.1. لم يدر بخلد الأصمعي يوما أنه سيصبح موضوعا لحكايات طريفة وهو يتنقل عبر البوادي مدوّنا عادات الأعراب وجامعا لأخبارهم. ولعل أشهرها تلك التي لم تحدث فعلا، بل ابتدعتها مخيلة خلاقة لغاية في نفس يعقوب. وجوهر الحكاية أن الخليفة أبو جعفر المنصور كان يحفظ الشعر، وبمقدوره حفظ قصيدة وترديدها بعد سماعها مرة واحدة. بل إن جارية له تستطيع فعل ذلك بعد سماعها مرتين. حيلة جعلت الشعراء يصابون بالخيبة وهم يلقون قصائدهم الجديدة في حضرة المنصور الذي يدعي أنه سمعها من قبل فينشدها كاملة، وكذلك تفعل جاريته. ولأن أرزاق الشعراء قُطعت بفعل نزوة كهاته، فقد وجدت العامة في الأصمعي الملاذ. تقول الحكاية: تنكر الأصمعي في لباس أعرابي وقصد البلاط، فدخل على أمير المؤمنين وأخبره برغبته في قراءة قصيدة لم يسمع بها من قبل، وأنشده القصيدة التي عُرفت بصوت صفير البلبل. ولما أنهى الأصمعي مهمته صُدم الخليفة لأنه لم يستطع فهم القصيدة الغريبة وحفظها، ولا جاريته استطاعت أيضا. حينها لم يجد أبو جعفر المنصور بدا من وفاءه بوعده، فقد وعد من قبل أي شاعر يأتي بقصيدة جديدة أن يحصل على ما يعادل وزنها ذهبا؛ أي ما يعادل وزن ما كُتبت عليه ذهبا. وقد أخبر الشاعرُ الخليفة أنه كتب قصيدته على عمود رخام لا يحمله إلا عشرة من الجند. فأمر الخليفة بإحضار العمود. لكن الوزير اعترض على ذلك منبها المنصور إلى أن الأعرابي المتنكر لم يكن سوى الأصمعي ذائع الصيت. ولما أماط الأصمعي اللثام عن وجهه دار بينه وبين الخليفة حوار قصير وشيق أورده فاضل الربيعي في كتابه" في ثياب الأعرابي" الذي أصدرته المجلة العربية في شهر أبريل 2012. [ قال الخليفة: أتفعل ذلك بأمير المؤمنين؟ فقال الأصمعي: يا أمير المؤمنين، قد قطعت رزق الشعراء بفعلك هذا، ولم أجد مفرا مما فعلت. وعندئد قال الخليفة: أعد المال؟ فقال الأصمعي، أعيده بشرط أن تعطي الشعراء أرزاقهم. وهكذا وافق الخليفة أن يواصل إعطاء الشعراء أعطياتهم والاستماع إلى قصائدهم.] يؤكد فاضل الربيعي على أن هذه الحكاية ملفّقة كان الهدف منها السخرية من علاقة البلاط بالشعر، وأن رواة من العصر العباسي اختلقوها فأخطأوا في صلة الأصمعي بالمنصور الذي توفي والأصمعي لم يبلغ الشباب بعد. وللحكاية وجه آخر خاصة في حوارها الأخير. فالخليفة طلب من الأصمعي أن يرد المال قبل أن يذهب الجنود في طلب عمود الرخام، والأصمعي وعد برده وهو لم يستلم بعد ولا درهما واحدا. ذلك أن الخليفة لم يمنح غير وعدٍ بالمال، والأصمعي لم يقبض غير ذلك. يومها كان الوعد يزن عمود الرخام ذهبا، وكان وعد الحر دين عليه، وكان الأصمعي حرا والخليفة حرا. .2. تفتح نوادرالأصمعي نافذة مهمة لفهم جزء من ثقافة البدو في العصر العباسي. يتضح ذلك من خلال علاقة الأعراب بالمرأة والدين. يلاحظ فاضل الربيعي أن مرويات الأصمعي تقدم تصورا مغايرا عن مجتمع البدو كمجتمع محافظ ذكوري يميز بين النساء والرجال. ويدلل على ذلك بما رواه الأصمعي عن لقاء جمعه بامرأة غنية اشتهرت بحبها لشاب من قبيلة أخرى، ولم تكن تتحرج من إنشاد القصائد في حبه. بل قضّى الأصمعي ليلة في بيتها تبكي وهي تحدثه عن عشقها، وتنشده بعضا من شِعرها. ولم يحك عنها أكثر من ذلك، ولا يذكرها إلا بالخير حين يخاطبها:[إني أريد أن أسائلك عن أمر وأنا أهابك لما أعلم من عفتك وفضل دينك وشرفك، فتبسمت ثم قالت..]. وأنا أقرأ قبل سنوات سيرة مسلم بن عقيل من أجل كتابة قصيدة عنه أهديتها فيما بعد للشاعر العراقي ابن الكوفة عدنان الصائغ، شدّ انتباهي هروبه بين أزقة الكوفة ولجوؤه إلى بيت امرأة وحدها قبلت أن تخبئه في بيتها بعد أن انفض عنه الرجال وكانوا ثلاثين ألفا. بعد ثلاثة أيام سيُفتضح سره لا سرها، ويُقتاد إلى حتفه. ولم أقرأ في سيرته أن المرأة اتهمت بالفساد وإعداد بيت للدعارة أو الاختلاء برجل غريب حيث الشيطان يطل دوما من الباب. ويبدو من الحكاية، والله أعلم، أن نمطا من التفسير الديني لم يدخل سماء الأعراب بعد. وفي مرويات أُخر نصادف أعرابا، رجالا ونساء، يقيمون الصلاة بطرق خاطئة، ولا يذكرون من القرآن الكثير، ويزوّرون الآيات عن غير عمد، ويخلطون بين الأحاديث والقرآن، ويدعون الله في الصلاة والحج بأدعية طريفة وغريبة. وبحسب فاضل الربيعي دائما فهذه المرويات تكشف عن[درجة التسامح في هذا المجتمع، وعمق حكمته الفطرية]، وأن[ رسالة الإسلام وتعاليمه ظلت حاضرة بقوة، جنبا إلى جنب معتقدات وتصورات وطقوس سابقة على الإسلام.]. والحقيقة أيضا ان الإسلام بعد نصف قرن وقرن من الزمان لم يدخل ديار الأعراب كاملا، إما لأن ثقافتهم ودرجة مقاومتها كانت أقوى من كل الدعاة، وإما لأن السياسة حظيت بالنصيب الأوفر من اهتمام دولة الخلافة، هناك في العواصم حيث الصراع على الحكم، ومكائد القصور، والاقتتال الدموي بين السلاطين، والفقهاء بدينهم يصطفون في فرق ناجية. والسؤال منذ أربعمائة عام وألف مايزال: أيهما أسبق، السياسة أم الدين يا أصمعي؟ السياسة أم الدين؟