أحمد حلواني (*): يعدّ مضيق جبل طارق بين البحر المتوسط والمحيط الأطلسي، من المضائق البحرية المهمة، بسبب أهمية الجهات التي يصلها، والبلدان التي تشرف عليه أوروبياً من الشمال، وعربياً أفريقياً من الجنوب، وبسبب الصراعات التاريخية الكبيرة التي شهدتها سواحله للسيطرة عليه والتحكّم بالسفن المارة فيه، ما شكّل صراعات وعذابات قاسية للمدن المطلة وسكانها. وإذا كنّا نستذكر باستمرار فتح الأندلس خلال مرحلة الفتح الإسلامي وبطولة طارق بن زياد وعقبة بن نافع وبراعتهما في التخطيط والشجاعة، فإن استعراضاً لتاريخ بعض سواحل هذا المضيق تقدم فكرة عن العذابات التي أشرنا إليها، والتي لا تزال قائمة ومستمرة حتى الآن، الأمر الذي تمكن تسميته المدن أو المناطق الضائعة بين أصولها وهويتها ومحتليها وتبعيتها السابقة أو اللاحقة. من هذه المدن مدينة سبتة المغربية والتي لا تزال تشّكل حالة شاذة ضمن التراب المغربي مع شقيقتها، مليلية، من حيث تبعيتها للحكم الإسباني، كما هي حال منطقة جبل طارق في الجانب الإسباني من المضيق وتبعيته للتاج البريطاني. تقع مدينة سبتة على الساحل المغربي للبحر المتوسط مقابل مضيق جبل طارق، إلى جانب تطوانوطنجة، وتمثّل لساناً برّياً متوغلاً في البحر الذي يحيطها من جهاتها الثلاث، بحيث تشكّل شبه جزيرة، وهو ما يمنحها مناعة خاصة من حماية بحرية، وجوار أخوي صديق، يؤصّل هويّتها المغربية والإسلامية، إضافة إلى كونها أقرب نقطة إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، وهو ما جعل الإسبان والبرتغال يحرصون باستمرار على احتلالها حماية لهم، وسيطرة على مضيق جبل طارق وإبقائها تابعة لإسبانيا حتى هذا التاريخ، على رغم انتهاء العصور الاستعمارية وحالة العداء المغربية - الإسبانية. في نظرة سريعة إلى تاريخ هذه المدينة، نقف على احتلالها من الدولة البيزنطية ومن ثمّ القوطيين الفرنج، وصولاً إلى الفتح الإسلامي في العصر الأموي، حيث فتحت صلحاً مع أوليان ومن ثمّ تداول السلطة بين الأندلسيين خلال الدولة العامرية والموحدين والأدارسة والمرابطين، وثورتها ضدّ الموحدين بزعامة القاضي عيّاض. منذ القرن السادس الهجري، الثاني عشر الميلادي، أصبحت مركزاً حضارياً بالشمال المغربي، وقد انتبه الموحدون من خلال نظرتهم الثاقبة إلى أهمية سبتةوطنجة، وفي هذا يقول ابن خلدون: «كانت هاتان المدينتان مذ أوّل دولة الموحّدين، من أعظم عمالاتهم وأكبر ممالكهم، بما كانت ثغر العدوة، ومرقى الأساطيل، ودار إنشاء الآلة البحرية، وفُرضة الجواز إلى الجهاد، فكانت ولايتها مختصة بالقرابة من السادة عبد المؤمن». وقد عَرفت سبتة ثوراتٍ وانقلابات ضد ولاتها، بحكم اختلاف انتماءاتهم القبلية وسياساتهم من أهاليها، ومنها ثورة الحفصيين بقيادة أبي زكرياء الحفصي، وأبو القاسم العزفي، ضدّ ابن خلاص والي الرشيد سنة 640 للهجرة، بحيث أصبحتا، (سبتةوطنجة)، تحت حكم الحفصيين من دون التخلي عن الولاء للسلطة المغربية والتبعية للحكم الموحّدي، في ظل استقلالٍ ذاتي، لبقاء السيطرة الحفصية مستمدة الشرعية من الخلافة الموحّدية. هكذا، بقيت سبتة ومعها طنجة في حالة متأرجحة بين سيطرة وأخرى سواء من حكام الأندلس أو المغرب. وقد اشتهر عن أهل سبتة، وفق ابن الخطيب، حرصهم على استقلاليتهم الإقليمية، كما اشتهر عنهم نشاطهم الاقتصادي والتجاري في شكل خاص بحيث كان تجّارهم وسطاء تجاريين أكثر منهم منتجين، بحكم الموقع، وعدم كفاية مساحة سبتة للإنتاج الزراعي، فكان أسطولها البحري ينقل البضائع المغربية والأفريقية إلى التجّار الأوروبيين، عبر تجّار الجمهوريات الإيطالية القريبة منهم في شكل خاص، أو بواسطتهم مباشرة. كما كانوا يستوردون المنتجات الأندلسية والمتوسطية الأوروبية إلى المغرب ومنها إلى أفريقيا، ما ساعد على ازدهار المنطقة وتحسين دخل أهلها، الأمر الذي زاد حرصهم على المحافظة على استقلالية إدارتها وحكمها الذاتي. يؤكّد لسان الدين بن الخطيب صفات سكان سبتة بقوله: «يتّصف سكانُ سبتة في الاقتصاد بالنفقة والتقتير، وحبّهم الشديد لبلدهم». ويشيد باستقامتهم في التعامل بالأسواق، كما ينوّه بكثرة أسماك سواحلها (بحكم لسانها الممتد بالبحر، والذي يشكّل حماية وخليجاً لبيوض السمك وتكاثره). كما يتحدث عن دور المدينة ومنطقتها باستقبال قوافل الحرير والكتان والخمر، الذي يطلق عليه العصير (ينظر ابن الخطيب، في معيار الاختيار. تحقيق د. كمال شبانة، طبعة المحمدية بالمغرب 1977). المدارس الثقافية في سبتة شهدت سبتة بعد دخولها الإسلام نشاطاً ثقافياً وعلمياً واسعاً، بعد أن كان نشاطها مقتصراً على التجارة البحرية في شكل خاص. ويلاحظ أنّ الإسلام بثقافته المنفتحة التي حملها إلى ديار الفتح أثّر تأثيراً كبيراً، لا سيما مع بداية العصر المرابطي الذي كان شيوخه أساتذة بدايات عهد الموحدين، على مدرسة القاضي عيّاض ومعاصريه (وفق د. إبراهيم حركات في دراسته عن أوضاع سبته أيام إمارة بني العزفي). ولعلّ مدرسة الحديث، كانت المجال الأرحب في الاهتمام عند علمائها وطلابها وفق اتجاهاتٍ وطرائقَ ثلاث انتشرت في المدينة: 1- مدرسة الحديث وفق الفقه المالكي، ومن أشهر علمائها ابن رشيد الفهري، وعبدالمهيمن الحضرمي. 2- مدرسة علوم اللسان، يصف لسان الدين بن الخطيب سبتة بأنها «مدينة علوم اللسان». ومن أشهر أعلام هذه المدرسة محمد القلوصي، ومحمد الشريف الحسني الذي شرح مقصورة حازم القرطاجني الأندلسي. وكذلك الجغرافي محمد بن عبدالمنعم الحميري صاحب «الروض المعطار». 3- أمّا المدرسة الثالثة فهي مدرسة الأدب، والتي قدّمت آداب المقاومة والمولّديّات، والترسّل بأنواعه المختلفة، والتي ساهمت إمارة بني العزفي في تنشيطه وانتشاره (وفق د. حركات في دراسته عن إمارة بني العزفي). ومن أشهر أدباء هذه المدرسة، مالك بن الرحل، وفق ابن الخطيب في الإحاطة بأخبار غرناطة. اضطلعت سبتة بدور مهم كمركز استقطاب حضاري وعلمي للأندلس والمغرب الكبير بسبب اهتزاز وضع الأندلس خلال حروب «الاسترداد» وفقدان استقرارها في مراكز إشعاعها بقرطبة، وإشبيلية وغرناطة وغيرها، الأمر الذي حمّل سبتة مسؤولية الإشعاع الحضاري الإسلامي، فتحملته بجدارة واندفاع واستطاعت أن تكون مركز استقطاب وإشعاع للمغرب الكبير كله، بحكم ازدهارها الاقتصادي، وأساتذتها البارزين الذين توافدوا إليها من أنحاء البلدان المغاربية، بخاصة من تلمسان إضافة إلى الأندلس. ومما يجدر ذكره أيضاً أنّ الكثير من حكام سبتة، كانوا على مقدار عال من التكوين الثقافي والعلمي يتّصفون بذوق أدبي رفيع، إضافة إلى إجادة باللغة ومعرفة بصحيح الحديث. سبتة تحت الاحتلال منذ سقوط الأندلس، ومع بداية العلاقات البريطانية - البرتغالية عبر مصاهرة بين الملك تشارلز الثاني، والأميرة كاتالانيا أخت الملك البرتغالي، والتي قدّمت له مدينة طنجة المغربية هدية لزواجها! ومع التحالف الإسباني - البريطاني، وصولاً إلى بدايات القرن العشرين، والاتفاق البريطاني - الفرنسي، في إطار مسلسل اتفاقات ضمان المنافع الاستعمارية، تمّ تفاهم على تبادل المنافع حول المضيق فثبتت بريطانيا وجودها في الجانب الإسباني من المضيق، مقابل تثبيت الوجود الإسباني في الجانب المغربي، لا سيما في سبتة بحكم كونها مركزاً تجارياً وجغرافياً استراتيجياً مهماً. إنّ سقوط الأندلس نتيجة ضعف الدولة العربية الإسلامية وتفكّك وحدتها، مع بذور الفرقة والأنانية، وفقدان قيادة ذات فكر سياسي ثاقب وحكيم، جعلت من الأطماع الاستعمارية الأوروبية، واقعاً مستمراً حول مضيق جبل طارق، على رغم انتهاء الحقب الاستعمارية، ودخول العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، مرحلة تفاهم دولي جديد، عادت بفضله طنجةالمدينة المغربية الساحرة، والتي كانت تحت الوصاية الدولية، إلى أحضان وطنها الأصلي. لكن سبتة ومعها مليلة بقيتا تحت السيطرة والتبعية الإسبانية، كما بقيت منطقة جبل طارق في المنطقة الإسبانية تحت سيطرة التاج البريطاني. إنّ أحداً لا يستطيع إنكار تبعية سبتة وانتماءها المغربي، ليس في جانبه الجغرافي والسكاني فحسب، وإنما في جانبه الثقافي والحضاري أيضاً. لقد كانت سبتة الجسر الرابط بين شقي الجسد الواحد في الأندلس والمغرب الكبير، وشكّلت المثال الواضح للمدينة التي طوّرها الإسلام بانفتاح حضاري، فأنتجت تراثاً حضارياً كبيراً، أظهر الشخصية المغربية والأندلسية في توهّجها الثقافي، وفي خدمتها للثقافة الإسلامية، لا سيما في خدمة السنّة النبوية، إضافة إلى عناية علمائها وأدبائها بتنوّع المعارف والعلوم فيها، وبالجانب النقدي وبالأبحاث اللغوية، وبالشروح على المتون العلمية والأدبية، والتصرّف بألوان البديع، وإخضاع الشعر لقيوده وفنونه (وفق محمد الدباغ في مجلة المناهل). إضافة إلى علاقات تجارية وتبادل وتعاون مع موانئ البحر المتوسط في جانبه الأوروبي كانت سبباً في ازدهار اقتصادي، واعترافاً باستقامة وصدق، ومهارة تجار سبتة وملّاحيها. قدّمنا استعادة سريعة لتاريخ سبتة ومكانتها في التاريخ المغربي والإسلامي. وإذا كانت الظروف السياسية القائمة لا تزال تظلّل بخيمتها الاستعمارية السابقة الشاطئ المغربي للمضيق، فإن سبتة ومعها مليلة ستبقى مغربية بثقافة إسلامية، على رغم التبعية الحاليّة، وعلى رغم العلاقات المغربية - الإسبانية الجيدة في أكثر الأوقات بحكم الجوار وأهمية التعاون المغاربي الأوروبي في ظل السياسة الدولية الجديدة أو المأمولة، مشيرين إلى المحاولة الإسبانية في احتلال جزيرة ليلى الصخرية، والدفاع المغربي عنها، والتي كادت تدهور علاقات حسن الجوار التي يتم بناؤها لولا التعقّل والحكمة المتأخرة. إنّ حلاً سياسياً لا بدّ من الوصول إليه، ولو أنّ انشغال المغرب في الإشكال الصحراوي يشكّل سبباً رئيسياً في إعاقة هذا الحل الذي يمكن الوصول إليه بحلٍ تفاوضي رضائي أخوي، في ظل تفعيل دور الاتحاد المغاربي، ليعطي للأسرة المغاربية قوّة وفاعلية تستطيع إثبات حضورها وفاعليتها الوطنية والإقليمية المتوسطية والأوروبية والدولية.