نحن الآن مع أجواء رمضان لعام 1415 هجرية الموافق ل فبراير 1995، اعتدنا التوجه إلى مسجد “الحومة” لأداء الصلاة رفقة الأب، العم، والخال والجد في معظم الأحوال ونحن أطفال صغار، نؤديها مرة كل جمعة ومرات في أيام الأسبوع. وكلما حل شهر رمضان، إلا وكانت لنا طقوسنا الخاصة في ارتباطنا بالمسجد، فإن لم نجد إلى صلاة الصبح سبيلا (طريقا)، انتظرنا حتى أذان العصر لتأدية الواجب أي وبعدها تلاوة ما تيسر من القرآن جهرا بشكل جماعي بصيغة مغربية جميلة جدا. الأذان هو محدد الزمن في علاقتنا بالمسجد، فالساعات “الماركة” لم تكن متاحة كما هو الحال اليوم، ولم تكن هناك هواتف نقالة تحدد مواقيت الصلاة وغيرها، أذكر أنه في أواخر الثمانينات ظهرت في الأسواق ساعة يدوية بسيطة ثمنها لم يكن يتعدى ال 12 درهما، مرقون عليها شعار أحد أنواع السجائر الأجنبية وحزامها أسود لا لون غيره، وطبعا لم تكن تمضي تلك الساعة في أيدينا سوى أيام معدودة فتتحول إلى المتلاشيات بعدها ..”. تنتهي الصلاة، يحمل كل من مصحفا بين يديه، يتأخر طويلا في البحث عن الصفحة المطلوبة ولا نتمكن من مجاراة إيقاع الكبار إلا بصعوبة، “علاش؟، حيتاش ما كناشي عارفين أن ما يتلوه الكبار من أحزاب مرتبط بأيام الشهر، فبعد صبح اليوم الأول يتلى الحزب الأول وبعد عصر يومه يتلى الحزب الثاني”، غابت عنا هذه المعلومة، معظمنا كان يتلو دون الانتباه إلى علامات الترقيم في الصفحات وغير ذلك، فنقرأ دون أن نعرف أين نقف، لا ندرك معنى الإقلاب ولا الإدغام ولا المد .. نقرأ لروحانية الأجواء المعاشة حينها، نقرأ محاولين تقليد الكبار فيما يصنعون .. مرة، وبينما نحن نهم بدخول المسجد، اعترض سبيلنا رجل كهل بقوله: “مشيوا فحالكم كتجيوا ن الجامع بلا وضوء” ! طبعا، الرجل كان مخطئا لأنه حتى وإن لم نكن نجيد الوضوء ب “قواعدو” (الأركان والسنن) في سن مبكرة، إلا أنه لم يثبت أن دخلنا مسجدا دون مرور الماء على وجوهنا وأيدينا وأرجلنا ..تملكنا شعور شبيه بالصدمة ونحن نسمع الرجل ينهرنا بتلك الطريقة، بدا لنا مع محدودية وعينا وإدراكنا كأنه حول المسجد إلى ملكية خاصة، يسمح لمن شاء ويمنع الدخول على ما يشاء .. وبينما كنا نحاول استيعاب الموقف، تدخل رجل يبدو طاعنا في السن، وعلامات النور متبدية في ملامحه عكس الرجل “متجهم الوجه” (دون قصد تزكية أحد على أحد)، تدخل قائلا: “خلي الصبيان ما عليك، هادوا هوما اللي غيبقاوا يجيوا من بعدنا ن هاد الجامع، خليهم دابا يتعلموا الصلاة والوضوء وحاجات آخرين” .. اقتربنا من الشيخ الوقور، وشرحنا له بما يفيد أن ذاك “المتجهم” ليس على حق، وبأننا فعلا دخلنا المسجد بعدما توضينا، ابتسم الشيخ قائلا: “الله يرضى عليكم”…، ليتدخل رجل ثالث بقوله :” اللي ما موضيشي، يمشي ن ديك الموطع، تما الما سخون ..”، أحسسنا حينها كأن هناك شبه إجماع على إنصافنا والمصالحة معنا، في الوقت الذي كان على الجميع أن ينتظر 10 سنوات بعدها لإطلاق إنصاف ومصالحة من عيار أعمق. وضعنا “التشناكل” في الأماكن المخصصة لذلك، كانت عبارة عن نعال من المطاط صالحة لكل شيء، للمشي والجري ولعب الكرة، ومن أجل زيادة منسوب سرعتنا ندخل أصابعنا في مقدمتها في سلوك لم أفهم معناه إلى حدود يومنا هذا، قلت بعدما وجدت “التشناكل” مكانها واستراحت من شغبنا، كنا ملحين في تصرف عفوي أشبه برد الاعتبار على توجيه أنظارنا تجاه ذاك “المجتهم”، مررنا من قربه واحدا تلو الآخر، ونحن نسرنا في أنفسنا “ويالاه عٙصّٙرْ الليمون على عينك دابا”. للتواصل مع الكاتب عبر فيسبوك