون حين صمم الملك على الإقامة في خيمة بالحسيمة أثناء الزلزال الذي ضربها سنة 2004. في هذا السياق، قال الملك محمد السادس لمجلة "باري ماتش" الفرنسية، بتاريخ فاتح نوفمبر 2011:
«أريد أن أطلع على الأمور ميدانيا بنفسي، وأن أقف على واقع بلادي».
وحين بدأ ربيع الثورات العربية في الامتداد، مغربيا وفي المشرق، وبعد تأسيس حركة شباب 20 فبراير 2011، التي رفعت مطلب التعديل الدستوري، استجاب الملك محمد السادس سريعا لهذا المطلب، ودعا في خطابه التاريخي ليوم 9 مارس 2011 إلى إخضاع دستور 1996 لتعديل جوهري وهو ما تم في استفتاء فاتح يوليوز 2011.
إن كل الحيثيات التي أشرنا إليها، تؤكد تسلح الملك محمد السادس بإرادة الإصلاح والتغيير، وتبنيه لرهانات تأسيس مغرب جديد يطمح إلى الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، في ظل دولة المؤسسات.
هنا تؤكد جريدة "صوت الشمال الاقتصادي" أن القلة من الأصوات التي ترتفع منادية أسس الحكم في المغرب، هي أصوات نشاز في المعزوفة الحقيقية التي تبرز الإجماع الوطني المحكم على المؤسسة الملكية، المتمثلة في شخص الملك محمد السادس ضامن الأمن والاستقرار في ربوع المملكة، وقائد تنميتها في كل المجالات.
* المفهوم الجديد للسلطة:
في 7 ماي 1997، أي قبل رحيلة بسنتين (1997-1999)، قال الملك الحسن الثاني قولته الشهيرة:
«إن الحريات يجب أن تسود، ولا يجب أن تسود الفوضى».
وبعد سنة واحدة من حكمخ، أي سنة 2000، تبنى الملك محمد السادس خيارا جديدا للممارسة المرتبطة بالسلطة، أطلق عليه اسم:
"المفهوم الجديد للسلطة"، وهو يندرج في إطار مشروع أكبر وأشمل، هو "مشروع المجتمع الديمقراطي الحداثي«.
وحدد الملك محمد السادس، في السنة نفسها (2000)، مضامين ومحتويات هذا المفهوم الجديد للسلطة، وذلك في خطاب عيد العرش ليوم 30 يوليوز سنة 2000.
يقول الملك محمد السادس في هذا الخطاب:
»أعطينا مفهوما جديدا للسلطة، يجعلها ترعى المصالح العمومية، وتدبير الشؤون المحلية، وتحفظ الأمن والاستقرار، وتسهر على الحريات الفردية والجماعية، وتنفتح على المواطنين في احتكاك مباشر بهم، ومعالجة ميدانية لمشاكلهم، وإشراكهم في هذه المعالجة«.
المفهوم الجديد للسلطة، الذي سعى إلى تجاوز الممارسات السلبية للسلطة الترابية، وإعطائها صورة جديدة من شأنها أن تعيد المصالحة بينها وبين المواطنين المغاربة، لم يكتب له التحقق على أرض الواقع زهاء 11 سنة كاملة، بدليل أن أجهزة السلطة ما تزال تراكم سلبياتها القديمة، في منأى عن أي إصلاح أو تغيير فعليين، سواء على صعيد الممارسة، أو على مستوى العقليات(!!).
يمكن التدليل على ذلك من خلال الإشارة إلى الاستحقاقات الانتخابية التي مرت بالبلاد، وشهدت الكثير من التدخل السافر لأجهزة السلطة، كما يمكن الاستشهاد بممارسات السلطة (المخزن) خلال حملة الاستفتاء على الدستور المعدل (الدستور السادس في تاريخ المغرب المستقل)!!
عندما تأسست حركة شباب 20 فبراير -عبر موقع الاتصالات الاجتماعي على شبكة الانترنت "الفيس بوك"، ورفعت مطالبها المشروعة المتعلقة بمحاربة الفساد، واستقلالية القضاء، وتوقيع الطلاق بين المال والسلطة، وتكريس العدالة الاجتماعية، والقضاء على الاقتصاد المبني على الامتيازات، وتحقيق انتظارات الفئات الشابة... لم تكن أجهزة السلطة تتوفر بتاتا على أي موقف لمواجهة هذه المسيرات الشعبية الشابة، المدعومة من طرف تيارات اليسار الموحد وجماعة العدل والإحسان، ومن أجل تغطية عجزها عن المواجهة الفعلية، السياسية بالدرجة الأولى، لجأت السلطة إلى خيارين اثنين:
- الأول: الاستخدام المفرط للعصا الأمنية، التي ثبت عجزها عن وضع حد لهذه التظاهرات الحاشدة كل أسبوع(!!!).
- الثاني: اللجوء إلى أسلوب اختراق الحركة من داخلها، عبر استقطاب بعض عناصرها لتكوين حركات مضادة لها على طول الخط، ومحاولة تشتيت التحالف المعقود لشباب 20 فبراير (!!).
إن هذه الأسلوبين -كما يتضح في الواقع الميداني الملهوس- لم يكن لهما أي أثر يمكن تسجيله بخصوص إنهاء هذه المظاهرات الأسبوعية، التي أضحت تقليدا عاديا بفعل التكرار والإصرار معا (!!).
كان الملك محمد السادس أكثر حكمة، حين تعامل مع حركة شباب 20 فبراير بأسلوبين متميزين.
- الأول: حسن الإصغاء للمطالب المرفوعة من قبل الشباب، وهي في معظمها مطالب مشروعة لا يمكن الطعن في أحقيتها.
- الثاني: الاستجابة لأهم مطلب من مطالب شباب 20 فبراير، وهو مطلب تعديل الدستور والتوصل إلى وثيقة دستورية ديمقراطية حداثية مواكبة للتحولات التي يعرفها المغرب الحالي.
كان يمكن لأجهزة السلطة أن تحذو حذو الملك محمد السادس، وتبادر إلى اتخاذ إجراءات فعلية وحقيقية لتحقيق مطالب شباب 20 فبراير، وإنهاء حالات الاستقطاب التي تعيشها الشوارع المغربية، جراء المظاهرات الشعبية الحاشدة كل أسبوع، والتي أضحت تهدد الاستقرار الاجتماعي، وتمثل (احتقانا اجتماعيا خطيرا)!!
فمادامت المطالب التي يرفعها هؤلاء الشباب هي مطالب مشروعة، فلماذا تضييع الوقت في (المناورات والدسائس)، عوض وضع جدولة زمنية لتحقيق هذه المطالب وإنهاء الاحتراب في الشارع العام؟!
* ازدواجية المعايير عند النخب:
ازدواجية المعايير في المغرب الجديد، على صعيد الموقف السياسي، أضحت قاعدة ثابتة، فلم نعد نعرف -نحن المواطنون- الأبيض من الأسود في صخب المواقف السياسية، سواء تلك التي تدعي الانحياز إلى مطالب شباب 20 فبراير، أو تلك التي تتستر وراء العمل مع أجهزة السلطة، لتحقيق أجندتها (!!).
لن نتحدث هنا عن الإعلام والأحزاب السياسية، لأننا سنخصص لهما -في جريدة "صوت الشمال الاقتصادي" لاحقا- حيزا خاصا، بل سنشير إلى دور المثقف في هذا الحراك السياسي الراهن، الذي وضع المغرب في (دائرة الرصد الدولي)، وجعل منه مصدرا للأخبار على صفحات الجرائد والمجلات العالمية.
النخب الثقافية - بالمعنى الواسع لمفهوم الثقافة- ليس لها أي دور في توعية المواطنين لإدراك حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمتين أواصر انخراطهم في التحولات الراهنة.
- بعض المثقفين اغتربوا عن واقع مجتمعهم، ولم يعد يربطهم ببلادهم سوى شهادة الميلاد، وجواز السفر (!!).
- صنف آخر من المثقفين انحازوا كليا إلى السلطة، وأصبحوا قفازات في يدها، يأتمرون بأمرها، ويسيرون في ركابها (!!).
- مثقفون من صنف ثالث يمسكون العصا في الوصط، وهم مع كل من ينتصر »الله ينصر اللي صبح« (!!).
والقلة النادرة من المثقفين، وهي في طريقها إلى الانقراض، ماتزال تسعى جاهدة لقيادة شعبها نحو المعرفة والاستنارة والوعي بما للمواطنين من حقوق وما عليهم من واجبات (!!).
في خضم ذلك، أو بسبب ذلك، تبدو البلبلة السياسية، والاحتقان الاجتماعي، والفراغ الثقافي، في عوامل أساسية تغذي ما يشهده المغرب حاليا. وهو يحتفل بالذكرى الثانية عشرة لاعتلاء الملك محمد السادس عرش المملكة، من مظاهر يصعب التكهن بمآلاتها، سواء في حاضرنا، أو إبان المستقبل المنظور.