المشكلة لها وجهان رئيسيان : الوجه الأول يتمثل في شركة أمانديس التابعة لفيوليا المغرب والتي وقعت مع الجماعة الحضرية لطنجة عقد التدبير المفوض للماء والكهرباء سنة 2001 ثم انضاف إليهما التطهير السائل فيما بعد. والتي أصبحت حاكمة بأمرها في مدن الشمال معظم الرؤساء السابقين للمقاطعات وخاصة بطنجةالمدينة موظفون بالشركة ومنهم من لايزال إلى هذه اللحظة موظفا شبحا بالشركة ويستفيد من امتيازات عدم أداء الماء والكهرباء وغيرها من الخدمات، مما أطلق يدها لنهب جيوب المواطنين بدون حسيب أو رقيب. الوجه الثاني يتمثل في الزيادات التي قررتها الحكومة في سعيها لإنقاذ المكتب الوطني للماء والكهرباء من الإفلاس واعتماد الفوترة الانتقائية التي تساهم الشركة بعدم قراءتها للعدادات بشكل منتظم في وصول المستهلكين للأشطر المرتفعة حتما. أطلق شرارة الاحتجاجات سكان حي بير الشفا القريب من بني مكادة معقل الاحتجاجات الدائم يوم الجمعة 9 أكتوبر بعد 4 أيام من الانتخابات الجماعية، ومباشرة بعد إعلان اكتساح العدالة والتنمية للمجلس الجماعي للمدينة ومقاطعاتها الأربعة. بدأت بكبار السن والنساء قبل أن يلتحق بها الشباب والنشطاء الشيء الذي يعكس حجم الضرر الذي يعانيه الناس. أثبت الأحداث أن مغرب ما بعد 2011 يختلف تمام الاختلاف عما قبله، فجمع الناس حول مشكل من مشاكلهم أصبح أمرا يسيرا، والوقوف في وجه رجل السلطة أصبح أمرا عاديا، وتنظيم الوقفات ورفع الشعارات وقيادة المسيرات أصبحت مهارات يمتلكها الكثيرون، والكل أصبح صحفيا يهتم التوثيق والتصوير والنشر، وارتفع الوعي بحيث بدأ الناس يفرقون بين المحتجين الحقيقيين وبين من يريد الركوب من المتحزبين، كما أصبح من يدفع للتخريب والعنف منبوذا من الجميع، والعجيب أن المحتجين في طنجة أصبحوا من الذكاء بحيث يكتشفون بسهولة كل مندس يسعى لتوتير الأجواء ورفع سقف المطالب.. اضطرت وزارة الداخلية للعب جميع أوراقها وبقوة دفع كبيرة، استخدمت في البداية الأعوان والمقدمين والقياد دون جدوى - في بير الشفا الباشا وسط المحتجين يستجدي الحوار ولا مجيب- بل نزل والي للجهة ليصلي الجمعة مع الناس مؤخرا. لم ينفع التهديد فاستعملت الإغراء بالتشغيل وبمكان في السوق وبالتسجيل في "راميد" وغيرها من الوعود. واضطرت باستعمال ما أطلق عليه النشطاء "جمعيات الإخماد الوطني" وهي خليط من جمعيات الشكارة وجمعيات المبادرة وجمعيات "الكاشي" لكن ضغط الوقت جعل الإخراج سيئا وجاءت البيانات متشابهة فسميت بيانات "كوبي كولي" فحرمت نفسها من محاور قد يتمتع بمصداقية في المستقبل مما سيضطرها للحوار مع الجمعيات المناضلة والقادة الحقيقيين في الميدان. تطور في وعي الشعب قابله ضمور للعمل الحزبي وعجز كبير للأحزاب في تأطير المواطنين، باستثناء الحزبان الرئيسيان مع اختلاف في طريقة عملهما والشرائح المجتمعية التي يستقطبانها، و يمكن تقسيم الأحزاب والتيارات السياسية في مدن الشمال وفي طنجة على وجه الخصوص وتأثيرها في الأحداث إلى أربع مجموعات أساسية : * حزب المصباح فاجأته الأحداث وهو المنتصر حديثا في الانتخابات فشارك بعض أعضاءه في بداية الاحتجاجات انسجاما مع مواقفه السابقة من الشركة وتضامنا مع شريحة بشرية معظم من شارك منها في الانتخابات أعطى صوته له، تحت سقف إبلاغ صوت المحتجين للمجلس الجماعي وإعطاء هذا الأخير المبررات لاتخاذ بعض الإجراءات في حق الشركة. لكن ضعف الحنكة السياسية لقيادييه وتدبدب مواقفهم أفقدته كثيرا من سمعته بالمدينة، عمل النشطاء ووسائل الإعلام على التركيز عليها وإبرازها بدء باتهام المحتجين بالتشويش على الزيارة الملكية واتهامهم بالدواعش ومرورا بالتغطية على التدخل الأمني وانتهاء بالانخراط في الحملة التي يقودها القياد والمقدمون لكف الناس عن التظاهر.. * حزب الجرار والأحزاب "الإدارية" التي تدور في فلكه كلما كان في موقع التسيير وتنفض عنه في حالة إخفاقه في ذلك، حاول أن يستغل الأحداث ويسجل نقاطا على الحزب المسير للمدينة مستغلا حداثة تجربته وضعف الخبرة لدى أطره التي وجدت نفسها أمام ملف شائك - لم تتضح لها تشعباته بعد وهي ما تزال في فترة تأسيس المكاتب واللجان - يفوق قدرتها على الفعل. فطالب بفسخ العقد مع الشركة تفعيلا لقرار اتخذه المجلس السابق وتضامنت قياداته مع المحتجين وأعلنت امتناعها عن أداء الفواتير، وحرك آلته الإعلامية الورقية والإلكترونية وغيرها، وحرك الشرائح البشرية التي تشتغل معه في الحملات الانتخابية. لكنه سرعان ما تراجع بعدما بدأت الاحتجاجات تكبر وتتطور ولاح في الأفق أن تدجينها أمر بعيد المنال عبر بيان رسمي دعا لوقف الاحتجاجات وإعطاء الفرصة للجنة الداخلية كي تصلح الأوضاع. * التيارات اليسارية كانت حاضرة في الاحتجاجات في بعض المواقع (بير الشفا. بني مكادة. ساحة الأمم) من خلال نشطاء حركة 20 فبراير وحركة أطاك، وساهمت إعلاميا في وصول صوت المحتجين بشكل قوي، مع تسجيل غياب كبير لأحزاب "الكتلة الوطنية" التي يبدو أن وجودها بالمدينة ضعف بشكل كبير تجلى في الانتخابات الجماعية بوضوح. * جماعة العدل والإحسان التي أصبح الجميع مؤخرا يشير إلى دورها في تأطير الاحتجاجات وتأجيجها يصعب أن تجد مصدرا قياديا محليا يتحدث عن الاحتجاجات أو يعبأ لها، وحتى المواقع الإلكتروني المقربة منها تتعامل مع الأحداث من زاوية إخبارية مهنية، لكن مجيء رئيس الحكومة للمدينة وتلميحه لدور الجماعة في تحريك الاحتجاجات و التهديد المبطن لوزير الداخلية أخرج أحد قيادييها البارزين في المدينة وممثلها في التنسيقية المحلية الداعمة لحركة 20 فبراير في السابق عن صمته في تدوينة بصفحته على الفايسبوك يوم 2 نونبر تحت عنوان "لا تفتنوا طنجة عن مطالبها" ملخصها أن الحراك أفقه إصلاحي و يتميز بعدم التسييس. ويبدو أن الجماعة استفادت كثيرا من تجربة 20 فبراير السابقة، فهي تستغل نقاط قوتها بشكل جيد واستطاعت تجاوز معوقات التجارب السابقة - استغلت تغلغلها في الأحياء الشعبية وثقة الناس في أعضائها فنقلت إليها الاحتجاجات، لذلك نجد جل المسيرات تخرج من الأحياء الشعبية. - استغلت كثرتها العددية فأبقت قياداتها المحلية المعروفة بعيدة عن الملف، لذلك قلما تجد صفحة من صفحات قيادييها في مواقع التواصل الاجتماعي يعبأ أو يدعو للتظاهر والاحتجاج. - تركت لأطرها الفاعلة في الميدان مجالا واسعا للتحرك بسقف الميدان، لذلك لم يرى أعضاءها حرجا في وجودهم مع متظاهرين يرفعون شعار " يا ملك الفقرا اجمع علينا الشفارا" وشعار "عاش الملك تسقط أمانديس". شعارات غالبا ما ترفع في وجه قوات الأمن عندما تهم بتفريق المحتجين وقمعهم، كدرع واقي يحرجون به من يعطي الأوامر بالضرب يعبر في عمقه عن ذكاء شديد للمحتجين. - لم تحاول الركوب على الاحتجاجات على شاكلة حزب الجرار أو بعض القيادات اليسارية، فهي تعلم علم اليقين أن السلطة تنتظر هذه الخطوة بفارغ الصبر لتبرير أي إجراءات قمعية تنوي القيام بها، وتركت الباب مفتوحا لمن يريد الركوب أو تبني الاحتجاجات لاعتقادها بأن كل فعل من هذا القبيل يصب في مصلحة المحتجين ويكبل صاحبه مستقبلا إذا أراد النزول من المركب. من خلال استقرائنا السابق لمسببات الاحتجاج و مساهمة الأحزاب والتيارات السياسية فيه يمكننا أن نخلص إلى ما يلي : * الاحتجاجات بدأت عفوية وهي تنتظم يوم بعد يوم ميدانيا وفي الفضاء الافتراضي والوقت يلعب في صالحها.. * انطلقت تركز بأصبعها على شركة أمانديس وسرعان مع وصلت الشعارات للمجالس الجماعية السابقة والحالية وانتقلت للسخط على الحكومة باعتبارها المسبب الرئيسي للغلاء وهي تتطور في اتجاه المساهمين الحقيقيين في رأس مال الشركة.. * بدأت بمدينة طنجة وسرعان ما عمت مدن الشمال التي تشتغل فيها الشركة، وهي تنتشر بباقي المدن المغربية بالتدريج * بدأت شعاراتها تترجم إلى مطالب محددة يجري نقاش واسع حولها، يقطع الطريق على الحلول الترقيعية والإجراءات الالتفافية التي لن تصمد كثيرا مع الزمن. لا يدري أحد هل سيقف المحتجون عندها أم سيساهم تعنت السلطات في رفع سقف المطالب خاصة إذا عادت حليمة إلى عادتها القديمة واستعملت القوة واعتقلت المحتجين وقد بدأت الإرهاصات الأولى باستدعاء بعض النشطاء مؤخرا. وفيما يلي مطالب عشرة حددتها بعض الصفحات النشيطة في هذا المجال : 1. حذف الإتاوات الثابتة 2. إعادة النظر في نظام الأشطر للاستعمال المنزلي والمهني و ذلك ب: * إلغاء الفوترة الانتقائية و اعتماد الفوترة التدريجية * الزيادة في الحجم المقدر للأشطر ( 150كيلو واط للكهرباء و 10متر مكعب للماء) * تخفيض ثمن الأشطر للاستعمال المهني 1. تحديد ضريبة السمعي البصري في قيمة ثابتة , 2. قراءة العداد في التوقيت المحدد في ظرف 30 يوم . 3. تخفيض ثمن الربط الأولي 4. إشراف لجنة تقنية تابعة للمجلس الجماعي على برمجة العدادات وتشميعها قبل دخولها الخدمة 5. إيقاف العمل بمنظومة الخطأ الإيجابي 6. تقليص ضريبة القيمة المضافة على الأشطر الاجتماعية. 7. القطع مع سياسة خلص عاد اشكي 8. فتح تحقيق في سبب الخروقات السابقة و متابعة جميع المسئولين عنها فيما يبقى مطلب رحيل أمانديس يحضى بالأهمية القصوى لساكنة الشمال لكنه جزء من الحل فقط يوم السبت 7 نونبر كان بداية تحول أساسي في مسار الاحتجاجات، فقد أعطاها رئيس الحكومة وعيا بالذات الجماعية "طنجاوة. الشماليين..". وإحساسا بالاحتقار "مريدي الفتنة. ردوا الجميل.!.". و يعطيها العدو المشترك المجمع عليه "أمانديس" والتجارب السابقة معه والتي نكث فيها بجميع وعوده والتزاماته دافعا أساسيا. كما أعطاها نجاحها في تحدي قوات الأمن إحساسا بالقوة والقدرة على الصمود، فبدأت تسمع " بير الشفا رجال". "طنجاوة متحدين". "لا ثقة في أمانديس" كل هذا يؤهلها لأن تكون منطلقا لاحتجاجات قد تتطور وتستمر.