نحن المسلمون ، نحب كثيرا التفاخر على غير من لا يشاركنا ملتنا بكون ديانتنا أولت لطلب العلم منزلة لا تضاهيها في الوجوب و التأكيد باقي الرسائل السماوية الاخرى ، كما ان صيغتها الآمرة لا تقل إلزاما عن باقي الاوامر الالاهية الواردة بالنص القراني ، ندعي ذلك و نحن نذكر دائماً بتصدر هذا الامر كل الخطاب الديني و بصيغة اجبارية متكررة ، و كذلك بالمنزلة العظيمة التي انزلها الله عباده العلماء و التي جعلتهم يقتربون من مصاف الرسل والأنبياء. الواقع ان إصرار الخطاب القراني على إيلاء العلم و طلبه هذه الأهمية الفائقة وهو الامر الذي يستشف من الآيات العديدة المنوهة به و الحاضة عليه ، أملته بالضرورة و قبل كل شيئ ، الحالة الثقافية الكارثية التي كانت تعيشها جزيرة العرب إبان نزول الرسالة المحمدية والتي أراد الاسلام، وبصورة مستعجلة ، إخراجها منها. لقد وصف ابن خلدون قاطني هذه الجزيرة آنذاك بأنهم لم يكونوا أهل كتاب و لا علم لغلبة البداوة و الأمية فيهم ، ذلك أن نوعية المعارف التي سادت بينهم كانت تتسم بالسطحية و للضرورة الوجودية المعيشية لا غير كعلم الطب ، الذي كان لهم منه ما لا عند الأوائل ، بل مأخوذ فقط من تجارب الأميين ، و علم النجوم للاهتداء به في البر و البحر ، إضافة الى علم التاريخ و أخبار الامم الماضية . سيكون هذا الواقع العلمي البئيس الذي ميز مجتمع العرب الغارق آنذاك في بداوته ، المتمايز و المتطاحن في طبقاته الاجتماعية و العشائرية ، مبررا كافيا للرسول الكريم ص كي يبحث عن كل السبل المتاحة بما في ذلك الأساليب القسرية الجبرية ، يحاول من خلالها تخليصه من ربقة الجهل و التقليص قدر المستطاع من تفشي الأمية بين صفوفه، ذكر ابن سعد عن عامر الشعبي قال : أسر رسول الله ص يوم بدر سبعين أسيرا و كان يفادي (أي يفتدي) بهم على قدر أموالهم و كان أهل مكة يكتبون و أهل المدينة لا يكتبون ، فمن لم يكن له فداء دفع اليه عشرة غلمان من غلمان المدينة يعلمهم ، فإذا حذقوا فهو فداؤه . وهناك واقعة أخرى توعد فيها الرسول ص بإنزال العقاب المادي على كل من رزق حظا من العلم و لم يفقه جيرانه ، فعن علقمة ابن سعد بن عبد الرحمان بن أمية عن جده قال : خطب رسول الله ص فأثنى على طوائف المسلمين خيرا ثم قال : ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم و لا يعلمونهم ، و الله ليعلمن القوم جيرانهم و يفقهوهم أو لأعاجلنهم العقوبة . كان حقاً على المسلمين بعد وفاة الرسول ص ان يتبعوا و يطوروا خطته التعليمية الإجبارية هاته ، و ان يحظى طلب العلم ، طبقا لما كان يطمح اليه و يخطط له ، بمركزية كبرى في نظام الدولة الاسلامية الفتية ، بل و استحق فعلا ان يكون هو كذلك مثل الصلاة و الصيام و الحج ، ركنا آخر يضاف لأركان الاسلام الخمسة ، لقد أبانت النصوص المستشهد بها قبل حين عن صرامة لا نظير لها من قبل الرسول في التعامل مع واقع جد متخلف لم يكن مجتمع نزول الرسالة ينتبه له و يكترث لخطورته و أبعاده المستقبلية قبل مجئه ، للأسف سوف تتدنى سريعا هذه الرؤية الدينية الملزمة لطلب العلم في الاسلام التي ميزت نظرة نبينا " الأمي " للمسألة التعليمية في البدايات الاولى لتشكل الثقافة الاسلامية ، سوف تتبخر معها كذلك الحظوظ المتساوية التي بشر بها الدين الجديد الطبقات و الأعراق المكونة لمجتمع الجزيرة آنذاك للظفر بهذا الحق الشرعي و المتعطشة لأخذ نصيبها المعرفي منه سواء بسواء . و سوف تتقلص فضلا عن كل هذا الحقول المعرفية الواجب أخذ العلم منها ، في المشهد الثقافي الاسلامي العام. ستساهم عوامل عديدة ، نترك الحديث عنها لاحقا، جعلت الامر التكليفي الاول في الاسلام يتجرد مبكرا و يفرغ "شرعا" و "فقها"من عنصر إلزاميته و عموميته ، لتوضع له اضافة لكل ذلك حدودا معرفية لا يجوز له دينيا تجاوزها و النهل من خارجها ، جرى كل هذا عكس ما أرادته له السنة النبوية الشريفة تماماً . هكذا يمكن اعتبار السؤال الذي طرح يوما على الامام مالك المتوفى خلال القرن الثاني الهجري ، عما اذا كان طلب العلم أفرض أم لا ، اول تساؤل شرعي سيميط اللثام عن المكانة الحقيقية التي أضحى واجب التعليم يتبوؤها في سلم الأولويات الدينية حتى ذلك الحين ، و التي ستحدد فيما بعد والى الأبد مصيره المحتوم في الثقافة الفقهية الاسلامية . الواقع أن الامام مالك ، بالرغم كونه أقرب الأئمة لعهد النبوة و أحد كبار وارثي علم عمل أهل المدينة ، كان قد اقتصر عند حديثه في كتابه الموطأ ، باب ما جاء في طلب العلم ، عن تلك الوصية " العامة "التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه بمجالسة العلماء و مزاحمتهم بركبتيه ، لكنه عند جوابه عن التساؤل أعلاه أصر ، بالرغم من كل الروايات أعلاه ، على أنه غير واجب على الجميع قائلا هكذا بالحرف : أما على كل الناس فلا . موقف الامام مالك هذا جرى التقاطه و تأصيله من طرف تلميذه الامام الشافعي ، مؤسس وواضع علم أصول الفقه، فلقد تبناه كلية في مؤلفه الرسالة معتبرا طلب العلم مجرد "فرض عين كفائي" يجب أن يظل في حدود ما يتعين على العامة معرفته من الدين بالضرورة الصلوات الخمس و الصوم و الزكاة و المحرمات الدينية من زنا وسرقة و غير ، دون الخوض في تفاصيل ذلك حيث كلف الله بها الخاصة الذين إن قاموا بها سقطت عن الباقي و هم العامة . و حتى يبرر شرعا وجهة نظره الفقهية التي ميزت بكل وضوح و لأول مرة بين موقع طبقة الخاصة و طبقة العامة من الامتثال لفريضة طلب العلم ، استند الامام الشافعي على الأصل الرابع من أصول الفقه و هو القياس ، يقول مجيبا عن تساؤل محاوره حول الحجة التي اتكأ عليها في جعل جانب محدود جداً من العلم هو الذي يسمح للعامة بتحصيله : هذه درجة من العلم ليس تبلغها العامة ، ولم يكلفها كل الخاصة ....وإذا قام بها من خاصتهم من فيه الكفاية لم يحرج غيره ممن تركها ....فقال : أوجدني هذا خبرا أو شيئا في معناه ليكون قياسا عليه ؟ فقلت له : فرض الله الجهاد في كتابه و على لسان نبيه ، ثم أكد النفير من الجهاد ....فاحتملت ( أي آيات الجهاد) ان يكون الجهاد كله و النفير خاصة منه على كل مطيق له لا يسع أحد منهم التخلف عنه ، ...و احتملت أن يكون معنى فرضها غير معنى فرض الصلوات ، وذلك أن يكون قصد بالفرض فيها قصد الكفاية ، فيكون من قام بالكفاية في جهاد من جوهد من المشركين مدركا تأدية الفرض و نافلة الفضل و مخرجا من تخلف المأثم ...غير أن الله لم يسو بينهما . نحن هنا امام نصوص فقهية و تاريخية بالغة الدلالة أنهت الى غير رجعة السمة الإجبارية العامة التي ورد بها طلب العلم في الخطاب القراني . لقد ميزت في تحصيله بين خاصة المجتمع و عامتهم و ذلك بجعله كفائيا مندوبا اليه فقط و في حدود معرفية معينة ، في حق الطبقة الاخيرة . الواقع أن هذا التأصيل الفقهي لفريضة طلب العلم الصادر من الامام الشافعي ،صاحب أول محاولة في العالم استهدفت انشاء علم للقانون كما وصفه بذلك أحد الباحثين المعاصرين ، يعود أساسا لعاملين اثنين : الاول : انتماء الامام الشافعي و قبله بقليل الامام مالك الى مجتمع العصر العباسي الاول الذي أصبحت تعلوه مبكرا بنية و هرم اجتماعي جديد لم يكن للصدر الاول للإسلام عهد به ، اذ أخذت تتشكل خلاله أولى طلائع الطبقية الاجتماعية ، تتكون من فئة الخاصة و هم العلماء و الفقهاء و رؤساء القبائل و كبار التجار ، و فئة العامة وهم بقية المجتمع من حرفيين و مزارعين و صغار التجار ، فكان لا بد من إنزال الناس منازلهم كأحد مظاهر العدل في تلك العصور بل كان هو العدل نفسه في ضمير و وعي الثقافة السائدة آنذاك كما لاحظ المرحوم الدكتور الجابري ، لهذا كان التعليم المتقدم مقصوراً على الخاصة بفضل يسرها المادي و إمكانية تفرغها له و ذلك بعكس طبقة العامة المنشغلة بتدبير القوت اليومي . الثاني : ترادف مصطلحي العلم و الفقه بالأحكام الشرعية في الثقافة الاسلامية السائدة آنذاك ، ذلك أنه و أمام فراغ شبه الجزيرة العربية من علوم عقلية بحتة و ممنهجة عند نزول الرسالة على اعتبار أن الملة في أولها لم يكن فيها علم و لا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة و البداوة كما وصف ابن خلدون ، فقد نشأت العلوم العربية الاولى لتكون فقط خادمة للنص الديني و متمحورة حوله ، فالقراءات و التفسير و النحو و البلاغة و علم الكلام و الفقه و أصوله ...كلها علوم ولدت أساسا لفهم النص القراني و الفقه فيه ، فأضحى بذلك العلم بالأحكام الشرعية هو المدلول الرئيسي للعلم عندما يقع الحديث عن العلماء ، يلاحظ أن هذه الرؤية لازالت الى حد ما مستمرة حتى اليوم . أما باقي العلوم الاخرى كالفلسفة و المنطق و الرياضيات و غيرها من العلوم العقلية المحضة القائمة على الملاحظة و التجربة و التي بدأت ترجمتها أثناء خلافة المأمون العباسي ، فقد أطلقت عليها أسماء مميزة لم تكن تخلو من دلالة مثل علوم الأعاجم في مقابل علوم العرب ، أو علوم الأوائل في مقابل علوم الدين ، أو العلوم العقلية في مقابل العلوم النقلية التي تعتمد أساسا على الرواية و السماع ، كما أنها اعتبرت دخيلة على الحياة العقلية و الفكرية الاولى لذلك صاحبتها منذ بداية رواجها تلك النظرة التشكيكية لفقهاء الشريعة . يقول السيوطي مبررا رفض الأصوليين الأوائل للفكر اليوناني بوجه عام و على رأسهم الامام الشافعي الذي يعد اول من ذم علم المنطق : "فمن أراد الجمع بين علم الأنبياء و علم الفلاسفة بذكائه فلابد ان يخالف هؤلاء و هؤلاء ، ومن كف و مشى خلف ما جاء به الرسل ، ولم يتحذلق و لا عمق ...فقد سلك طريق السلف الصالح ، و سلم له دينه و دنياه." هذا و سيعمق الامام الغزالي فيما بعد استهجان علماء الشريعة و الدين لدراسة علوم الأوائل ، فرغم اعترافه المبدئي بكونها علوما لا يستغنى عنها في قوام أمور الدنيا كالطب اذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان ، و كالحساب فانه ضروري في المعاملات و قسمة الوصايا و المواريث و غيرهما ، فقد اعتبرها من وجهة دينية صرفة ، علوما لا يحث الشرع عليها و لا يندب اليها ، كالحساب و الهندسة و النجوم و أمثالها ، اذ هي بين ظنون كاذبة و علوم صادقة لا منفعة لها ، ليبقى اشرف العلوم هو علم الفقه و أصوله . هكذا و بفعل هذه النظرة الوصاية الكفائية من جهة ، و الطبقية الضيقة من جهة أخرى ،الصادرة عبر التاريخ عن معظم فقهاء الشريعة و الدين ل "فريضة " العلم في الاسلام ، لم يرق هاجسه المجتمعي يوما في ظل الثقافة الاسلامية السائدة الى واجب مجتمعي و لا الى عمل تفرضه السلطة قسرا كما لمح لذلك الرسول الكريم ص ، صحيح انه اكتسب الى حد ما دائماً اجباريته من الرأي العام الذي فرضه كواجب ديني و أخلاقي ، لكن هذه الإجبارية كانت في حدودها الدنيا ، سواء من جهة طالبيه او من جهة مضمونه المعرفي .