محمد مستقيم . لا أحد يجادل اليوم في الدور الخطير الذي تلعبه وسائل الإعلام الحديثة، ليس فقط في تشكيل الرأي العام بل في تشكيل تمثلات وتصورات الناس وتوجيه رؤاهم للعالم وما يجري فيه من وقائع وأحداث. ونشير إلى الكثير من الدراسات التي أنجزتها مؤسسات غربية حول هذا الموضوع أبرزها تلك التي قامت بها شعبة الإعلام بجامعة ماساتشوستس في الولاياتالمتحدة سنة 1991 خلال حرب الخليج الثانية لمعرفة تأثير التغطية الإعلامية لقنوات التلفزيون الأمريكي على مستوى معرفة المشاهدين الأمريكيين بحقائق وخلفيات تلك الحرب وكانت النتيجة مثيرة حقا: كلما قضى المشاهد وقتا أطول في مشاهدة الحرب على شاشة التلفاز كلما نقصت معرفته بحقائق الصراع وجغرافيته و الفاعلين الرئيسيين فيه. المعادلة واضحة إذن: مشاهدة أكثر = معرفة أقل. نخصص هذا المقال لكيفية تحكم وسائل الإعلام في تشكيل صورة الغير لدى الأوربيين خاصة صورة العرب والمسلمين، وكذلك تحكم الخبراء في رؤية الإنسان الغربي لسائر بلدان العالم، وذلك من خلال كتاب: "تغطية الإسلام، كيف تتحكم وسائل الإعلام الغربي في تشكيل إدراك الآخرين وفهمهم" للراحل المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد (1935-2003)، والذي صدرت طبعته العربية عن دار الآداب ببيروت وهو الكتاب الثالث من سلسلة كتب يعالج فيها سعيد العلاقة الحديثة بين عالم الإسلام والعرب من جهة، والغرب من جهة أخرى خاصة فرنسا وبريطانيا والولاياتالمتحدةالأمريكية. وذلك بعد كتاب "الاستشراق " وكتاب "المسألة الفلسطينية" يرى إدوارد سعيد في مقدمة الكتاب بأن الموضوع الذي يعالجه هو الاستجابات الغربية لعالم إسلامي أصبح مهما مع مطلع السبعينات من القرن الماضي (ثروة النفط)، لكنه عالم مضطرب وغارق في المشاكل التي أصبحت مصدرا للعداء. إن نظرة الغرب هاته تحكمها العناصر التالية: 1- النقص في توريدات النفط والتضخم والأسعار. 2- عودة الإسلام بعد الثورة الخمينية في إيران. 3- انبعاث القومية الراديكالية في العالم الإسلامي. بالإضافة إلى أحداث أخرى مرتبطة بهذا الوضع، وهي الحرب الإيرانية العراقية، والتدخل السوفيتي في أفغانستان، وانتشار القوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي. هذه العناصر كافية لتوجه وسائل الإعلام نحو تغطية الإسلام عن طريق العرض والتصوير وتحديد خصائصه وتحليله والنتيجة أنها جعلت الإسلام معروفا عند الجميع. إن التغطية الإعلامية للإسلام حسب إدوارد سعيد مليئة بالمغالطات وبعيدة عن الموضوعية حيث يتم تصوير الإسلام كدين يتميز بالعصبية العرقية والكراهية الثقافية والجنسية، في حين تحضى المسيحية واليهودية باحترام كبير بل بالانتعاش. ثم يشير إلى نقطة مهمة جدا تتعلق بالصحفيين الذين يقومون بهذه التغطيات فمنهم لايعرف حتى لغة البلد الذي يذهب إليه من أجل القيام بمهمته فمثلا خلال أزمة الرهائن الأمريكية في إيران تم إرسال مايقارب ثلاثمائة مراسل دون أن يكون من بينهم من يتكلم اللغة الفارسية.الشيء الذي يجعلهم يكتبون تقارير شبه جاهزة وأحيانا سطحية لاتعدو أن تكون مجرد كليشهات شكلية ومعدة من قبل. صحيح أن جماعات وتنظيمات إسلامية قامت بتبني الكثير من الانفجارات والاختطافات والاغتيالات التي استهدفت خصوصا مصالح الدول الغربية ومواطنيها. لكن الواضح أن التغطية الإعلامية تجعل من الإسلام دينا متهما ومدانا من دون الحاجة إلى حجج مدعمة. ومن مظاهر الخلط والتغطية غير الموضوعية هو الحديث عن الأصولية وربطها بالإسلام كأنه هو الدين الوحيد الذي أنتج الظاهرة الأصولية، فلماذا يتم تجاهل الأصوليات اليهودية والمسيحية والهندوسية؟ لقد أصبحت وسائل الإعلام تختزل الإسلام في الأصولية وتضع هذه الأخيرة بمثابة العدو الأول الذي ينبغي محاربته بعناوين تحريضية بكبريات الصحف الغربيةوالأمريكية خاصة، كما كان الأمر من قبل مع الشيوعية أثناء الحرب الباردة، فخطر الإسلام أصبح بديلا عن الخطر الأحمر. لكن ماينساه الكثير من صناع القرار في نقاشاتهم هو أن المجموعات الإسلامية المتهمة بالإرهاب والعنف تنتمي إلى دول حليفة للولايات الأمريكية من السعودية إلى ماليزيا وأندونيسيا مرورا بباكستان ومصر والمغرب والأردن وتركيا، فالحركات الإسلامية ظهرت في هذه البلدان المدعومة من طرف الولاياتالمتحدة. إن هذه التغطية السلبية تسعى من بين ماتسعى إليه: - التغطية على جرائم إسرائيل ودعم أمريكا لها واعتبارها ضحية العنف الإسلامي. - إخفاء الحقيقة التاريخية حول هجرة يهود أوربا إلى فلسطين وتدمير أرض العرب وسلب ممتلكاتهم وتهجر أغلبيتهم. - إخفاء مايفعله الغرب الذي يسلط الضوء على مايسميه ماهية المسلمين والعرب المعيبة من دون تمييز فالعرب والمسلمون شيء واحد ويمكن مهاجمة أحدهما كأنه الآخر. -رسم صورة للمسلم على أنه إرهابي، عنيف، مسلح، ملتح، متعصب ومصمم على تحطيم أمريكا.ومن هنا فهو جدير بالقتل. وعموما فإن تصوير الإسلام بهذه الطريقة لاينم عن رغبة حقيقية في الفهم ولا عن إرادة في سماع وجهة نظر المسلمين بهدف الاستهلاك العمومي للمعلومات عن الإنسان العربي وتشكيل صورة مشوهة تؤدي إلى العداوة والكراهية. لكن سعيد يشير إلى بعض المفكرين الغربيين الذين تصدوا لهذه الدعاية المغرضة وحاولوا تحليل الإسلام بطريقة موضوعية بعيدا عن الأهداف الإيديولوجية ، ويذكر من بينهم نوعام تشومسكي وأبحاثه التي تتميز بالجدية والموضوعية في البحث والتقصي. في الفصل الأخير المعنون ب :"المعرفة والقوة" يشير سعيد على أن "وسائل الإعلام تستطيع أن تقول ماتشاء عن الإسلام لأنها تستطيع ذلك" لأن الاهتمام الأوربي بالثقافات الأخرى جاء نتيجة لظروف تجارية واستعمارية تميزت بالتوسع العسكري والغزو الإمبراطوري . ومن هذا المنطلق فإن المعرفة في هذا المجال لاتحصل إلا في ظل القوة المسيطرة والغاشمة على الثقافة المستهدف معرفتها. وكنموذج على ذلك العلاقة الوثيقة بين الانتربولوجيا والامبريالية وهذا ما انتبه إليه كلود ليفي ستروس عندما عبر عن قلقه من كون الامبريالية هي إحدى العناصر المكونة للدراسات العرقية الميدانية.فالأمر يتعلق حسب سعيد بشبكة كبرى مكونة من خبراء وحكوميين ورجال الأعمال وأساتذة جامعيين تلعب دورا كبيرا في توجيه البحث في مجال الثقافات الأخرى وعلى الباحث الشاب أن يعتمد على هذه الشبكة للحصول على دعم أو منحة للقيام بأبحاثه. كما أن الخبراء المختصون بالإسلام والذين يقومون بدراسات هائلة عن الثقافة العربية الإسلامية من جميع النواحي يتم تحييدهم حتى لاينافسوا النماذج التي تنشرها وسائل الإعلام والاستمرار في إخفاء الحقيقة حول تلك المجتمعات وبهذا يتم التعامل معهم كرموز اجتماعية تضفي المزيد من الشرعية على السلطات القائمة. وخلاصة القول فإن هذه التغطية التي تهدف إلى وضع الإسلام في تعارض جذري مع الغرب تخدم أغراضا لاعلاقة لها بالمعرفة الحقة.لكن هذه التغطية لاتصمد كثيرا أمام بعض العقول الحرة التي اكتشفت أصل اللعبة واعتبرت معرفة الإسلام تخضع لاهتمامات سياسية فورية. و يؤكد إدوارد سعيد بأن الوقت قد حان لتفكيك هذه المنظومة التي تسعى إلى معرفة الإسلام وتاريخه في ارتباط وثيق مع الغزو والهيمنة وتحقيق المصالح الخاصة بالدول المتقدمة، فالعقل إما أن يوضع في خدمة السلطة أو في خدمة النقد والمجتمع والحس الأخلاقي.