– المختار الخمليشي: من يصدق أنه في يوم من الأيام، كان بإمكان أي شخص تملك هكتارات من الأراضي في طنجة، مقابل بضع سنتيمات أو بضع قوالب من السكر؟. الحديث عن ثقافة "الزهد" التي كانت سائدة عند "الطنجاويين" الأوائل، الذين عايشوا فترة اوائل القرن الماضي، لا شك أنه يتسبب اليوم في حالة من الغبن لدى أعقاب أولائك الناس، الذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. فأما الذين ما زالوا ينتظرون مصيرهم المحتوم، فلا شك أن حدة الغبن في نفوسهم أقوى مما هي عليه في نفوس أحفادهم أو أسباطهم. كيف لا وهم يشاهدون عمارات شاهقة تم تشييدها فوق أراضي كان بإمكانهم تملكها بمقابل زهيد، لا يسمن اليوم ولا يغني من جوع. لكنهم زهدوا في كل ذلك وأكثر، "وضيعوا على خلفهم فرصة تسيد هذه المدينة"، يقول لسان حال كثير من أبناء طنجة. "زهد يصيب بالغبن" في إحدى سنوات أواسط القرن الماضي وتحديدا ما بين 1956 او 1958، قرر مواطن إسباني كان يقيم في "حومة كسبراطا"، أن يغادر طنجة، في أوج هجرة الأجانب عن هذه المدينة التي فقدت الكثير من جاذبيتها بعد أفول العهد الدولي.. فطرق هذا الإسباني باب دار جاره المغربي ليقول له: صديقي (Amigo) غدا سأرحل إلى إسبانيا وسأترك لك منزلي ملكا خالصا لك، لكن المفاجأة كانت كبيرة حين أجابه المغربي بأن لا حاجة له بها لأنه يمتلك منزلا يأويه وفيه كفاية. القصة أوردها المؤرخ الطنجاوي، رشيد العفاقي، ضمن حديث له، حول موضوع "الزهد الطنجاوي"، هذه الثقافة التي لم تكن مقتصرة فقط على الطنجاويين الذين كان كل همهم، هو تدبير ما يسد رمق يومهم، ولكن حتى الذين "كانوا يلعبون بالفلوس" في تلك الفترة، كانوا متشبعين بهذه الثقافة، فأسرفوا وأنفقوا، حتى أصبحوا اليوم صفر اليدين. بحسب ما يشير إليه المؤرخ العفاقي في في حديثه مع جريدة "طنجة 24" الإلكترونية. وفي قصة لا تختلف كثيرا، ومسرحها لا يبعد كثيرا عن "كسبراطا"، يحكي العارفون بماضي المنطقة، أنه بعدما رحل "النصارى" عن حومة "علي باي" في بني مكادة، وتركوا منازلهم خاوية مفتوحة في وجه من يود تملكها، تشبث العديد من سكان المنطقة، بان من يدخل هذه البيوت، فهو "شماتة".. "لكن سرعان ما جاء من لا يخشى تبعات نعته بهذه الصفة، وتصرفوا في تلك الممتلكات، التي جعلت منهم من أغنياء المنطقة والمدينة. وهناك قصص عديدة يحكيها الكثير من شباب وكهول مدينة طنجة، يؤكدون من خلالها أن زهد ولامبالاة أجدادهم، ضيعت عليهم فرص تمكلك عقارات وأراضي في مواقع استرتيجية في المدينة. مثلما يورده الكاتب والأديب الطنجاوي، عبد الواحد استيتو، في إحدى تدويناته اليومية، أن جده " كانت تعرض عليه أراضي في منطقة إيبريا مقابل بضع قوالب من السكر، لكنه رفض تملكها بدعوى عدم حاجته إليها". "للي جابو النهار كيديه النهار " وفي تحليله لثقافة الزهد عند الطنجاويين القدامى، يبرز المؤرخ رشيد العفاقي، أن المناخ الذي كان سائدا في تلك الفترات، هو الذي جعل أسلاف هذه المنطقة يترفعون عن تلملك العقارات والأراضي، حيث كان المرء يكتفي بقوت يومه ولا يفكر في اليوم التالي.. وأن بعضهم لا يوفر - عمدا – شيئا للغد : للي جابو النهار كيديه النهار. ولم يستبعد العفاقي في حديثه للجريدة الإلكترونية "طنجة 24"، أن يكون للتربية الصوفية، دور في ترسيخ هذه الثقافة، غير أنه يستدرك أنه حتى الذين لم يتلقوا تربية صوفية من طريق الأشياخ، فإنهم كانوا يتصفون بصفة القناعة والزهد. بحيث أن الشائع هو نمط من العيش في مدينة طنجة لدى جل ساكنتها كان مطبوعا بالدعة والراحة والسكينة. ويشرح الكاتب المتخصص في تاريخ مدينة طنجة، أن الناس كان بإمكانهم الحصول على قطع أرضية شاسعة بكل سهولة إلا أن تفكيرهم لم يكن ينصرف إلى امتلاك الأراضي آنذاك، مبرزا أنه إذا وُجد التفكير في الأرض فقطعة صغيرة يقيمون عليها بيتهم. ويختم المؤرخ الطنجاوي حديثه، مبرزا أن الأزمة الإقتصادية التي خلفها رحيل رؤوس الاموال الدولية عن مدينة طنجة، قد أدى إلى ارتفاع مهول في سعر الأرضن خاصة عند بداية التسعينات، ليتضاعف بنحو 1000 مرة عن السعر الذي كان قبل ثلاثين سنة. "وهذا انعكس هذا على نفسية الناس وتفكيرهم، إذ ضيعوا أشياء حسبوها رخيصة في وقتها ولكنها مع مرور الوقت أصبحت غالية"، يقول الدكتور العفاقي.