تعتبر جرادة من أهم المدن التي تشهد حركة احتجاجية اجتماعية متواصلة طول السنة فالطابع العمالي للمدينة خلف مشاكل تمثلت في مطالب المعطلين أبناء العمال الذين وجدوا أنفسهم أمام مستقبل مظلم في مدينة أغلقت فيها جميع منافذ العمل والعيش ، إلا ما جعل البعض يغرق في أبار الموت القاتلة . التي بين الفينة والأخرى تذهب بأرواح شباب مما يخلق فورة داخل المدينة من غضب يحرك هواجس الاحتجاج على الواقع المأسوي الذي عليه المدينة . وستستمر أبار الموت بركانا خامدا يرقد على مفاجآت قد لا يستطيع احد التنبؤ بمدى حممها ... ومطالب مرضى السيليكوز والأرامل وذوي الحقوق الذين لم يحصلوا على حقوقهم الصحية والاجتماعية ، والتقنيون وعمال البلدية وباقي الفئات الاجتماعية الأخرى ... والتي حتما ستنزل مضطرة إلى الشارع للجهر بمطالبها وحقوقها ... ولا يظهر أن هناك استعدادا للجهات المسؤولة لإيجاد حلول واقعية لهذه المشاكل مما يجعلها متقدة بل تزيد اشتعالا وفورة حيث ينظر إلى هذه المشاكل من منظار ذاتي أو سياسي يقف حجر عثرة أمام حلها وفي غياب دور محوري فاعل مبني على أساس إيجاد الحلول في إطار ما هو قانوني فاستمرار المشاكل تأسست عنه لدى الرأي العام نظرة سلبية عن غياب رغبة حقيقية لحلها من طرف القائمين على السلطة بالإقليم . زيارة جلالة الملك محمد السادس إلى مدينة جرادة في إطار انطلاقة جديدة للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية كانت إشارة ضمنية عميقة في مدينة تشهد تهميشا كبيرا ، ما غذى التفاؤل لدى الفئات المهمشة في أن يتحسن الوضع العام للمدينة وعلى الخصوص حاسي بلال التي انتفض أبناؤها سابقا من خلال عرائض التنديد بهذا التهميش الممنهج من جميع الأطراف وعلى رأسها من جعل حاسي بلال مجرد حي ، وهي البلدة التي تتعدد أحياؤها بعدد مدن المغرب كما أراد ذلك المستعمر لضبط التحكم في المدينة وسكانها . ومن خلال ما قرأه وزير الداخلية حول " احداث وحدة صحية " وما لهذه الكلمة من معنى يبدو ان هناك جهات تريد الالتفاف على هذا المطلب الذي كان نقطة مركزية في احتجاجات مرضى السيليكوز وتحويره إلى وحدة لمعالجة المدمنين !!! وهو الأمر الذي سيبقي على مطالب الاحتجاج وجعلها قائمة باستمرار . والغريب حينما يكون هناك تحد من جهات معلومة لأمر أشرفت عليه أعلى سلطة في البلاد حيث وقع انحراف إعلامي مناقض لما جاء في كلام وزير الداخلية الذي سمعه جميع الشعب المغربي . ولا يخفى دور أطراف محلية تريد أن تتنصل من المسؤولية القانونية والأخلاقية في ما يخص استمرار مرض السيليكوز بشكل أكثر فضاعة حيث يتم استغلال الفحم من غير الالتزام بالتشريعات والقوانين والحقوق . الخطير في الأمر ما تلجا إليه بعض الجهات من رمي مزيد الحطب في اتجاه تعميق المشاكل دون إيجاد حل لها فأصبحت المشاكل تتطور نحو اصطدامات دموية قد لا تعرف نتائجها ، فقد لوحظ توظيف واستقدام أشخاص ( أصبحوا يعرفون بالبلطجية ) في مناسبات عدة وبأشكال عدة في التشويش على أشكال الاحتجاج بالشارع أو المؤسسات ( البلدية ) يؤدون ادوار إدارية لا يخولها لهم القانون إلا في دولة الفوضى ومنتهكي القانون وممتهني الفساد توظف أموال دافعي الضرائب تحت مسمى الإنعاش الوطني في محاولة لكسر الحركة الاحتجاجية وإفراغ المطالب من محتواها . وهي محاولات غير مؤسسة على منطق عقلاني قانوني . قد لا تنتبه الدولة إلى مخاطرها المستقبلية ، والسؤال المطروح هل يندرج هذا في إطار تصور عام للمسؤولين مركزيا أم انه ابتداع محلي صرف لمواجهة الاحتجاجات بهذا الشكل !!! ما شهدته ساحة المارشي يوم 17 يوليوز من تهديدات " البلاطجة " تحت انظار رجال الامن ينذر بان النار تقترب من الهشيم والتي ان اشتعلت فمن له القدرة على اطفائها ... ويتساءل مراقبون هل سيسلم الشارع المغربي الذي سيتحول إلى ساحة حرب غير مضمونة العواقب ، فالبلطجية الذين لا يخفون سن سيوفهم للمواجهة قد تشعل النار التي لن يسلم منها الاخضر واليابس ، ولن يكون بوسع أي احد وقف ما يقع سيدفع بالمغرب إلى الهاوية فلا يستبعد المراقبون أن تعاد معركة البلطجة التي شهدها ميدان التحرير في العديد من الشوارع المغربية بإخراج مغربي سيدفع ثمنه أبناء الوطن لصالح جهات انتفاعية فاسدة تستعين بهذا التوظيف لمقاومة الإصلاح . تركة شركة مفاحم المغرب لم ير لها من اثر إلا ما استفاده المفسدون الذين نصبوا الشباك لهذه العائدات لتسقط في جيوبهم ، مما يؤكد أن منطق المحاسبة هو اكبر غائب في البلاد وان الفساد هو ركن أساسي في هيكلة الدولة سواء ما تعلق بالسياسي فالوصول إلى المجلس البلدي أو البرلمان لا يمكن ان يكون بدون اعتماد منهجبة الفساد ، ما يفسر المقاطعة الواسعة لهذه العملية السياسية من طرف الشعب المغربي ،فالأمر أصبح حالة نفسية مجتمعية نحو رفض التعامل مع الانتخابات ، من الصعب التخلص منها بمجرد إجراءات هامشية ما لم يكن هناك أشياء ملموسة لا تكرس التفاوت في المواطنة من خلال حماية البعض وجعلهم فوق القانون ، فالرشوة السياسية تفقد أي معنى للخدمة الوطنية الحقة فالمفسدون يجعلون من الانتخابات امتيازا لضمان مزيد من المنافع وليس الرغبة الحقيقية في خدمة الصالح العام ، وهو ما يظهر بشكل جلي على الواقع ، وما أنتجته الانتخابات من ثروة وامتيازات من خلال سرقة المال العام واستغلال ممتلكات الدولة وفي غياب الرقابة والمتابعة أصبحت العملية السياسية تدور في حلقة مفرغة تجتر نفس الأساليب ونفس الوجوه ( وجرادة ليست إلا وجها مصغرا للمغرب الوطن ) . فهل أي دولة دبمقراطية تقبل بعملية سياسية فاسدة نتائجها ستؤدي إلى السهر على شؤون البلاد وتجعل من المفسدين هم من سيتحكم في دواليبها .... المنطق يجعل المغاربة يرفضون هذه العملية ويقاطعونها لأنها اعتادت أن تنتج الفاسدين الذين يعبثون بنتائجها من خلال شراء الذمم واستغلال الفقر الضارب في العمق الفئات الاجتماعية الهشة من النساء والشيوخ والمعاقين ... ولا يختلف إثناء من أن النظام يتحمل المسؤولية ويغمض عيونه عن الفساد وهل يعقل أن النظام المغربي بجميع أجهزته الاستخباراتية والاستعلاماتية بعيدة عما يجري داخل المجتمع المغربي من أشكال الفساد الذي يضرب العملية السياسية وهي التي لا تغيب عنها صغيرة ولا كبيرة . إن لم تكن هناك مصالح غير مرئية لجميع اللوبيات المستفيدة بما فيها المرتبطة بالدولة !!!. الكثيرون يضعون أيديهم على قلوبهم وهم يشعرون بحجم هذا الفساد الذي يعرفه المغرب ، وهدر المال العام الذي يصرف بطرق ملتوية ، والتجربة مع تركة مفاحم المغرب تعطي المصداقية لهذا الإحساس . هناك تخوف من ألا يرى أي اثر للأموال التي خصصت للبلدة وان مصيرها هو نفس مصير ما سبق رغم الأصوات المبحوحة التي تجهر بها حركة 20 من فيراير لمحاربة الفساد بجميع اصنافه وهو ما يبرر وجود هذه الحركة في الشارع ويعطي المصداقية لاحتجاجها ويضمن لها التأييد الشعبي . فلا زالت الدولة لم تقدم أي إشارة ايجابية في الإجابة عن مطلب محاربة الفساد بالشكل الملموس ، وهنا يظهر الاستثناء المغربي الذي لا يوافق ثورة الربيع العربي ، حيث يتم الحديث عن الاستثناء المغربي في طبيعة الاحتجاج وتعامل الدولة معه ، لكن في المقابل لا ترى أي مبادرات فاعلة في وقف الفساد الذي يعاني منه الشعب المغربي ، فالإصلاح الدستوري وحده غير كاف لتلطيف فورة الاحتجاج ولا يكفي أن ينُصِِ الدستور على حقوق الإنسان ما لم تكن مجسدة على ارض الواقع . بينما يوجد من يقاوم الإصلاح ، لا يمكن تجاوز أشياء ضاغطة تقدم الوقود للاحتجاج ولا يزال المواطنون يشاهدون مفسدون يعبثون بالبلاد وينهبون ثرواتها . ولا تزال للمواطنين نظرة سوداوية عن الانتخابات التي تسعى وزارة الداخلية إلى إجرائها بشكل متسرع مما سيزيد من توسيع الشرخ المجتمعي وسيدعم منطق المقاطعة ، فمقاطعة الانتخابات التي أصبحت ثابتة ستزيد من رصيد المقاطعين ويرفع من سهم الأطراف المتطرفة والراديكالية وعليه لا بد من فرز في الفهم ... غياب التجاوب مع مطالب الشباب يقدم الاوكسين للوبيات الفساد وللتطرف والراديكالية ... ، فالشباب بالخصوص لا زال غير مستعد للانخراط في العملية السياسية من غير أي ضمانات وإشارات ، وهو غير معني بالتسويات التي تتم مع الأحزاب السياسية ومع شخصيات تمارس السياسة بالتهريج والمساومة ... وهو ما سيعيد الأمور إلى نقطة الصفر ، فالشباب يرى انه مقصى ومحاصر ومتهم ما سيزيد من حجم الاحتقان ، حيث ليس هناك تجاوب حقيقي مع مجموع الشعارات التي ترفعها وعلى رأسها محاربة الفساد . لأن المقاطعة التي كانت تتمثل من خلال الأرقام تبلورت إلى موقف سياسي من خلال مقاطعة الاستفتاء على الدستور أو على الأصح فالانتخابات لا تمثل حجما كبيرا داخل انتظارات الشياب حيث ينظر إليها كعملية التفافية عن مطالب الإصلاح . خصوصا وأنها خلقت تهافتا وحراكا عند الأحزاب حول منهجية تدبيرها وهو الحراك الذي لم تخلقه منهجية تدبير الاستفتاء على الدستور !!! فنفسها الأحزاب عادت إلى توجيه سهامها إلى وزارة الداخلية ، من خلال افتتاحيات جرائدها أو تصريحات أعضائها ، فقد تفنن كل من حامي الذين والشوباني عن العدالة والتنمية في الكشف عن عورة وزارة الداخلي, !!! ويا له من اكتشاف وإبداع !!! وهو ما لم يحصل أثناء عرض الدستور على الاستفتاء حيث لم يهمس احد ببنت شفة حول دور وزارة الداخلية في تدبير الاستفتاء وضمان نزاهته !!! في حين هدد بنكيران الالتحاق بحركة 20 فبراير إذا لم ترضخ وزارة الداخلية لمطلبه !!! فالوصول إلى كرسي رئيس الحكومة أسال لعاب الأحزاب المتهافتة !!! وأُريد أن يكون التهديد بالالتحاق ب 20 فبراير فزاعة يتم إرهاب النظام المغربي بها !!! ولم يفتأ بنكيران من قبل انتقادها ( أي 20 فبراير ) والتهوين من قوتها ... وستصبح بعض الإجراءات الإصلاحية عبثية من غير أي مفعول يترك أثرا واقعيا ومباشرا على الشباب الذي يقود معركة مطلبية سلمية . فالدولة لا تريد الحسم في تقديم إشارات لوقف الفساد ومنه السياسي الذي تتغذى منه اغلب الأحزاب ومنها حتى التقدمية التي أصبحت تلجأ إلى الأعيان والمفسدين !!! في مواجهة منافسيها فالأحزاب السياسية ( الاشتراكية والاسلاموية والليبرالية والبيئبة ...) أقفلت على نفسها داخل الانتفاعية والصراعات الهامشية والثنائية ولم تبلور أدوارها الفعلية كما تدعي حول مشروع مجتمعي يضمن التفاف شعبي حوله ، مما جعلها معزولة فاقدة للشرعية ينحصر دورها في التأثيث السياسي ، وتقديم صورة لهيكلة سياسية شكلية ومظهرية ... وتحويل ركائز الدولة ( الحكومة والبرلمان ) إلى هياكل بلا روح ... فشبابها هو الآخر انتفض عليها والتحق بالشارع يدعم مطالب 20 من فبراير ... غياب أي رد فعل ايجابي نحو مطالب الشباب وفي غياب فهم واقعي للاحتجاجات سيظل الشارع الملاذ الذي يحتضن الأصوات المرفوعة ، وستستمر مطالب 20 فبراير يتردد صداها في شوارع المغرب وأزقته وأحيائه الهامشية ... ما لم توجد النية الصادقة في الإصلاح ....